الإستراتيجية البحرية الصينية وتشكيل النظام العالمي الجديد
في كتابه «الرجل، الدولة، والحرب» ذائع الصيت، يرى «كينيث والتز» – أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كاليفورنيا – أن طبيعة النظام الدولي هي التي تحدد ممارسات الوحدات السياسية المكونة لهذا النظام. كما يرى أن ذلك المكون الفوضوي للنظام الدولي يجعل من حالتي السلم والحرب أمور غير ممكنة التوقع، وأنه بنشوب الحرب فلا يستطيع أي طرف إيقافها نظرًا لعدم وجود يد طولى وسلطة مركزية عليا، سواءًا داخل الدولة المحاربة قادرة على إخضاعها، أو في النظام الدولي قادرة على استنصات الجميع (وهذه النقطة تعتبر إحدى الركائز الأساسية للنظرية الفوضوية اللاسلطوية).
في ذات الإطار يرى «جون ميرشايمر» في كتابه «تراجيديا سياسات القوى العظمى»؛ أن التسليم بعدم القدرة على الإطلاع على النوايا، والسيطرة على مخاوف الدول الإقليمية من محاولات القوى المهيمنة إقليميًا للسيطرة عليها، يدفعنا إلى فهم المكونات الدنيا للبيئة الدولية التي يشوبها الاضطراب وعدم التيقن. وفي ذات الكتاب وفي نفس الإطار، تحدث ميرشايمر عن صعود الصين وتأثيراته على الحالة الأمريكية وعلى النظام الدولي في المحصلة النهائية؛ حيث يرى أن صعود الصين كقوة عظمى أمر حتمي ما دام اقتصادها متعافٍ وعلى مسار النمو.
وهذه القوة الاقتصادية، في رأي الواقعيون البنيويون الذين ينتمي إليهم ميرشايمر، لابد وأن يتم تحويلها إلى قدرة عسكرية في وقت غير معلوم في المستقبل، تمامًا كما حدث مع الولايات المتحدة. وتلك السردية التي تقوم على أساس موجودات نظرية الواقعية البنيوية Structural Realism تلقي احترامًا كبيرًا في الغرب لاسيما على الساحل الشرقي الأمريكي، على الرغم من انتقادات لها من قبل الليبراليين لا زالوا على اقتناعهم بأهمية الفواعل من غير الدول (كالمنظمات الدولية والمنشأت الدينية والاجتماعية والاقتصادية) في صياغة مفاهيم السلم والتعاون الدولي.
افتراضات أساسية
وإذا أخذنا انتقادات النظرية الليبرالية في العلاقات الدولية في الاعتبار، فإننا نرى أن الواقعية البنيوية هي الأصلح فعلا لفهم الحالة الصينية ومآلاتها نظرًا لبعض الاعتبارات:
أولا: أن الواقعية البنيوية تنظر إلى الدولة باعتبارها اللاعب الأساس في النظام الدولي، وهذه الحالة تنطبق تمامًا على الصين نظرًا لاحتكار الدولة لمعالم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية هناك وعدم وجود دور لأي لاعب من خارجها (مؤسسات كانت أو أفراد).
ثانيًا: أن الدول تبحث عن الحد الأقصى من القوة والأمن للحفاظ على سيادتها، وتحقيق متطلبات السيطرة والتحكم القومي في الداخل والخارج. ومطلب الأمن بالنسبة للصين شديد الأهمية، سواءا في الداخل المضطرب بسبب قلاقل عرقية أو فساد إداري متفشي، أو في الخارج حيث الحاجة الماسة لضبط الحدود والسيطرة على البحار القريبة.
ثالثًا: أن تلك النظرية تنظر لمفهوم «البقاء» على أنه أمر هام في توجيه سلوكيات الدول الكبرى تحديدًا. وتطبيقًا على حالة الصين، فإن استمرار الدولة الصينية هو الذي يضمن لها عدم عودة عقود الإذلال والخضوع التي قاسوها مع الأوروبيين واليابانيين منذ حرب الأفيون الأولى، وحتى الحرب العالمية الثانية والغزو الياباني للأراضي الصينية. وهذه الدولة لن تستمر عادة إذا لم تستجيب لتوسعة المجال الحيوي للفعل الصيني الخارجي.
