الموقف الصيني من الحرب الإسرائيلية على غزة
إعداد: د. محمد مكرم بلعاوي
بدأت علاقات الصين الدبلوماسية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي سنة 1992، وكانت ترى بكين أن علاقاتها مع تل أبيب ستساعد في تحسين صورتها في الغرب، وتمكّنها من الحصول على التكنولوجيا العسكرية الغربية، حيث وصل التبادل التجاري بين الطرفين سنة 2022 إلى نحو 24.4 مليار دولار.
لكن ثبت للصين في محطات عدة، أنّ «إسرائيل» ليست منيعة تماماً أمام الضغط الأمريكي، فقد واجهت مصاعب عدة في تنفيذ بعض المشاريع المتعلقة بمبادرة «الحزام والطريق» في ميناء حيفا، وتمّ حرمانها من تشغيل منشأة سوريك لتحلية المياه لمدة 25 عاماً، لأنها تجاور قاعدة بالماخيم الجوية، حيث تتمركز القوات الأمريكية، وقرب مركز ناحال للأبحاث النووية، وتراجعت «إسرائيل» أيضاً عن صفقة أسلحة وقَّعتها مع الصين واضطرت لدفع تعويضات لها، وغيرها.
جاء السلوك الإسرائيلي من الحرب الروسية-الأوكرانية وتحالف الدول الغربية ضدّ موسكو ليعزّز القناعة لدى الصين أنّ «إسرائيل» متماهية مع المنظومة الأمريكية الغربية، وأن الحسابات الإسرائيلية قد تتغير، إذا ما قررت القوى الغربية اتخاذ خطوات عدائية أكبر ضدّ الصين، في ضوء أن الأمريكان يعلنون صراحة بأنّ بكين هي العدو التالي والأخطر عليهم.
من جهة أخرى، فإن مشاركة «إسرائيل» في مبادرة الممر الاقتصادي التي أعلن عنها بايدن على هامش قمة العشرين في نيودلهي في 9-10 سبتمبر/أيلول 2023، من الهند إلى الشرق الأوسط وصولاً إلى أوروبا عبر «إسرائيل»، واحتفاء نتنياهو بها، أعطى مؤشراً سلبياً، حيث ترى فيه الصين مشروعاً بديلاً عن مبادرة «الحزام والطريق» ويهدف لضربها.
وفي الوقت التي تسعى الصين إلى تعزيز الاستقرار في المنطقة لخدمة مشاريع «الحزام والطريق»، عبر مبادرات سياسية كان أبرزها إعلان السعودية وإيران استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، عقب مباحثات برعاية صينية في بكين، تعملُ الولايات المتحدة بالشراكة مع «إسرائيل»، على تهديد طهران وإبقاء جذوة الصراع بينها وبين دول المنطقة مشتعلة، وهو ما يناقض تحركات الصين، ويزعزع الاستقرار في المنطقة، ويُلحق الضرر بمشاريع الصين الاستراتيجية.
الموقف من «طوفان الأقصى» والعدوان على غزة
منذ الحرب الأوكرانية، زادت الصين من اهتمامها بالمنطقة وخصوصاً فلسطين، وتجلّى ذلك عقب المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في أكتوبر/تشرين الأول 2022، وما تبعه من القمم التي عقدها الرئيس الصيني في المنطقة الخليجية والعربية والتقارب الهادئ المتزايد مع حركة حماس ودعوتها لزيارة الصين، ومحاولة الصين الدخول على خط الوساطة بين حماس والسلطة الفلسطينية.
على الصعيد الداخلي، كانت هناك فئة قليلة من النخبة الصينية تُظهر حالة الإعجاب بالنموذج الإسرائيلي وتتعاطف معه باعتباره نموذجاً عصرياً متطوراً، لكنّ معركة «طوفان الأقصى» بدّدت هذه الأوهام وكشفت الطبيعة العنصرية الدموية للكيان الإسرائيلي، وأنّ الغرب الذي وضع القانون الدولي وفرضه على العالم، لا يلتزم به، ويستخدمه بشكل انتقائي، مما وحّد الموقف الشعبي والنخبوي الصيني الذي يرى «إسرائيل» دولة محتلة مُعطِّلة لحل الدولتين، ويدعم الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه. وكان من مظاهر ذلك حذف بعض المواقع الصينية اسم «إسرائيل» من الخريطة، ووضع اسم فلسطين مكانها.
