«سيد الخواتم» و«نارنيا»: ما لا نعرفه عن أفلامنا المفضلة
تعرف عموم الجمهور على عالمي «الأرض الوسطى» و«مملكة نارنيا» خلال العقد الأول من الألفية الثالثة. بداية مع صدور ثلاثية أفلام «سيد الخواتم» التي سرعان ما غدت إحدى أكثر سلاسل الأفلام نجاحاً نقدياً وجماهيرياًؤفي تاريخ السينما، بحصولها على 17 جائزة أوسكار واقتراب أرباحها في دور العرض حول العالم من الثلاثة مليارات دولار. وتحكي عن رحلة جماعة من الأبطال مختلفي الأجناس (بشر وجن وأقزام و…) تحت إشراف «غاندالف» الساحر، لتدمير خاتم سحري ملعون وإنقاذ الأرض الوسطى من شر مالكه الأصلي «ساورون» سيد الظلام وأتباعه.
ثم ثلاثية أفلام «سجلات نارنيا» التي حققت نجاحا شديد التواضع – مقارنة بسيد الخواتم – مثلته جائزة أوسكار وحيدة وإيرادات لم تبرح محيط المليار والنصف مليار دولار. وتبدأ الحبكة مع فيلم «الأسد، والساحرة، وخزانة الملابس» الذي يحكي انتقال أربعة أطفال هم «بيتر» و«سوزان» و«إدموند» و«لوسي»، عبر خزانة ملابس سحرية، إلى عالم نارنيا الذي يقاصي شتاء دائماً تحت لعنة من الساحرة البيضاء، حيث سيشهد الأطفال ويشاركون في ملحمة بطلها «أصلان» الأسد العظيم العائد لإنقاذ نارنيا بتضحية عظيمة.
اليوم، تحتل السلسلتان الأدبيتان – إلى جوار أعمال أخرى لمؤلف الأولى – مكانة مرموقة في قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في التاريخ. لكن ذلك ليس بفضل الأفلام وحدها. فهذان العالمان الخياليان أكثر أهمية وتعقيداً مما يبدو بمجرد المشاهدة. إنهما من درر الأدب المسيحي عامة والفانتازي منه خاصة، لكل منهما أيضاً تصور مختلف للإبداع يؤثر على توظيفها للرمزية والفلسفة المسيحية. مع الانتباه إلى أن ذلك ليس تحليلاً أو تنظيراً استنبطه الجمهور أو النقاد، بل هو قصد المؤلفين الرئيسي كما أعلنا والحقيقة المسلم به في الوسط الأكاديمي منذ صدور أغلب هذه الأعمال في الربع الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم، اللهم إلا خلاف يثيره رجال الدين والنقاد المسيحيون حول مدى هرطوقية عالم الأرض الوسطى في ظل الحضور الطاغي للسحرة والأساطير الوثنية فيها.
الصديقان والأسطورة المسيحية
ترجع البداية الحقيقية للقصة إلى العام 1926، حين التقى «جون رونالد رويل تولكين» (1882-1973) أستاذ اللغة الإنجليزية القديمة وعلم اللغة المقارن، بزميله «كليف ستيبلز لويس» (1898-1963) المحاضر والناقد الأدبي والكاتب البريطاني، داخل أروقة جامعة أوكسفورد حيث يعملان، لمناقشة تعديلات في المناهج الدراسية، لتبدأ إحدى أهم الصداقات في الأدب الحديث.
كانت الخطوط العريضة لحياة الكاتبين متشابهة إلى درجة كبيرة، من وفاة الأم في وقت مبكر إلى الاشتراك في الحرب العالمية الأولى ومآسيها. إلى جانب ذلك، جمعهما الافتتان بالأساطير النوردية (الإسكندنافية) وأدبيات القرون الوسطى، والاهتمام بالفانتازيا المسيحية، مع ضجر ونفور من عموم الإنتاج الأدبي المعاصر. وستدفعهما ندرة الأدب الأسطوري والفانتازي الموجه للكبار آنذاك – فهو النوع الذي يستهويهما – إلى إنشاء جماعة «إنكلينجس» (Inklings) الأدبية في الثلاثينيات، بالاشتراك مع نخبة من الأصدقاء الأدباء، بغرض قراءة ونقد مؤلفات الأعضاء التي ستصبح بعضها نواة لعالمي الأرض الوسطى ونارنيا كما نعرفهما اليوم.
لكن في وقت سابق على ذلك، لعب تولكين الكاثوليكي الملتزم دوراً هاماً في تشكيل رؤية لويس للأساطير القديمة عامة وللأسطورة والدين المسيحي أيضاً. نشأ لويس نشأة مسيحية تقليدية لكنه ألحد في سن مبكرة، وعززت تجربته الأليمة على الجبهة ذلك الموقف فترة من الزمن. إلا أن ميله إلى الربوبية عاد لينمو تدريجياً، لتظل الأسطورة المسيحية عقبة أخيرة في طريق إيمانه. أزالها تولكين في العام 1931، خلال نقاشات هادئة أقنع فيها لويس برؤيته الخاصة. حيث الأسطورة المسيحية – عند تولكين – هي «الأسطورة» في أكمل صورها، تتويج وتمام لكل الأساطير الوثنية السابقة التي ما أراد بها الإله إلا تهيئة البشر لقبول تلك الأسطورة الكاملة متى جاءت. وقد جاءت أخيراً مع المسيح، أسطورة مؤثرة وخلابة تنفذ إلى الروح كأي من الأساطير السابقة، لكنها تتفرد عن البقية بأنها وحدها «الأسطورة الحقيقية» التي وقعت بالفعل، إلى جانب ما في الإيمان بها من رفض صريح لاختزال الوجود في العالم المادي الضيق. وسرعان ما اقتنع لويس بتلك الرؤية، وعاد إلى المسيحية، وإن عاد بروتستانتيا هذه المرة.
