التنين الصيني: مقاربات نحو الشراكة
بأسطول بحري ضخم، يتقدمه 9 مراكب شراعية على متن كل واحدة منها 500 بحار، دشن الأدميرال الصيني المسلم «حجّي محمود شمس» والمعروف في المصادر الصينية بـتشنج جي، رحلة بحرية استكشافية للعالم. وخلال تلك الرحلة، تمكن تشنج جي من زيارة أكثر من 50 بلدًا، بالإضافة إلى الشروع في رسم طرق بحرية جديدة وصل عددها إلى 41 طريقًا. وحفظت تلك الرحلة العلمية لنفسها مكانة فريدة في سجلات الاستكشافات البحرية الكبرى باتسامها بالسلمية، وانتفاء حدوث أي عمليات انتقامية أو تخريبية من قِبل المستكشفين، مما حدا بالقائمين على الأمر في بعض تلك البلدان التي مر عليها الأسطول بتخليد تلك الذكرى.
ففي عام 2005، قامت إندونيسيا بافتتاح مسجدٍ كبير بجزيرة جاوة الساحلية، حمل اسم تشنج جي، علاوة على كتابة مخطوطة تشريفية تذكر دوره وآثاره على الإنسانية والتي ستظل محفورة عبر الأجيال.بتلك الطريقة استطاع الصينيون أن يوجدوا لأنفسهم أسلوبًا خاصًا في التعامل مع سكان الدول المجاورة، وشعوب المناطق البعيدة.
الشرق الأوسط والمبادرة
مع قدوم عام 2013 أعلنت الصين عن تدشين مبادرة «الحزام والطريق»، جاء ذلك على لسان الرئيس الصيني شي جين بينغ، والذي قرر تأسيس صندوق استثماري لتمويل ذلك المشروع برأس مال يبلغ 100 مليار يوان، مع التعهد بزيادة نسبة التمويل المتاحة، ويواجه الاقتصاد العالمي العديد من الأزمات المتمثلة في بطء النمو الاقتصادي وانحصار عدد من القوى العالمية القادرة على دفع حركة الاقتصاد وإحداث تغيير كبير على مستوى الإصلاح والتحديث لبنية تلك المنظومة العالمية، وأتت تلك المبادرة استجابة للتطلعات الصينية التي تنظر إلى العالم بقواه المختلفة من خلال نظرة تشاركية قائمة على المنفعة المتبادلة وتعظيم المكاسب المشتركة.
واليوم وبعد مرور 6 سنوات على تاريخ الإعلان الرسمي عن تلك المبادرة، جاءت النتائج المُتحققة لتتجاوز التوقعات، مما دفع الخبراء والمختصين إلى زيادة الاهتمام بدراسة تلك المبادرة العالمية الطموحة، فالصين، وبحكم التطور التكنولوجي وزيادة دائرة استخدام الرقمنة في جميع التعاملات اليومية لمواطنيها، تسعى إلى نقل تلك التجارب ومنافعها إلى الدول الواقعة على ذلك الطريق، وفي القلب منها دول منطقة الشرق الأوسط، فمن خلال الرؤية الاستراتيجية التي حكمت السياسة الخارجية الصينية الموجهة نحو الدول العربية، تمكنت من تأسيس علاقات وثيقة تكمن في تكوينها رؤية ذاتية التشكيل وتبتعد عن مواقف وسياسات الدول الأخرى.
كذلك نظرت الصين إلى منطقة الشرق الأوسط على أنها سوق تجاري واعد يمكنه قبول العديد من المشروعات والسلع والمنتجات، بالإضافة إلى التأكيد الدائم على علمها بأن المنطقة تشهد تنافسًا دوليًا واسعًا. فالصين تعتمد على إقامة شراكات عديدة مع الدول العربية حيث تمثل لها درجة عالية من الأهمية، ويعود ذلك إلى الصفة التكاملية التي تتسم بها طبيعة تلك العلاقة من خلال الموارد المتاحة والجغرافيا القابلة لنقل وتوطين الصناعات المختلفة، عوضًا على كِبر حجم أسواق تلك المنطقة وقدرتها على استيعاب السلع والخدمات.