وهذا المجال لابد وأن يكون في البداية مجال إقليمي قبل أن يأخذ صفة الدولية «Internationality». وعلى اعتبار حدود الصين البرية والبحرية المترامية، فإن الصين في خضم مسعاها للاستجابة لمجالها الحيوي الإقليمي ستكون مضطرة للسيطرة على البر الأسيوي بكامله، بالإضافة إلى القطاعين الشمالي والأوسط من الشطر الغربي من المحيط الهادئ، ومضايقه وبحاره الإستراتيجية كالبحر الأصفر وبحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي. لكن الولايات المتحدة لن تسمح بذلك. فواشنطون التي تغولت وتوغلت في الشئون الإقليمية حتى باتت لاعبًا أساسيًا في كل أقاليم العالم لا يمكن أن تتنازل عن نفوذ لها في الباسيفيك أو بحار الصين إلا إذا وُجد ما يضطرها فعليا للقيام بذلك.
في هذا الإطار، تعتبر كتابات «زانج وينمو»، أستاذ أبحاث الفضاء بجامعة بكين، في الإستراتيجية الصينية من أكثر الكتابات تأثيرًا في فضاء التفكير الإستراتيجي الصيني منذ عشر سنوات على الأقل. فدراسته المطولة بعنوان: «القوة البحرية والخيارات الإستراتيجية للصين» تعتبر من الدراسات التأسيسية التي يظن أنها من الدراسات ذات السطوة، وقد أخذ بها من قبل الدولة الصينية في صياغة استراتيجيتها العظمى في الأعوام الأخيرة. وتدعي هذه النظرية لوينمو أنه لا عودة للوراء إلى حالة الانتشار القاري فقط، كما تؤكد على فكرة الاستقلال وأسبقيتها على الأمن، مع السعي نحو القوة البحرية المناسبة للحصول على الحقوق الصينية في البحار.
نظام متعدد «الأبعاد»
تشير معظم تحليلات البيئة الدولية والنظام الدولي في السبع سنوات المنصرمة (على الأقل منذ الأزمة المالية العالمية) إلى وجود فجوات هيكلية في بنية النظام الدولي تضطلع بعملية إعادة إنتاج الأزمات ذات البعد الدولي.
وعلى الرغم من أن تلك التحليلات ترتكز في بعضها على نظريات قديمة نسبيًا في هذا الإطار، يبرز التفسير النيو-ماركسي لتلك الأزمات والذي يرى أن أساسها هو انعدام الثنائية في القرار والفعل الدولي كأحد العوامل الديناميكية والتجديدية في البيئة الدولية بالإضافة إلى أن هيمنة الإمبريالية الجديدة أحادية القطب (متمثلة في الولايات المتحدة وأحلافها) على القرار الدولي أدى إلى تكلس النظام الدولي وحرمانه من الدينامية المتأتية عن طريق تعدد الأقطاب.
أما الواقعيون البنيويون (على العكس من النيو-ماركسيين) فيرون أن الأصل في هذه الأزمة يكمن في أمرين:
- الفهم الخاطئ من قبل دوائر القرار الدولي (لاسيما الولايات المتحدة) بأن العالم يمكن السيطرة عليه بالقواعد البرية والأساطيل البحرية والردع النووي والبالستي.
- أن النظام السائد هو أحادية القطب وعدم الإيمان بأن أقطابًا متعددة تضطلع بأدوار محورية (كالشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات الدينية والاجتماعية). وفي هذه الحالة تعتبر ملامح الصراعات أكثر تعقيدًا حيث أنه من الخاطئ الاعتقاد في أن الدولة الأمريكية ذات قدرة مطلقة في السيطرة على المؤسسات الأمريكية العابرة للحدود أو العكس ناهيك عن السيطرة عن شركة بترول بريطانية أو شركة نقل بحري يابانية تفوق دخولها السنوية مجموعة دول.
في كتابه «مستقبل القوة»، يرى جوزيف ناي – أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد – أن النظام الدولي الذي نعيشه لا يمكن الجزم مطلقًا بأنه أحادي أو ثنائي القطب، لكن ما يمكن الجزم به أنه متعدد الأبعاد حيث تحل الدول بقوتها العسكرية الخشنة كبعد أساسي في هذا النظام، يتلوها القدرة الاقتصادية والمالية ببعديها العام المملوك للدولة والخاص المملوك للمؤسسات الخاصة والأفراد، ثم مؤسسات الخدمة الاجتماعية والخيرية والدينية إلخ.
