يقول خورخي سانتايانا في كتابه (الإحساس بالجمال):

الوعي الإنساني ليس مرآة مصقولة تماماً توجد فيها حدود واضحة، وتظهر عليها صور متعينة محدودة العدد ويمكن إدراكها بشكل مكتمل بالحس، وذلك لأن أفكارنا تطفو ناقصة مؤقتاً حين تخرج من ذلك التيار المتصل الغامض، تيار الشعور الحيوي والحسي المشتت، فهي لا تأخذ الشكل الثابت للأشياء المتميزة الحقيقية، إلا بعد أن يكون قد أصابها التغيير والتحوير … غير أن سيطرتنا على أفكارنا تذهب لأبعد من ذلك، فنحن لا نقتصر على تكوين وحدات مرئية وأنماط يمكن التعرف عليها فحسب، بل نظل أيضاً على وعي بما لهذه الوحدات والأنماط من وشائج تربطها بأشياء لا ندركها بالحس عندئذٍ؛ أي أننا نجد فيها نزعة أو صفة معينة ليست لها أصلاً.

عند محاولة تفكيك العُنصر اللوني في أفلام تشانج يامو، سنجد أن ألوانه لها صدى تعبيري مُدهش داخل الصورة، وهذا واضح جداً في تطويعه للألوان وتشكيله لرمزيات تؤسس لمعنى غير واضح في السرد، وبذلك يكون عُنصراً مُهماً في إكمال التجربة البصرية. في أول أفلامه (الذرة الحمراء) يلعب تشانج في درجات اللون الأحمر، ويُعطيه مساحة أكثر من بقية الألوان، ليأخذ عدة معانٍ خلال السرد في شكل راقات وطبقات، في بداية الفيلم يُشير الأحمر لاستحواذ ذكوري وقهرٍ جنسي لامرأة وحيدة محمولة في صندوق، بعدها يُلمِّح الأحمر لشهوة جنسية تنمو ببطء، وخلال الفيلم يتلون الأحمر بمعانٍ يستحضرها الموقف ليفتح مجالاً أكثر للتفكير، وفي مشهد النهاية الأيقوني يرمُز الأحمر للموت والتضحية ويعُطي انطباعاً ديستوبياً.

من فيلم الذرة الحمراء 1987

في فيلم (جودو) الذي يحكي عن عجوز يملك مدبغة، يتزوج فتاة ويُعذبها، فيما تقع في حُب ابن أخيه، وتُمارس معه الحُب وتُنجب طفلاً. استخدام الألوان في هذا الفيلم كان مُدهشاً، ويقول سمير فريد عن هذا الفيلم:

إننا أمام تحفة بصرية سمعية … موسوعة في استخدام الألوان ليس لها مثيل منذ (ظلال الأجداد المنسيين) لبرادجانوف و(الرجُل الحصان) ليورسفسكي.

يستخدم تشانج ألوان المدبغة ليصنع عالماً خاصاً بالأبطال أنفسهم، يُحيطهم من كُل جانب، ويحتوي مشاعرهم المكبوتة، إنه يصنع عالماً خاصاً بالأبطال من خلال ألوان بديعة، عالماً ضخماً ومُتباين الألوان، وعلى ضخامته يبدو هشاً.

في فيلمه الثالث المصباح الأحمر يعود تشانج لاستخدام لونه المُفضل، اللون الأحمر، والذي يحمل أكثر من معنى خلال الفيلم، بل يُمكننا القول إن اللون الأحمر يُمثِّل عالماً صغيراً داخل العالم الكبير، فالمصابيح الحمراء ترمز لأغراض مُختلفة حسب مقام الشخص وموقعه الاجتماعي والجندري، يدل على السلطة عند الزوجات، والجنس عند الرجل، والوصولية والحب عند الخادِمات.

صورة من فيلم Raise the Red Lantern 1991

ليبدأ جزء آخر من مسيرة تشانج يستخدم فيه الألوان كدلالة على التاريخ، ويصنع مناخاً دموياً ومقفراً في ظل أجواء الحرب أو الثورة الثقافية، بيد أن هناك قفزة هائلة أخذها بعد اتجاهه إلى أفلام الفنون القتالية، ليشرَع في تقديس الألوان بشكل أعظم وأعمق، وبإنتاجات ضخمة، مبتعداً عن الاستخدام التقليدي للألوان.