ويحتل قطاع الطاقة المركز الأول من حيث الأهمية عند صناع القرار الصينيين، فقد صرّح زانغ بييان نائب الوزير الأول الصيني، بأن هناك العديد من التحديات التي تواجه ذلك القطاع المهم، ولا سيما في إطار مبادرة الحزام والطريق، وكان من بينها الطلب المتزايد على موارد الطاقة على النطاق العالمي، ممّا قلّص الكميات المتاحة للعرض، وأكد أن الاضطرابات التي تشهدها سوق الصناعة العالمية تؤثر على تأمين مصادر الإمداد بتلك الموارد، ولذلك فقد تبنت الصين خلال خطتها الخمسية العاشرة، مجموعة من المفاهيم التي تُشكل في داخلها نظرتها لتأمين وصول الطاقة من مصادرها إلى أماكن ومناطق استخدامها، وأهم مظاهر تلك الاستراتيجية:
الاعتماد على مبدأ التنوع
يُمثل ذلك المبدأ الحاكم الأساسي للاستراتيجية الصينية تجاه دول إنتاج الطاقة، ومصطلح التنوع هنا لا يقصد به الوقوف على مورديين ثابتين، بل يمتد ليشمل الانطلاق من استراتيجيات مختلفة بهدف مواءمة السياسات وعدم الاقتصار على سياسة واحدة، ولقد تحركت الصين من خلال تنويعها مصادر إمدادها، حيث لجأت إلى استيراد النفط الخام من أكثر المناطق التي يزدهر بها إنتاجه، فاعتمدت على دول الشرق الأوسط، ودول آسيا الوسطى، بالإضافة إلى روسيا. وأسهم ذلك في تكوين نوع من العلاقة الارتباطية مع جميع الأطراف، لتعمل على تأمين الإمدادات وكذلك تأمين الطلب لبلاد الإنتاج.[4]
الصعود التدريجي
طُرح ذلك المفهوم لأول مرة، خلال انعقاد منتدى آسيا والمحيط الهادي APEC بكوريا الجنوبية عام 2005، وأرادت الصين من خلال تلك الفكرة أن تؤكد أن تطور اقتصادها وضلوعها بدور رئيس في النظام الدولي، لن يؤثر على طبيعة الوضع القائم أو يهدد سلامته واستقراره. ويتجلى ذلك الصعود التدريجي من خلال ارتباطه بمفهوم الأمن الطاقوي، حيث إن علاقة الصين بدول الإنتاج في الشرق الأوسط لم تتغير، حيث ترى تلك الدول أن الصين من الشركاء الأساسيين وتطورها سيجلب لها العديد من الاتفاقيات النفطية وغيرها من مصادر الطاقة.
تقلبات السوق العالمي
تكمن فلسلفة ذلك المبدأ في أن الطاقة باعتبارها من القضايا التي تمس الأمن القومي الصيني، لايمكن تركها لأهواء وأمزجة السوق، والذي يخضع لعدم الاستقرار نتيجة الأحداث المختلفة سواء أكانت على المستوى الاقتصادي أم السياسي، بل إن الشائعات تلعب دورًا مهمًا في هذا الصدد، ووفقًا للخطط والاستراتيجيات الموضوعة فإن الصين ستستهلك بحلول عام 2030 خمس الطلب العالمي على الطاقة، بالإضافة إلى 15% من النفط المعروض، ولذا باتت قضايا الطاقة من القضايا المحورية على طاولة صانع القرار والتي يضعها دائمًا نصب عينيه.