جاءت معركة «طوفان الأقصى»، لتعزّز القناعة الصينية بأهمية المنطقة للاستراتيجية الصينية، وأهمية علاقتها بحركة حماس في الإطار الفلسطيني، وهو ما يتوافق مع الموقف الروسي، حليف الصين غير المعلن، من المنطقة والحركة، وقد شاهدنا تجليات هذا التوافق من خلال دعمٍ روسيٍ-صينيٍ دبلوماسيٍ لحركة حماس، ولو بشكل غير مباشر، ورفض تصنيفها بـ«الإرهاب».
وقد تجلى الموقف الصيني الرسمي في:
- دعوة جميع الأطراف لضبط النفس، ووقف إطلاق النار.
- التعبير عن الاستياء من مواصلة القصف الإسرائيلي لقطاع غزة، واستهداف المدنيين، والخشية من تضييع الحد الأدنى لاحترام الحياة وللقانون الدولي.
- التأكيد على الظلم التاريخي الذي وقع بحق الشعب الفلسطيني، وأنه لا يمكن أن يستمر؛ وأن الركود الطويل لعملية «السلام» لم يعد قابلاً للاستمرار.
- استخدام حقّ النقض (الفيتو) بالشراكة مع روسيا لإسقاط المقترح الأمريكي في إدانة حماس ووصفها بـ«الإرهاب».
قلق من التدخل الأمريكي الغربي
من ناحية أخرى، ينظر الصينيون بقلق إلى التحشيد العسكري الأمريكي الغربي الهجومي والدفاعي في المنطقة (بما في ذلك قدوم حاملات طائرات أمريكية)، ويرون أنه لا يتعلق فقط بدعم الاحتلال الإسرائيلي في حربه على غزة؛ بل في فرض هذا التحشيد نفسه على البيئة الإقليمية، بما يمنع أي قوة من التدخل لدعم المقاومة الفلسطينية؛ وربما أيضاً في استغلال الوضع لفرض الأجندات الغربية على المنطقة، بما في ذلك التحكم بمصادر الطاقة وأسعارها خصوصاً في ظلّ القيود الكبيرة التي فرضتها أمريكا وحلفاؤها على النفط الروسي، وهو ما قد يمثّل تهديداً مباشراً للاقتصاد الصيني، الذي يعتمد بشكل أساسي على الطاقة القادمة من الشرق الأوسط والنفط الخليجي؛ كما يُهدِّد مشاريع الصين وعلاقاتها الاقتصادية في المنطقة.
دعم فلسطين وفق حسابات دقيقة
من زاوية أخرى، ربما يكون من مصلحة الصين دعم المقاومة الفلسطينية، ولو سياسياً، وإدامة استنزاف الولايات المتحدة في المنطقة، كي تُخفّف من الضغط الغربي عن شرق آسيا، غير أن السياسة الصينية ما زالت تنأى بنفسها حتى الآن عن التدخل المباشر في الصراعات الإقليمية، وعن الدخول المباشر في صراع ذي أبعاد عسكرية مع القوى الغربية. وهو ما سيعني أن الصين ستتردد كثيراً في القيام بأي نشاط يتجاوز الحدود السياسية والإنسانية لدعم الشعب الفلسطيني، وإن اضطرت فسيكون في المدى القريب بشكل غير مباشر، وعن طريق أطراف وسيطة أو ثالثة كسوريا وإيران.
أمّا إذا طال الصراع وتضررت المصالح الصينية بشكل كبير، فربما تُراجع الصين سياساتها من أجل حماية مصالحها، بما في ذلك تعزيز وجودها العسكري ودعم حلفائها وأصدقائها في المنطقة.