وفي هذا الاتجاه يحاول تشانج أن يوازن بين ما هو فني وما هو تجاري، ولهذا الاتجاه أسباب واضحة؛ يمكن رؤيتها في حال السينما الصينية المتدهور داخلياً في أواخر التسعينيات، عليه إذا لم يتحول تشانج إلى التجاري، ليس هو فقط بل أغلب المخرجين الصينيين، فستتلاشى السينما الصينية وستنهار.

يبتعد تشانج عن المحاكاة الأرسطية،ـ التي تصور الشيء كما يجب أن يكون أو كما يراه، خصوصاً في الجزء الثاني من مسيرته، بداية من فيلم Hero، ليستهل مرحلة جديدة أكثر تعبيرية من سابقتها، يتعرض فيها تشانج للألوان بطريقة أكثر شاعرية، بحيث نشعر أن هذه الألوان تطفو في ذهن صاحبها لزمنٍ لا نستطيع تقديره؛ لينتج لنا بعدها تلك الانطباعات، والحق أن الألوان نور، والنور يطغى على أغلب أفلام تشانج بطريقة تجعل المشاهد ينسى الظلام.

فيلم HERO: الألوان هي ما تصنع الحكاية

يؤكد الناقد (روبرت بورغوين) أن الألوان والتحركات في هذا العمل تؤسس مدخلاً لفهم السياق الفيلمي كتجربة جسدية للتاريخ. والحق أن الفيلم ينتمي لما يُسميه الناقد نفسه (الحكي بالألوان ــ The Color Narrations) وعليه يخضع فيلم Hero لمعالجة لونية تنقله من سياقه التاريخي إلى مساحة أوسع وأشمل، يستمر المخرج في تجزيء تلك المساحة عبر ثيمات لونية معينة تكشف للمشاهد هوية العالم وماهيته، ولذلك يمكننا ملاحظة تحرك الصورة/الفيلم بين أكثر من نوع فيلمي Genres داخل إطار العالم نفسه عبر استغلال الراقات اللونية، ليخرج الفيلم عن طوره المحلي شديد الخصوصية إلى مرتبة عالمية.
يُبشِّر كل لون في الفيلم بصيغة معينة ويعمل كمُشرِّع لأفعال معينة، فيستمر في إحلال قيم بعينها والتركيز على ثيمات ذات خصوصية فيما ينتزع أخرى من الحكاية بسلاسة شديدة، يقول المصور السينمائي للفيلم (كريستوفر دويل):

لقد اخترنا اللون الأبيض للإشارة إلى التسلسل الحقيقي، واخترنا اللون الأحمر للتعبير عن أن للعاطفة حقيقتها المختلفة. مثل الغرب ترتبط الأنظمة والمفاهيم التصورية الصينية بالعناصر والأشياء وأجزاء الجسم والأصوات … وهذه المنظومة ليست نفياً للتخيُّلات اللونية التي قد يفترضها البعض … بالنسبة إليَّ هذه الألوان ليست أكثر أو أقل مما هي عليه.
صورة من فيلم Hero 2002

يرفض دويل فكرة اللون ذي المعنى الواحد، ويؤكد أن الألوان لا يمكن اختزالها في أنماط أو أنظمة خارجية معينة؛ لأن هذا من شأنه أن يُقلل من الأسلوب الحسي، وعليه فللألوان لغة ذات خصوصية، تتفاعل مع كل شخص بشكل مستقل على حسب خبراته وعلى قدر ما يستطيع استنباطه من الفيلم، ورغم إهمال الألوان على الجانب النقدي في كثير من الأحيان، فإن فيلم Hero يضعنا أمام سردية لونية، لا يُمكن فصلها عن الحكي، ولكن يمكن ملاحظتها كشيء مستقل له تأثيره على الحكاية، باستحضار لغة تختلف عن المعتاد من البصري والسمعي والحركي، وهذه الألوان تطبع كل شيء داخل إطار الحكي.

