كريستيان بيل: العزف على آلة الجسد
تبدو كلمات منظر فن التمثيل لي ستراسبرغ مدخلًا ملائمًا للحديث عن إحدى أيقونات التمثيل في السينما الأمريكيه الآن، البريطاني كريستيان بيل، خاصة فيما يتعلق بقدرته المدهشة على التحول الجسدي خلال الأدوار المختلفة التي يؤديها معززًا صورته في مخيلة المشاهدين كحرباء بشرية قادرة على التلون والتحول إلى أي شخصية.
هذه التحولات الجسدية على براعتها ليست أكثر من الخطوة الأولى في خلق الشخصية التي يؤديها، إذ لا بد أن يتبعها سلسلة طويلة من التحولات الداخلية. في مسيرة بيل العديد من الشخصيات ذات التركيبات النفسية المعقدة التي أداها ببراعة شديدة والتي تشهد على أن قدرته على التحول الذهني والتلون النفسي لا تقل إدهاشًا عن قدرته على التحول الجسدي.
هناك ممثلون يرون أن التمثيل هو حفر في الذات، اكتشاف ما هو خفي في داخلك عبر الشخصيات التي تجسدها. وهناك فريق آخر من الممثلين يرون التمثيل نوعًا من الهروب من الذات عبر شخصية أخرى.
في أحد الحوارات الصحفية يقول بيل:
لذلك يبدو بيل أقرب إلى الفريق الثاني، كما تبدو هذه التحولات الجسدية مهمة جدًا لتكنيكه الأدائي. هذه التحولات الجسدية المتطرفة في أداءات بيل هي خطوته الأولى للانسلاخ عن ذاته وإخلاء الداخل لاستقبال الذات الجديدة، ذات الشخصية التي سيؤديها بحيث يصير الممثل نفسه خفيًا مع كل دور يؤديه.
من المثير جدًا في طبيعة الشخصيات التي يؤديها بيل وجود روابط حقيقية تربط بينها مثلما تربطها بشخصية بيل نفسه. فشخصية جيم التي أداها في فيلم «Empire Of The Sun»،الفتى اليتيم الذي تجبره الحرب أن يكبر باكرًا، تذكرنا بيتيم آخر هو بروس وين الذي يجبره مقتل والديه أن يكبر سريعًا لمواجهة عالم الجريمة والفساد في جوثام في ثلاثية «فارس الظلام The Dark Knight». تبدو أيضًا براعة بيل في إعادة تشكيل ملامحه الخارجية والتي يصفها بعض المعلقين بالهوس، ممتدة في هوس الشخصيات التي يؤديها بمظهرها الخارجي مثل شخصيتي باتريك بيتمان في فيلم «American Psycho»، وارفينج روزنثال في فيلم «American Hustle».
فيما تبقى من مساحة هذا المقال سنستعيد المحطات الأهم في مسيرة هذا المبدع وصولًا إلى هذه اللحظة التي ينافس فيه وبقوة للفوز بأوسكار أفضل ممثل رئيسي عن دوره في فيلم «Vice» للمخرج آدم مكاي في الحفل الذي سيبث ليلة الإثنين 25 فبراير الجاري.
Empire Of The Sun: بداية مثيرة لنجم واعد
لا بد أن المخرج الأمريكي ستيفن سبيلبرج قد رأى موهبة أصيلة في هذا الطفل الإنجليزي ذي الاثني عشر عامًا حين اختاره من بين 4000 طفل من أقرانه ليؤدي دور البطولة في فيلمه «Empire Of The Sun» الصادر عام 1987 والمقتبس عن رواية تحمل الاسم نفسه من تأليف جيمس غراهام بالارد، حيث نضال الصبي الانجليزي جيم/كرستيان بيل للبقاء وسط أهوال الحرب حين تجتاح اليابان الصين ضمن أحداث الحرب العالمية الثانية. مدح أداء بيل في الفيلم كواحد من أفضل الأداءات التي قدمها طفل في السينما.
American Psycho: نقطة فاصلة في مسيرة بيل
انقضى عقد التسعينيات بالنسبة لبيل في أداء أدوار ثانوية في عدد من الأفلام لم تضف كثيرًا لمسيرته. يمكننا فقط أن نتوقف أمام دور بديع ومنسي له في فيلم تود هاينز «Velvet Goldmine» والذي يؤدي فيه دور صحفي موسيقي مثلي الجنس في بريطانيا السبعينيات. يثبت هذا الدور مبكراً مقدرة بيل على الأداء الجسدي ليس عن طريق التحولات الشكلية بل عبر حركة الجسد، خطواته وإيماءاته.