استراتيجيات على الصعيد الوطني
تبنت الدولة الصينية العديد من الاستراتيجيات للتعامل مع ملف الطاقة بحكمة ورشادة، حيث إن النفط يُعتبر من أهم أعمدة التطور والتنمية للصناعة الصينية، فكان لزامًا على الحكومات الصينية المتعاقبة، أن تضع رؤيتها لإدارة ذلك الملف المهم على المستوى الوطني، فالأقاليم الصينية تتمتع بوفرة في عدد الحقول النفطية والثروات القابلة للاستخراج منها، ويأتي في مقدمة تلك المناطق، منطقة داتشينغ، التي تستخرج الصين منها سنويًا أكثر من 50 مليون برميل من النفط منذ عام 1976، بالإضافة إلى ذلك فإن منطقة شنجيانغ التي تقطنها أقلية الأويغور المسلمة، تحوي ثلاثة حقول كبيرة من النفط، ويبلغ الإنتاج السنوي لحقل كراماي أكثر من عشرة ملايين طن، وأمام تلك الحقائق فقد تبنت الدولة مجموعة من المبادئ الحاكمة للتعامل مع ملف الطاقة، وتتمثل أهمها في:
استكشاف مصادر جديدة للطاقة
وضعت الصين نصب أعينها مجموعة من الأهداف المتعلقة بقطاع الطاقة، مثل الوصول إلى توليد 300 مليون كيلو واط من الطاقة الكهربائية، وزيادة الإنتاج الوطني من الطاقة الشمسية إلى أكثر من مليون كيلو واط، خلال عام 2020. وإزاء ذلك أسست الصين العديد من المشاريع الحديثة، علاوة على إنشاء صناديق لتمويل المشروعات الساعية لتحقيق تلك الأهداف، كما قامت بتقديم العديد من المساعدات لمراكز العمل والهيئات البحثية العاملة في ذلك المجال. وكان من جملة النتائج التي تحققت على مدار العقدين الأخيرين، قدرة الصين على احتلال المركز الثالث آسيويًا والعاشر عالميًا في توليد الكهرباء من طاقة الرياح، حيث بلغت أعداد محطات الرياح المستخدمة في التوليد أكثر من 43 محطة خلال عام 2004.
وتسعى الصين حاليًا إلى الاستفادة من تجارب البحث والتنقيب عن مصادر جديدة للطاقة في المنحدر الشمالي لبحر الصين الجنوبي، من خلال تطبيق تقنية الجليد القابل للاحتراق، وهو عبارة عن مجموعة من الهيدرات من الغاز الطبيعي تم اكتشافه خلال الفترات الماضية، وتكمن أهمينه في كونه بديلًا طبيعيًا وحيويًا للمواد البتروكيماوية التقليدية مثل النفط وغيره من مصادر الطاقة.
الطاقة الشمسية واستراتيجية الصين
تمتلك الصين في الوقت الحاضر، العديد من محطات الطاقة الشمسية في العالم، لتتبوأ بذلك المرتبة الأولى عالميًا في إنتاج ذلك النوع من الطاقة وبقدرة إنتاجية تبلغ 130 جيجا وات، وتختلف تلك المحطات في قدراتها وإمكانياتها الإنتاجية، فمجمع سد لونغيانغسيا، والواقع بمنطقة التبت، يضم أكثر من أربعة ملايين من الألواح العاملة في خطوط الإنتاج، وبقدرة إجمالية إنتاجية تبلغ 850 ميجا.
وما بين إنفاق الصين ملايين الدولارات لإنشاء مثل تلك المحطات، وتكبد صندوقها الحكومي المخصص لتمويل مشاريع الطاقة المتجددة لديون عديدة تُقدر بالمليارات، فإن الدولة تسعى من خلال تلك الحزمة من المشروعات إلى سنّ سياسة الطاقة النظيفة، كما تسعى إلى تشجيع المواطنين على الهجرة إلى تلك المناطق النائية، فالغالبية العظمى من السكان الصينيين يقطنون الجزء الشرقي من الدولة وعلى مساحة 94% من المساحة الإجمالية للصين، بينما يتوزع باقي المواطنين على الجزء الغربي، ولذا فإن تلك السياسة تعتمد في شقها الداخلي على إعادة توزيع السكان وفق توافر الموارد المتاحة، وفي شقها الخارجي تعمل على تأمين الاحتياجات من الطاقة اللازمة في عمليات التنمية المستمرة.
لماذا تهتم الصين بالموارد النفطية للشرق الأوسط؟
تقع منطقة الشرق الأوسط ضمن أعلى المناطق إنتاجًا للموارد النفطية في العالم، وتحتل في السياسة النفطية الصينية المرتبة الأولى مناصفة مع دول شمال وغرب إفريقيا، ولفترات طويلة سادت حالة من الريبة والتقارب الحذر بين الصين والدول العربية، وفي حالات خاصة كانت هناك تفاهمات ومقاربات مشتركة مع دول معينة، إلا أنه وخلال العقد الأخير اتجهت الدول العربية لزيادة التعاون مع الصين، والتي بات يتطلع الجانب العربي إلى مساهمتها الفعّالة في دعم الموقف العربي إزاء قضايا المنطقة، لذا شكّلت الصين سياستها الخارجية مع الدول العربية من خلال المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والثقافية، وكان للمجال الاقتصادي نصيب الأسد من تلك السياسات، حيث وقعت الصين مع الدول العربية العديد من الاتفاقيات التجارية المشتركة في سبيل تأمين مصالحها بالمنطقة.