ما يجعل هذا الفيلم متفرداً عن بقية الملاحم هو تضافر كل العناصر السينمائية ليذوب بعضها داخل بعض، فإذا نظرنا فسنجد المدى الواسع للقطات يسمح للألوان بأن تنفرج على راحتها في الكادر السينمائي وأن تصبغ أكبر عدد ممكن من الأشياء، بجانب تصميم أزياء تنتمي حرفياً لتلك الحقبة الزمنية وصبغها بالثيمة اللونية المطلوبة، بيد أن الشيء المثير للدهشة هو حث القيمة اللونية في الحكي بحيث تفصل بين القصص وتمنح كل قصة منها قدراً معيناً من التعقيد، بحيث يملك ذلك اللون خصوصيته وقواعده من خلال العالم الذي يظهر فيه، ولا يمكن تطبيق قواعده على عوالم أفلام أخرى حتى لو انتمت لنفس المخرج أو نفس النوع الفيلمي، وحتى على المستوى التقني، لا يمكن صنع نفس الشيء مرتين، ويقول كريستوفر دويل حول تلك النقطة:

الأحمر شيء أساسي في المجتمع الصيني، الأحمر مِلْحاح، الأحمر يطغى على كل شيء، الأحمر في فيلم Hero لا يمكن أن يكون الأحمر نفسه في فيلم Raise the Red Lantern.

ويمكننا القول إن اللون يبعث الموتيف مرة أخرى، وينقله من وسيط غير مرئي إلى وسيط مرئي يمكن ملاحظته ولديه القدرة على أن يقود الحكاية، وعندما يتغير اللون يتغير كل شيء، يتغير المكان وتتغير المشاعر، وتختلف اللقطات من حيث الزاوية والاتساع والحجم. في مقابلة له قال المخرج تشانج يامو إن كل لون يمثل قصته الخاصة وزمنه الخاص، ولكن لا يوجد معنى معين وراء كل لون.

كشف المخرج خلال نفس المقابلة عن حبه وتأثره بالفيلم الياباني الرائع (راشامون) لمخرجه العظيم (أكيرا كوروساوا). والحق أن تشانج يامو اقتبس الفكرة الأساسية من فيلم كوروساوا، ولكن بمعالجة جديدة كلياً، بل بسياق قصصي جديد، ركز فيه على الألوان كمرشد للمشاهد.

فيلم Shadow: ما بعد الأبيض والأسود

يتعرَّض فيلم Shadow لمعالجة لونية مختلفة تماماً عن كل الأفلام السينمائية قبله. تبحر الصورة في لجة رمادية وأمواج فحمية، وتتحرك القصة في ظل هذا السياق اللوني الذي يطبع العالم بأكمله، وينسج من خيوطه سردية متفردة، تقتبس مفرداتها السردية من فن صيني شديد الخصوصية، يُسمى Ink wash painting، وهو تقنية فنية تستخدم في رسم لوحات بالحبر الأسود، عبر تخفيف الحبر بالماء وإنتاج ألوان بين الأبيض والأسود وتطويعها للرسم بتفاصيل دقيقة، وهو فن معروف وله رواده في شرق آسيا.

من الصعب بناء فيلم كامل على فن يعتمد على درجة لونية واحدة، ببساطة لأن الورقة أو اللوحة هي وسيط ذو بُعد واحد، أما العمل السينمائي فهو فن ثلاثي الأبعاد، ولكن عندما نرى الكيفية المدرجة في تنفيذ الفيلم، سنرى أننا أمام عمل غير عادي على كل المستويات، أن تصنع لوحات فنية على طريقة فن Ink wash في صورة سينمائية تجربة استثنائية على مستوى التنفيذ والمشاهدة؛ لأن الفيلم لا ينقل واقعاً مرئياً أو تم معايشته من قِبل أناس ينتمون للحقبة التي نعيش فيها، بل يقدم واقعاً مغايراً، يستنبط قيمته من دواخل العالم والشخصيات، لذلك لا نجد استخداماً سوياً للألوان في الفيلم، بل تطويعاً تجريبياً لا يبحث عن نقل الواقع أو إيجاد اللون المناسب للشخصية ككيان طبيعي، كأن ينسخ الواقع بحذافيره، بل يرتكِن لما يُسمى التوصيف الداخلي للشخصية عبر الدرجة اللونية التي تشارك بالجزء الأكبر من المساحة، وبالتالي تخلق العالم وتكوِّن الشخصيات وتستحضر الأفعال بلمسة سحرية ليس فيها قدر كبير من المرونة لكي يتم قياسها أو تطبيقها على عوالم أخرى، بيد أنها تحمل خصوصية العالم نفسه، وتثبَّت على قيمته التي تنعكس على ألوانه.

