المسجد الصيني في «ملاكا» الماليزية: رمز التعددية وانسجام الثقافات
من أول وهلة يرى فيها الزائر هذا المبنى يظنه معبداً بوذياً، نظراً لطرازه المعماري الصيني البارز، لكنه في الحقيقة مسجد إسلامي، بات محط اهتمام السياح المسلمين وغير المسلمين، ومركزاً دعوياً لاستقطاب المسلمين الجدد من الصينيين الماليزيين.
يقع هذا المسجد الصيني في مدينة «ملاكا» التاريخية الواقعة في جنوب غرب ماليزيا، والمُدرجة على قائمة التراث العالمي لمنظمة (اليونسكو)، لكونها واحدة من أهم المراكز السياحية والثقافية المتميزة بمبانيها التاريخية التي تعود إلى العصور الوسطى.
وتشير المصادر التاريخية إلى أن الصينيين استوطنوا ماليزيا بعدما أُرسلت أميرة من سلالة صينية إلى مملكة ملاكا الماليزية، لتتم مراسم عرسها على أحد سلاطين المملكة في القرن الرابع عشر، حيث كان مضيق ملاكا أو ملقا معبر العلاقات التجارية بين المملكة وإمبراطورية الصين.
وأثناء الاستعمار البريطاني لماليزيا استقطب المستعمرون أعداداً كبيرة من العمال الصينيين لأعمال البناء والنقل والصناعة، ومع مر السنين وجدت الجالية الصينية طريقها للتكيف والانسجام مع الماليزيين الأصليين، بالرغم من ارتباطهم القوي بثقافتهم وعاداتهم الأصلية في الصين، حتى أصبحوا تجاراً يمثلون أغلبية الأثرياء ورجال الأعمال في ماليزيا.
دمج العمارة الصينية في المساجد
التقينا في جولتنا السريعة بالمسجد الصيني في مدينة ملاكا التاريخية إمامه «حاجي حسنول ياب»، والذي أفاد بأن المسجد يرمز للتعددية العرقية في ماليزيا، ويهدف إلى إظهار الأعداد الكبيرة من مسلمي العرقية الصينية في البلاد، موضحاً أن عددهم في مدينة ملاكا يصل إلى 4 آلاف مسلم من أصول صينية.
وأفاد «حسنول ياب»، وهو ماليزي من أصول صينية، أن الغرض الرئيسي من تصميم المسجد حسب العمارة الصينية هو التأكيد على أن الإسلام لا يمنع من دمج أي ثقافة أو تراث لعرقية أو طائفة ما، طالما أنها لا تتعارض مع تعاليم الدين.
وحسب حسنول، تم مراعاة عدم إدخال ما هو مخالف للدين الإسلامي في العمارة الصينية التقليدية، مثل رسومات التنين ومجسمات الحيوانات والرموز القومية والقبلية، حيث اُستبدلت بالزخارف الإسلامية والآيات القرآنية.
والملاحظ أن تصميم المسجد ركز كثيراً على التناظر الثنائي في العمارة الصينية، لا سيما في التربيعات والتقويسات، مما يدل على التوازن، كما ركز على المناظر الطبيعية المحيطة بالمسجد، لا سيما زراعة الأشجار الوردية (الساكورا) على جوانب ساحات المسجد.
والمساجد في العمارة الصينية لا تعتمد على القباب أو رفع المنارات العالية، لذا فإن سقف هذا المسجد يقوم على الهياكل الخشبية، فيما تُبنى المنارات على شكل «الباغودا»، الذي كان يعتبر أحد أجزاء المعابد البوذية سابقاً، وبات لاحقاً يُعبِّر عن الحضارة المعمارية في منطقة شرق آسيا.
مسجد يضم مطعماً للمأكولات الصينية
المسجد الصيني في ولاية ملاكا الذي تم بناؤه على مساحة 2.5 هكتار، وبتكلفة 7.5 مليون رينجت ماليزي (1.7 مليون دولار أمريكي)، هو الثالث من نوعه في ماليزيا، فهناك مسجدان في ولايتي بيراك وكيلانتان على نفس الطراز الصيني.
ويستوعب المسجد 2000 مُصلٍّ، وتم تجهيزه بغرف ضيوف لكبار الشخصيات ومكاتب إدارية وقاعة اجتماعات ومكتبة دينية ومطعم يقدم المأكولات الصينية، بالإضافة إلى المرافق الرئيسية مثل دورات المياه وأماكن الوضوء ومواقف للسيارات.