وتوجد العديد من الأسباب التي تجعل الدول العربية من أهم مزودي السوق العالمي بمصادر الطاقة المختلفة كالنفظ والبترول ومشتقاته، حيث إنه وفقًا للإحصاءات المنشورة؛ فإن 80 مليون برميل يوميًا يخرجون من تلك المنطقة باتجاه أماكن استخدامه وتشغيله في أسواق الصناعات المختلفة، ممّا يجعل من الصعب بل من المستحيل التخلي عن ذلك المورد الرئيسي، كذلك فإن الحقول النفطية المتواجدة بمنطقة الخليج العربي تُصنف على أنها من أجود مناطق إنتاج النفط في العالم، حيث تنخفض به نسبة الشوائب وخاصة الكبريت، والذي بارتفاع نِسبه يهدد بتدني جودة المنتَج وبالتالي انخفاض سعره، ولذلك باتت جودة الخام العربي من النفط يُضرب بها المثل في الجودة والنقاء.
ومن ضمن العوامل الجوهرية في أهمية النفط العربي، انخفاض التكاليف العامة للاستخراج والنقل نتيجة وقوعه ومروره بأراضٍ صحراوية ممّا يُشكل مزيّة اقتصادية لموارد الطاقة بتلك المنطقة، والجدير بالذكر أن تلك الأفضلية والتي تمتعت بها دول الخليج لفترات طويلة من الزمن باتت تتقلص اليوم مع زيادة الاكتشافات الحديثة في العديد من الأسواق المنافسة، والتوسع في استخدام التكنولوجيا المتقدمة خلال جميع مراحل العمليات اللازمة بدءًا من الحفر والتنقيب، مرورًا بالاستخراج والمعالجة، انتهاءً بالنقل. أيضًا لم تعُد تقوى الحقول القديمة على مواصلة الإنتاج بنفس الكميات والجودة السابقة بسبب تداخل المياه مع النفط داخل الآبار، ممّا دفعَ حكومات الدول المعنية إلى حفر آبار جديدة بجوار الحقول العاملة في خطوط الإنتاج، مع ضخ المواد الكيماوية والمياه المعالجة لتجميع النفط الخام.
كل ما سبق يضاف إلى تأخر الشركات الموكلة بتنفيذ الأعمال في أداء مهامها في الوقت المناسب، مما يُلجئ إلى تنفيذ تغييرات جديدة بتكاليف أكثر، فتسبب ذلك في زيادة التكلفة الاستثمارية لعملية استخراج مصادر الطاقة.
ولوقوع منطقة الشرق الأوسط بين غرب أوروبا من ناحية والشرق الأقصى من ناحية أخرى، سهّل ذلك إمكانية ضخ الخامات المختلفة في طرق الإمداد المباشرة دون الحاجة إلى إنشاء مشاريع جديدة للنقل نتيجة وجود البنية التحتية الممهدة لذلك، ومن هنا سعت العديد من القوى الدولية لتأمين احتياجاتها المختلفة من الطاقة، بالاستحواذ على معظم الامتيازات للتنقيب عن مصادر الطاقة، وبما يمثله ذلك من مخاطرة برأس المال والتكاليف المدفوعة للأسباب الأمنية والسياسية المحدقة بمنطقة تموج بالعديد من التقلبات الدائمة والمستمرة، وقد كانت للبحار المفتوحة بالمنطقة والتي توفر الملاحة الدائمة طوال السنة، قيمة مضافة تعمل على زيادة الإقبال على استيراد النفط ومشتقاته من تلك المنطقة، فالممرات البحرية التي تشق المنطقة لا تتأثر بتقلبات المناخ من حيث تجمد المياه وتوقف حركة الملاحة كما هو الحال مع ممر ألاسكا البحري بالولايات المتحدة، كذلك فالبحار مفتوحة وتربط معظم الدول العربية الواقعة بالمنطقة مع غيرها من بلاد الأقاليم والمناطق البعيدة على عكس بحر قزوين والمنغلق على نفسه ودوله الواقعة في نطاقه.