في الفيلم الذي يتميز بالألوان المقبضة والالتزام بالمحلي ينبعث من كل شخصية قدر من الطاقة عبر ملابسه، الألوان تُعطي الشخصيات روحاً تتماس مع القصة الأصلية التي تنتمي للظل كما عنوانها الرئيسي، فتدور الحكاية في عصرٍ غابر، حيث لكل شخصية مهمة ما يسمى الظل، يشبهه ويكون مسئولاً عن حمايته، بيد أن هناك ضريبة لتلك المهمة ــ يختفي تماماً عن الأنظار ولا يحظى بحياة حقيقية إلا كشخص مُهمَّش ليس له قيمة حقيقية إلا في ثنائية الملك وحاميه. نعرف بعد ذلك أن بلدتهم مُغتصبة ومستولى عليها من قبل غازٍ لديه قُدرة قتالية تفوق قُدرات أهل البلدة لينافسوه. ومن ظل تلك النقاط نبدأ في محاولة فهم الألوان التي تكسو الموجودات، اللون الرمادي والأسود، والضباب ذو اللون الأبيض المشوه، كل هذا يحيلنا إلى دواخل الشخصيات المغلوبة على أمرها، والتي لا تذكر إلا الانتقام والخوف.

صورة من فيلم Shadow 2018

استخدم تشانج يامو أسلوب الحبر لكي يُقحمنا في عوالم قلما نراها، استخدامه للنور والظلام، والتركيز على الثلاثة الألوان (الأبيض ــ الرمادي ــ الأسود) يُلمح بتعقيد النفس البشرية، حتى إنها لا تخضع للون واحد أو تلتجم بقيم واحدة، ويُنبئ بالخطر الذي يُحدق بوجود البطل طوال الفيلم، بجانب استغلاله للطبيعة، واللقطات البانورامية التي تكشف مدى قسوة البيئة المحيطة التي تتكون من عنصرين هما الصخور والمياه، اللذين يغلب عليهما اللون الرمادي والأسود أيضاً، والثلث السماوي الذي يكسوه اللون الرمادي، يُصدِّر شعوراً بالإحباط والكآبة لدى المشاهد.

صورة من فيلم Shadow 2018

إنها محاولة لتجاوز فيلم Hero بصرياً، والتفوق على كل التجارب الفنية المتعلقة بالصورة ليس محلياً بل عالمياً، رغم أن طوفان المؤثرات البصرية الذي يُغرِق العالم؛ يجعل من هذا الفيلم مهمة شديدة الصعوبة، لأن تشانج يامو لم يستخدم أي نوع من المؤثرات البصرية لتجميل الصورة أو طبعها، بل كلَّف صناعاً ماهرين بحياكة ملابس وصبغها ودهان الجُدران وتصميم الأزياء والمواقع، ولم يستعمل إلا القليل من تحسين الألوان ــ Color Grading حتى يصل إلى النتيجة النهائية، ومن الرائع أن تلك المحاولة ليست بهرجة بصرية على حساب بقية العناصر كما يفعل الكثير من المخرجين، بل تجربة فنية تتحرك من أصالة اللون نفسه وتوحُّدِه مع الحكاية التاريخية، ومن سردية اللون تتفرع كل العناصر الأخرى بشكل يكمل الصورة السينمائية، إنها أقصوصة تُروى باللون وتُسرد بالصورة.

المراجع
  1. Colour in the Epic Film: Alexander and Hero
  2. The Study of Traditional Color Aesthetics in Zhang Yimou’s Films — Taking Shadow for Example
  3. A Fantastic Fable An infamous king confronts some determined assassins in the Chinese film Hero, photographed by Christopher Doyle, HKSC.
  4. مخرجون واتجاهات في سينما العالم – سمير فريد