وعندما اُفتتح المسجد لأول مرة عام 2014 تلقى ردود أفعال مختلفة من الزوار المحليين والأجانب الذين اعتقدوا في البداية أنه دار عبادة لغير المسلمين، لكن المسجد بات حالياً مزاراً سياحياً يقبل إليه الزوار ضمن جولتهم في مدينة ملاكا.
كما بات المسجد مركزاً مهماً لقبول المسلمين الجدد من الصينيين في مدينة ملاكا، حيث يشير إمام المسجد إلى أن هناك أعداداً من الصينيين الماليزيين وغيرهم يعتنقون الإسلام بشكل دوري، وتُنظَّم لهم مراسم خاصة لتلقين الشهادة داخل المسجد، فيما تولي ماليزيا اهتماماً كبيراً لتعليم وتدريب المسلمين الجدد من خلال برامج دينية تُقام في المساجد التابعة للهيئات الدينية الموزعة في الولايات الماليزية.
الأنشطة الاجتماعية هي مفتاح الدعوة
يُكثِّف المسلمون الصينيون في ماليزيا أنشطتهم الدعوية لاستقطاب مزيد من غير المسلمين الصينيين، لا سيما من خلال الأنشطة الاجتماعية التي تعتبر مفتاح الدعوة، حسب الأكاديمي الماليزي الصيني البروفيسور عثمان شوان. وتتركز تلك الأنشطة الاجتماعية على إظهار مبادئ ومحاسن الدين الإسلامي للبشرية والإنسانية.
كما تتوغل تلك الأنشطة الاجتماعية التي يقودها دعاة صينيون متدربون من خلال المشاركة في الأعياد الصينية والتجمعات الأسرية، إضافة إلى عملية تسهيل تزاوج الصينيين الماليزيين مع المسلمين من العرقية الملايوية الأصلية في ماليزيا، والتي تعد أيضاً عاملاً اجتماعياً مهماً في اعتناق الإسلام.
وفي هذا الإطار يقول البروفيسور «عثمان شوان» إنه لدى المسلمين الصينيين في ماليزيا منظمة تُدعى المنظمة الماليزية الصينية الإسلامية، مهمتها تنظيم تلك النشاطات الاجتماعية وبناء المساجد والقيام بترجمة الكتب الدينية إلى اللغة الصينية، إضافة إلى تنظيم العديد من النشاطات الدعوية والإرشادية.
وأوضح أن حركة دعوة الصينيين غير المسلمين كانت مُقيَّدة قبل استقلال ماليزيا عام 1957، مؤكداً أن عدد الصينيين المسلمين قبل الاستعمار كانوا 4 أشخاص فقط، لكن العدد ازداد بشكل مطرد خلال فترة التسعينيات وبداية الألفية الجديدة.
الوحدة الوطنية والتعددية العرقية
إن مفهوم الوحدة الوطنية القائمة على التعددية العرقية – والتي دعت إليها الحكومات الماليزية منذ استقلال البلاد – هي التي أوجدت للمسلمين الصينيين طرقاً ومداخل سهلة إلى قلوب الصينيين غير المسلمين في ماليزيا، لا سيما من خلال التركيز على الأنشطة الاجتماعية التي تعتبر مفتاح الدعوة لدى الصينيين الماليزيين.
ويُلاحَظ أن معظم الصينيين المعتنقين للدين الإسلامي في السنوات الأخيرة هم من الشباب والأجيال الصاعدة ما بين سن 19 و25 عامًا، وذلك لبعدهم عن ديانتهم الأصلية وانخراطهم مع الحياة، حسب البروفيسور عثمان، مفيداً بأن هذه الفترة الانتقالية تعد فرصة سانحة لالتقاطهم والتأثير عليهم من خلال تكثيف الأنشطة الاجتماعية.
العرقية الصينية هي أحد أهم الأعراق الرئيسية في ماليزيا، وتمثل نسبة 22.8% من سكان البلاد البالغ عددهم 33.7 مليون نسمة، وذلك إلى جانب العرقية الملايوية المسلمة التي تمثل 69.9% من السكان، وكذلك العرقية الهندية ذات الأغلبية الهندوسية وتمثل 6.6% من السكان.
ولا ندعي بذلك أن هناك انسجاماً تاماً بين الأعراق والأديان الماليزية المختلفة، لكن من الواضح أن هناك جهوداً حكومية واسعة لتوحيد صفوف تلك الأعراق للتقليل من شأن العنصرية العرقية والخلافات الدينية المستمرة في البلاد.