ولقد تمكنت الشركات الصينية في إطار سياسة بناء التحالفات الطاقوية من الفوز بالعديد من عقود تطوير القطاعات النفطية في عدد غير قليل من دول منطقة الشرق الأوسط، فها هو الممثل السابق لدولة إيران لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية يؤكد في تصريح له قوة ومتانة العلاقات الصينية الإيرانية على مستوى التكامل الطاقوي، حيث صرّح بأن الصينيين يمتلكون الصناعات بينما الإيرانيون يمتلكون الطاقة اللازمة لنمو واستمرار تلك الصناعة، كما تقوم الشركات الصينية والشركات التابعة لها وبالاشتراك مع منظمتين إيرانيتين بتطوير حقول تبناك، بالإضافة إلى حفر خمسة آبار لزيادة الإنتاج.
وعلى الجانب الآخر، اهتمت الصين بإبرام العديد من الصفقات مع السعودية في مجالات الطاقة المتجددة، حيث وقع الطرفان على اتفاقية تعاون تشمل استحواذ شركة أرامكو على ما قدره 9% من المشروع الصيني: جي جيانج للبتروكيماويات. عوضًا عن توقيع مذكرة تفاهم بين الصندوق الاسثماري السعودي والهيئة الوطنية الصينية للطاقة.
وكان للعراق دورٌ في تلك الصفقات الهادفة إلى تطوير القطاعات النفطية في دول المنطقة ممّا يعود بالنفع على كلا الجانبين، فلقد حصلت الصين عبر شركاتها الوطنية والشركات الأجنبية التي تستحوذ عليها من خلال شرائها على حقوق تطوير خدمات طويلة المدى بحقول أحدب وحقول الرملية؟ ويتضح من تلك الممارسات أن الصين كدولة مركزية وقوى صاعدة لا تسعى للهيمنة على سوق الطاقة في منطقة الشرق الأوسط من خلال تلك الاستثمارات العادلة والبعيدة تمامًا عن التدخل في شؤون الدول الأخرى.
حلفاء وأنداد
إن مبادرة الحزام والطريق في أصلها، ما هي إلا إعادة إحياء لطريق قديم كان يربط بين الصين من ناحية والشرق الأوسط وأوروبا من ناحية أخرى، وكان الهدف الرئيس من ذلك الطريق قديمًا، البحث عن أفضل السبل لتسويق منتجات الحرير الصينية، إلا أن الفارق اليوم أن الطريق أُضيف له طريق بحري ليمر من خلاله بأكثر من 65 دولة يقطنها ما يربو على أربعة بلايين نسمة حول العالم،وتقع دول الشرق الأوسط ضمن تلك النسبة. ومع بدء إنشاء المشروعات وإبرام الاتفاقيات وتوقيع مذكرات التفاهم مع الدول المعنيّة، أظهرت بعض القوى الفاعلة موقفها من تلك المبادرة، ويمكن أن نجملهم في:
روسيا
لم تُظهر روسيا أي معارضة للمبادرة الصينية الطموحة منذ وقت الإعلان عنها خلال عام 2013، بل إن العلاقات الصينية الروسية تشهد زخمًا جديدًا بفضل العلاقة الشخصية التي تجمع الرئيسين الصيني والروسي، وتجلى ذلك في تقليد الرئيس الصيني جين بينج ميدالية الشعب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهي أعلى قلادة وطنية في البلاد ولم يحظ بها أي رئيس أجنبي من قبل.
ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي في القرن الماضي، لجأت روسيا إلى الانخراط في التجمعات الأوروبية والآسيوية وفق مصالحها وتقاليدها الخاصة، ويُعد دخولها لمجموعة الـ8 من أهم تجليات تلك الاستراتيجية، ومع تأييد الولايات المتحدة للانقلاب الذي جرى على الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش، سعت روسيا للسيطرة على شبه جزيرة القرم، مما عجّل باستبعادها من عضوية مجموعة الـ8، والتي كان من المزمع انعقادها بمدينة سوتشي بعد أقل من شهرين، كل ذلك كان من أسباب توجه القيادة الروسية صوب الصين ومحاولة تشكيل تكتل دولي للخروج من دائرة التبعية للولايات المتحدة على الأقل اقتصاديًا، فروسيا تسعى إلى إبعاد النفوذ الأمريكي عن المناطق الحيوية الخاصة بها، كذلك تسعى الصين إلى طرح مبادرة دولية لدفع حركة النشاط الاقتصادي وتسريع وتيرة النمو. تقابلت المصالح في تلك المنطقة، حيث امتنعت الصين عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة والخاص بإدانة التدخل الروسي في أوكرانيا، ممّا كان من علامات تقارب السياسات والتقاء المصالح.