ما يمكن الجزم به في إطار هذا التحليل أن الصين تمتلك قوة اقتصادية لا يستهان بها مطلقًا، لاسيما وقد حققت جزءًا كبيرًا منها في غضون فترة قصيرة. فقد تضاعف الناتج المحلي الصيني الإجمالي خمس مرات منذ عام 2002 (قرابة 2 تريليون دولار) وحتى 2014 (حيث بلغ قرابة 10.5 تريليون دولار لتحل الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية) في حين نمت القدرة الشرائية (ذات الأهمية الاستراتيجية) قرابة سبعة عشر مرة منذ عام 1990 وحتى 2014 حسب تقرير البنك الدولي.
وهذه مؤشرات ضخمة تنم عن تحولات كبرى تحدث داخل المجتمع والدولة الصينية، بعضها يتعلق بنمو الطبقة الوسطى الصينية، والآخر بتوسع ملاءة الدولة الصينية التي تتبنى نموذج رأسمالية الدولة منذ أربعين عامًا واستطاعت عن طريق هذا المسار تحقيق فوائض هائلة. تلك الفوائض مكنت الدولة من الاستثمار في المشروعات ذات الطابع الاستراتيجي كتصنيع الأسلحة وتطوير تكنولوجيا الفضاء وعلوم الذرة وصناعة الإلكترونيات المتقدمة وخلافها.
مسار تراكم القوة هذا سيؤدي -حسب ميرشايمر في مقاله «الصعود غير السلمي للصين»– إلى استغلال هذا النفوذ وتحويله إلى قوة أمنية لتحقيق هدفين:
- الحفاظ على المنجزات التاريخية للدولة الصينية وتقوية هياكلها الداخلية وإحكام سيطرتها على الفضاء الداخلي.
- إحكام السيطرة على المحيط الإقليمي.
في هذا الإطار، ستقوم الصين بتسوية الأزمات الإقليمية التي لم تكن باستطاعتها تسويتها في الماضي وعلى رأسها التالي:
- إخضاع تايوان أو على الأقل حل أزمة مضيق تايوان والسيطرة عليه.
- الهيمنة على بحر الصين الجنوبي والشرقي والاتفاق مع روسيا على أمن البحر الأصفر.
- الضغط على اليابان للتراجع عن مطلبها في أرخبيل سنكاكو.
- فرض نظام تحديد الهوية للدفاع الجوي على جزيرة سنكاكو في بحر الصين الشرقي نزولاً حتى جزر سبارتلي في قلب بحر الصين الجنوبي. وهذا النظام يجبر الطيران العابر للمنطقة بطلب إذن العبور وإلا تدخلت القوات المسلحة بالطرق التي تحددها (وهو نظام معمول به في الباسيفيك وامريكا الشمالية).
- اعتبار كافة هذه المنطقة منطقة اقتصادية خالصة للصين.
- تفكيك التحالف الأمريكي مع الآسيان ضد بكين والذي يضم أستراليا وفيتنام والفلبين وكوريا الجنوبية وتايلاند واليابان وسنغافورة.
- المساهمة بقوة في تحديد مستقبل دول وسط آسيا – لاسيما أفغانستان.
- تحويط (أو على الأقل إحتواء) الهند عن طريق تقوية التحالف مع باكستان وإيران.
طبقًا للنظرية الواقعية الهجومية، فإن استمرار النمو الصيني بمعدلات مرتفعة سيستلزم قيام الصين بهذه الخطوات خطوة بعد خطوة مع التنامي المطرد للقدرة العسكرية لبكين. ويجب التنويه إلى أن ما يقال عن طبيعة الحضارة الصينية وعدم ميل الصينيون للتوسع هو أمر يصعب القياس عليه، حيث أن المحرك الأساسي لممارسات الدول هو طبيعة النظام الدولي كما طرحنا في البداية حيث القوة هي العنوان الأساس للبقاء.
لكن، الولايات المتحدة بكل تأكيد لن تجلس في مقعد المتفرج. فالأمريكيين يرون بأن صعود الصين وهيمنتها على آسيا مرهون بسيطرتها على بحارها القريبة (بحر الصين الجنوبي والشرقي والبحر الأصفر). لذا، فهي تقوم بغلق أو التضييق عليها في هذه المجالات بشكل محكم.
منتصف العام الجاري، بثت قناة البحرية الأمريكية على يوتيوب فيلمًا يسجل إحدى رحلات الاستطلاع التي نفذتها البحرية الأمريكية بواسطة طائرة الاستطلاع المتطورة P-8 Poseidon التابعة لإحدى قواعد الأسطول السابع في الفلبين. وقد وثق الفيلم عبر بث حي للرحلة المتجهة إلى جزر سبارتلي القريبة من الساحل الفلبيني من ساعة إقلاع الطائرة وحتى رجوعها إلى القاعدة ما سماه أحد مهندسي الاتصالات على متن الطائرة بأنه «روتين عمل يومي» لمراقبة مستجدات الأوضاع والإنشاءات في جزر بحر الصين الجنوبي الاصطناعية.