ثم يأتي دور البطولة في فيلم ماري هارون «American Psycho» الصادر عام 2000، الفيلم الذي سيمثل نقطة فارقة في مسيرته كممثل، حيث يؤدي خلاله وببراعة هائلة شخصية باتريك بيتمان، شخصية ذات تعقيد نفسي واضح ومنغمسة في خيالات متطرفة عن الجنس والعنف. أعاد النجاح الجماهيري والنقدي للفيلم بيل إلى دائرة الأضواء من جديد كموهبة مهدرة وغير مستغلة.
The Machinist: بيل أيقونة التحول الجسدي
يؤدي بيل عام 2004 دوره الأكثر أيقونية في فيلم براد أندرسون «The Machinist» والذي شكل إلى حد بعيد الصورة الذهنية التي كونها المشاهدون عن بيل وقدراته المدهشة على التحول الجسدي حيث فقد 30 كجم من وزنه جعلته يبدو على الشاشة كهيكل عظمي. يؤدي بيل هنا شخصية عامل في مصنع يدعى ريزنيك تريفور. شخصية معذبة تحاول أن تفلت من كابوس صنعته لنفسها. يؤديها بيل بحساسية مدهشة على المستويين الجسدي والنفسي.
الثنائيات: التحليق نحو آفاق أبعد
يمكننا خلال العقدين الماضيين أن نلمح تعاون بيل المثمر مع ثلاثة من المخرجين، كونوا مع بيل ثنائيات أسهمت في دفع مسيرته التمثيلية إلى آفاق بعيدة.
كريستوفر نولان
لم يقدم نولان لبيل خلال تعاونهما معًا عبر ثلاثية «فارس الظلام» الكثير على صعيد إمكانات الأداء التمثيلي، لكن النجاح الكبير للثلاثية التي أعادت تعريف أفلام الأبطال الخارقين حلق به بعيدًا نحو جماهيرية كاسحة.
ربما نجد مساحة أرحب للأداء في فيلمها معًا «The Prestige» حيث يؤدي بيل دور توأم يعيش كلاهما حياة مزدوجة من أجل إبقاء حيلهما السحرية سرًا. هذه التضحية الكبيرة التي تنال من حياتهما الشخصية ومن جسدهما من أجل إنجاح عملهما في عروض السحر، تعطينا لمحة أيضًا عن طبيعة الممثل المؤدي للشخصيتين وتفانيه المتطرف من أجل إنجاح عمله.
ديفيد أو راسيل
هو واحد من أفضل مخرجي السينما الأمريكية حاليًا في فن إدارة الممثل. منح راسيل بيل في أول تعاون لهما معًا، أوسكارا مستحقًا، هو أوسكاره الوحيد حتى الآن، كأفضل ممثل مساعد عن فيلم الدراما والسيرة الذاتية «The Fighter» الصادر عام 2010، والذي يؤدي فيه شخصية ديكي الأخ الأكبر للملاكم المحترف ميكي وارد. ديك الملاكم السابق الذي يعاني إدمان المخدرات. أداء مدهش من بيل اكتسح عامها موسم الجوائز وصولًا للأوسكار.
بعد 3 أعوام وعبر تعاونهما الثاني في فيلم «American Hustle» يمنحه راسيل ترشيحًا أوسكاريا كأفضل ممثل رئيسي، وواحد من أفضل أداءات بيل عمومًا، ومثال آخر يثبت مقدرته على إعادة تشكيل جسده من أجل الشخصية المؤداه.
آدم مكاي
المخرج الذي يقودنا إلى اللحظة الآنية، حيث أحدث ترشيحات بيل للأوسكار كأفضل ممثل رئيسي عن أدائه لدور ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش فترة ولايته وواحد من العقول الشيطانية في السياسة الأمريكية.
الأدوار التي منحها مكاي لبيل دائمًا ما كشفت عن مساحات جديدة داخل أدائه. سبق أن منحه مكاي دورًا مختلفًا تمامًا في فيلمه «The Big Short» نال عنه أيضًا ترشيحًا لأوسكار أفضل ممثل مساعد.
هنا في فيلمه «Vice» وأمام دور كتبه مكاي من أجل بيل، نجد تحديًا أكبر فنحن أمام شخصية كانت حاضرة لوقت قريب في المشهد السياسي العالمي، تبتعد ملامحها كثيرًا عن ملامح بيل، ومع ذلك استطاع بيل عبر تفانيه المذهل أن يتحول تمامًا إلى تشيني، ليس فقط عبر زيادة الوزن بل عبر الاشتغال على الصوت وطريقة النطق ودراسة الأداء الحركي للشخصية. أداء عظيم يجعله أبرز المرشحين إلى جانب رامي مالك للفوز بأوسكار أفضل ممثل رئيسي.
البريطاني كريستيان بيل صاحب مسيرة باهرة تحتشد بأداءات عظيمة تجعله واحداً من أفضل ممثلي السينما الأمريكية الآن. مسيرة ما زلنا ننتظر منها الكثير.