ويشكّل التعاون العسكري بين الجانبين جزءًا رئيسًا من العلاقات الثنائية، فخلال السنوات الماضية كانت الصين ومعها الهند مجتمعتان يستحوذان على 80% من قيمة الصادرات الروسية من الأسلحة والعتاد، ولقد تطورت العلاقات العسكرية اليوم لتصل إلى الاتفاق على إجراء مناورات مشتركة في منطقة متنازع عليها بين الصين واليابان تُسمى: ديياو، ولذلك دلالات خاصة على مدى وطبيعة التقارب، كما يبعث برسالة إلى الجانب الياباني بأن مواقفها المضادة وتأييدها واشنطن في فرض عقوبات اقتصادية على الجانب الروسي لن تمر بسلام، من هنا فإن من مصلحة روسيا في أن تشترك مع الصين في تدعيم المشروعات والأفكار المطروحة لتحقيق المصالح المشتركة.
الاتحاد الأوروبي
رغم طبيعة العلاقات التاريخية التي تربط الاتحاد الأوروبي بالولايات المتحدة، فإن نقاط الخلاف أصبحت السمة السائدة في العلاقة بين الجانبين، وتجلى ذلك أكثر ما يكون عندما قرر ترامب وبصورة فردية فرض رسوم مالية على الصناعات الواردة من دول الاتحاد الأوروبي، وسعى كبار الساسة بالاتحاد الأوروبي إلى حل الخلاف والوصول إلى حلول مشتركة للنقاط العالقة بين الجانبين، أفضى ذلك إلى اجتماع رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر مع الرئيس الأمريكي بهدف الاتفاق على مقاربات مشتركة لزيادة التعاون وإنهاء الخلافات.
خلال ذلك طرحت دول الاتحاد الأوروبي استراتيجية جديدة للتنمية تصفها بالعادلة والخالية من أي اشتراطات مسبقة يمكن أن تؤدي إلى وقوع الدول في مصيدة الديون والعجز عن تسديد الفوائد المتراكمة، ممّا يُعرض المرافق الرئيسية لتلك الدول إلى استخدمها بطرق قد تتعارض مع مصالحها القومية، ويدللون على ذلك بحصول الصين على عقد إيجار لمدة 99 عامًا لميناء حيوي بسريلانكا لعدم قدرتها على الوفاء بأعباء الديون المستحقة، وتحمل الاستراتيجية الجديدة اسم: استراتيجية آسيا للتواصل؛ وتهدف إلى استحداث وظائف جديدة وخلق نمو اقتصادي مع بعض المنح والتسهيلات المقدمة للدول الموقعة على تلك الاتفاقية، وفيما يبدو، فإن تلك الاستراتيجية المطروحة جاءت ردًا على سياسات الرئيس الأمريكي عوضًا عن التوسع الصيني في الدول الإفريقية والآسيوية، ولقد كانت طبيعة المشروع الصيني محركًا أساسيًا للقادة الأوروبيين، حيث إنهم اعتبروا أن المشروع (أي الصيني)، يهدف إلى تشييد بنى تحتية وموانئ وسكك حديد بما له علاقة وثيقة بسهولة التجسس والحصول على المعلومات من خلال المنصات الرقمية الوطنية.
إن العالم اليوم يمر بالعديد من المتغيرات الحاصلة في بنيته الاقتصادية، حيث تسعى القوى الصاعدة سيما من الدول التي استأثرت بلقب النمور الأسيوية، إلى الفكاك من القبضة الاقتصادية والقواعد الحاكمة للنظام الدولي في سبيل تشكيل نظام دولي جديد يتسم بالعدالة ويراعي حقوق الشعوب في الانتفاع من ثرواتها، فهل تنجح الصين ومن ورائها عدد غير قليل من الدول في موازنة القوى؟ لا شك أن الأيام حُبلي بالمزيد من التغيرات.