وقد سجلت الطائرة تطورات إنشائية ضخمة، من بينها مباني متعددة الطوابق للاتصالات، ومدارج طائرات، ودشم لأنظمة الدفاع الجوي. ما لبثت الطائرة الأمريكية المتقدمة أن دخلت مجال الجزر حتى باغتتها القوات المسلحة الصينية ببث تحذير لها من دخول المجال الجوي للجزر، حيث أنها تابعة للسيادة الصينية وتتولى القوات المسلحة الصينية تأمينها. لم يكترث طاقم الطائرة بالتهديد وأنهى جدول أعماله بتصوير مستجدات الإنشاء على الجزر وأفل عائدًا إلى القاعدة.
بالتأكيد اعتبر أفراد القوات الجوية على متن طائرة بوسايدون أن هذه التحذيرات روتينية، كما لا تقوم القوات المسلحة الصينية بتنفيذ الكود العسكري ضد هذه الطائرات والحملات الجوية نظرًا لوجود حد أدنى من التفاهمات بين الطرفين في إطار ما يسمى في الأوساط العسكرية بـ«دبلوماسية الدفاع»، وهو طريق من أجل إنتاج تفاهمات حربية مشتركة.
وقد تمت تقوية هذه التفاهمات عن طريق مذكرات تفاهم إضافية تم التوقيع عليها من قبل الرئيسين الأمريكي والصيني قبل أيام في البيت الأبيض. ولم تمض فترة طويلة على زيارة الرئيس «كساي جينبينج» لواشنطون حتى باغته البنتاجون بعزمه إرسال قطع حربية لبحر الصين الجنوبي والمهمة معروفة بالتأكيد: احتواء النفوذ الصيني في البحر.
وتكمن الأهمية الجيو-استراتيجية لبحر الصين الجنوبي في أنه يعتبر مسار العبور الأساسي للسفن القادمة من اليابان وكوريا الجنوبية صوب مضيق «ملقا»، وتحدد حجم التجارة العابرة بهذا البحر سنويًا بقرابة 6 تريليون دولار. وفي حالة استطاعة الصين السيطرة على هذا البحر، فإن تحالف الولايات المتحدة في الباسيفيك سيتم تفكيكه بسبب وجود هذا البحر في القلب من الدول الحليفة للولايات المتحدة بالمنطقة.
وفيما يلي معالم الإستراتيجية العسكرية الأمريكية لاحتواء الصين في الباسيفيك:
- محاولة إعاقة كافة مجهودات الإنشاء على جزر بحري الصين الجنوبي والشرقي.
- تقوية الأسطول السابع الأمريكي «أسطول الباسيفيك» عن طريق تحديث قاعدة «جوام»، وقاعدة «يوكوسوكا» المركزية في اليابان.
- دعم جهود الطيران بأسراب مقاتلة وقاذفة من طرازات F35, F22 Raptor, B2 Spirit, B1 Lancer.
- تقوية سلسلة الإمداد والتموين عن طريق إضافة طائرات النقل الإستراتيجي طرازات B-17 Globemaster و c-5 Galaxy وكذلك طائرات V-22 Osprey.
- نشر طائرات إضافية من طراز P-8 Poseidon و P-3 Orion المضادة للغواصات لشل حركة الغواصات الصينية.
- النظر في المطالب اليابانية لتقوية قوات الدفاع الشعبي (الجيش الياباني).
- تقوية جهود سنغافورة وكوريا الجنوبية الاستخباراتية.
- نشر طائرات بدون طيار إضافية في القاعدة الأمريكية شمال أستراليا لتقوية نظام المراقبة والاستطلاع لمضيق ملقا.
وعلى الرغم من تطور العتاد العسكري الأمريكي المنتشر في الباسيفيك، إلا أنه لا يزال محدودًا في مواجهة القوات المسلحة الصينية صاحبة التصنيف العالي في الأداء والتسلح. ومع استمرار النمو الاقتصادي المطرد للصين، فإن إمكانيات الصين في السيطرة على آسيا والباسيفيك ومن ثم مزاحمة الولايات المتحدة على القرار الدولي لا تزال متنامية يومًا تلو آخر ما لم يحدث أي تغير راديكالي في البيئة الدولية.