المبدع المسيحي كصورة للإله
عند الإشارة إلى المساحة الكبيرة التي تشغلها الرمزية المسيحية في العالمين، يمكن للمتفرج/القارئ تمييز بعضها في عالم نارنيا بسهولة. لكن الوضع في ملحمة سيد الخواتم يختلف قليلا، إذ لن يجد صعوبة في استخلاص رمزيات مستقلة ومتسقة فحسب، بل قد يجد في بعض شخصيات العمل تعددية رمزية مربكة أيضاً. يرجع ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها الاختلاف بين نظرة تولكين ولويس لمساحة الإبداع والغاية منه في ضوء علاقة المسيحي بالإله والأسطورة المسيحية.
آمن كل من تولكين ولويس بأن الإنسان خلق على صورة الإله، وأبرز صفات الإله هي صفة الخلق التي يفتتح بها الكتاب المقدس، لذا فالإنسان – هذا المخلوق الساقط والمدنس – حين يخلق (يبدع) يكون في أقرب موضع من إلهه. من ذلك المنطلق، رأى تولكين أن على المبدع محاكاة الإله في الخلق، أي إنشاء عالم كامل متسق ذاتياً له قوانينه الخاصة. بينما لم تكن مسيحية الأدب عنده في محاكاة السردية المسيحية بما سيستلزم رمزية مباشرة تنتهي إلى وعظ كنسي، بل في اتساق العالم المخلوق مع الفكر والفلسفة المسيحية. أما لويس الذي كان يكتب بالأساس للأطفال، فتعلق بالأسطورة الحقيقية الوحيدة، تلك التي كتبها الإله ذاته. صحيح أن الإله قد خلق الإنسان على صورته، وأن الإنسان بالتالي خالق مثله، لكنه – على عكس الإله – لا يستطيع الخلق من العدم. الإنسان عند لويس لا ينشئ ولا يصنع، بل يبني عبر إعادة ترتيب للقطع التي خلقها الإله من قبل.
السيد المسيح بين العالمين
الآن يمكننا تفهم تباين الرمزية – إن جاز استعمال اللفظ في أعمال لويس – بين العالمين، ولنتاول أخيراً شخصية وملامح السيد المسيح كما ظهرت فيهما.
في سيد الخواتم، يبادر غاندالف بفرض نفسه على الأذهان، بتضحيته بنفسه لإنقاذ المجموعة ثم بعثه من الموت، مثلما جرى للمسيح. لكنه – على عكس المسيح – لم يمت طوعاً كما بدا متعجباً عند عودته إلى الحياة. كذلك نرى لمحة أخرى من المسيح في «فرودو باجنز»، الذي حمل الخاتم في رحلة منهكة ومهلكة لإنقاذ الأرض الوسطى، مثلما حمل المسيح الصليب لخلاص البشر. لكنه – على عكس المسيح – لم يفقد حياته، كما كان ليعجز عن أداء مهمته لو لم يكن تابعه المخلص «ساموايز جامجي» إلى جواره. حتى ساموايز نفسه يصلح مثالاً على التعددية الرمزية في عالم تولكين. فقد أحب ساموايز فرودو من كل قلبه وتحمل – طواعية – في سبيله كل الآلام والمشقة كي يعينه على الخلاص من الخاتم ولعنته، لم يتخل عنه لحظة حين أنكره وأغلظ إليه، بل صعد به الجبل في النهاية حتى الخلاص.
لدينا أيضاً «أراجورن» الملك، الذي يكاد تولكين يصفه في أول ذكر له بما جاء في سفر إشعياء وصفاً للمسيح، أن «لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع». لكنه ساعة الحاجة سيهبط إلى العالم السفلي، ويقود جيشه ويقيم ملكوته ليهزم سيد الظلام. حتى ذهب «رالف وود» – أستاذ اللاهوت والأدب بجامعة بايلور الأمريكية – في كتابه «الإنجيل برواية تولكين»، إلى أن سام يمثل المسيح محباً، في حين يمثل فرودو المسيح معذباً، ويمثل جاندالف المسيح مصلوباً، ويمثل أراجون المسيح ملكاً. هكذا يمكننا اعتبار مسيحية أدب تولكين هي نوع من بث الخصال والمثل المسيحية الجوهرية في ثنايا الحبكة، إلى جانب الاتساق – سالف الذكر – مع الفكر المسيحي.
بينما نجد في نارنيا التشابه الجلي بين أصلان الأسد وشخصية السيد المسيح. أصلان ملك الوحوش، خلق نارنيا من أغنية، وهو ابن الإمبراطور الذي يسكن وراء البحار ويحكم جميع العوالم. كذلك ضحى أصلان بنفسه طواعية فداء لإدموند، ثم قام من الموت ثانية ليخلص نارنيا من لعنة الساحرة البيضاء، في محاكاة صريحة لصلب المسيح فداء لآدم وذريته ثم قيامته مخلصا لهم من الخطيئة. ولا شك أن لويس طعم قصته – إلى جانب النوعية السابقة – ببعض الكنايات والرموز المتفرقة. مثل مشهد نفخ أصلان الروح في التماثيل الحجرية، الذي يذكرنا بحلول الروح القدس في تلاميذ المسيح. أو ارتداء الأطفال للأردية في الخزانة السحرية، التي تذكرنا بآية «تبتهج نفسي بالهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص» الواردة في سفر إشعياء