بتواضعهم المعهود المصطنع لا يكف الصينيون عن إرسال رسائل الطمأنة للعالم الغربي، بأنهم ليست لديهم طموحات للمنافسة على قيادة العالم، فقط يريدون نظامًا عالميًّا منصفًا غير خاضع للهيمنة الأمريكية، مثلهم مثل باقي الدول النامية التي مازالوا يعتبرون أنفسهم جزءًا منها.

ففي رسالة الرئيس شي جين بينج إلى الرئيس ترامب بمناسبة تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة، مطلع العام الماضي، وصف شي بلده بأنها كبرى الدول «النامية»، وقال إنه يأمل في «تسوية جميع الخلافات مع الولايات المتحدة وفقًا لمبدأ عدم المواجهة».

لكن المتتبع للنمو المذهل للدولة صاحبة ثاني أكبر اقتصاد بالعالم يدرك بسهولة أن نبرة التواضع تلك لا تعكس بأي حال الواقع الملموس على الأرض، وأنه ليس سوى الهدوء الطويل الذي يسبق إعلان الانتصار الأكبر، والذي يحين موعده وفق الحلم الصيني بحلول الذكرى المئوية الأولى لتأسيس جمهورية الصين عام 2049.

فالجمهورية الحديثة تأسست عام 1949، على يد الرئيس ماو تسي تونج، الذي حكم البلاد بشكل ديكتاتوري حتى موته عام 1976، أرسى خلال رئاسته دعائم الشيوعية، ليتولى بعده الرئيس دينج شياو بينج عام 1978، الذي يعتبر مؤسس مشروع النهضة الصيني، وعلى الرغم من محافظته على النهج الشيوعي شكليًا لكنه تبنى في الواقع سياسة رأسمالية في الاقتصاد، سُميت فيما بعد «الاشتراكية الصينية»، وأبقى على سيطرة الحزب الشيوعي على مقاليد السلطة، لكنه حدد من بعده مدة الرئاسة بعشر سنوات كحد أقصى منعًا لتكرار نموذج تقديس الحاكم الذي كان متبعًا على عهد سلفه ماو، وحدد أربعة محاور للنهضة، هي: تطوير الصناعة، والجيش، والعلم والتكنولوجيا، والإنتاج الزراعي. أرسل البعثات التعليمية للخارج ليصنع جيلًا يستطيع بناء الصين الحديثة.

وبرغم الانتقادات الحادة والاتهامات بالتخلي عن المنهج الشيوعي، فإنه استمر في خطته غير عابئ بذلك، إلى عام 1992 عندما اصطحب وسائل الإعلام في جولته الشهيرة بجنوب البلاد، وأطلعهم على منجزاته التي أبهرت العالم؛ مدن الساحل الجنوبي الشرقي تحولت إلى قلاع صناعية متقدمة بشكل مذهل، إذ كانت نظرية دينج تقول إن تنمية جنوب شرق البلاد وحده كفيل بأن ينقل التنمية تدريجيًا لباقي الأنحاء فيما بعد.

وفي عام 1993 سلم دينج الراية لخليفته جيانج زيمين الذي قطعت البلاد في عهده أشواطًا كبيرة في التقدم، وفي عام 2003 تقاعد زيمين من منصبه، ليختار الحزب بعده الرئيس هوجينتاو، الذي بدوره سار على نفس الخط ولم يتجاوز العشر السنوات ليسلم الراية في عام 2013 إلى الرئيس الحالي شي جين بينج.


الرئيس القوي

شي جين بينغ، الصين
الرئيس الصيني شي جين بينج

لكن شي كسر القاعدة في 11 مارس/آذار الماضي بعدما أقر البرلمان تعديلًا دستوريًا يلغي الحد الأقصى للولايات الرئاسية، مما يمكنه من البقاء في السلطة مدى الحياة. ويعد شي أحد أقوى الرؤساء الصينيين، لدرجة أن آراءه أصبحت جزءًا من دستور الحزب الحاكم، وهو أمر لم يتحقق لغير ماو تسي تونج، مؤسس الجمهورية.

ووفق التعديلات الأخيرة يحتل« شي» بالفعل أعلى ثلاثة مناصب في البلاد؛ فهو رئيس البلاد والأمين العام للحزب الشيوعي، وهو أيضًا رئيس المؤسسة العسكرية، وبذلك سيظل يحكم البلاد حكمًا مطلقًا بدون حدود، وهذا الوضع برغم عيوبه المعروفة فإنه يجعل القيادة السياسية أكثر قدرة على مواجهة التحديات الكبرى، ويقوي موقفها في مواجهة خصوم الدولة، إذ إنه من المعروف أنه عندما تتعدد الجهات المشاركة في صنع القرار الخارجي تتسم السياسات الخارجية بالتردد وبطء رد الفعل، عكس الحال عندما يمسك شخص واحد بكل خيوط اللعبة في يده.

ولعل هذا هو السبب الذي جعل سيد البيت الأبيض يحسد شي على السلطة المطلقة التي لا يمتلك ربعها، ويتمنى لو استطاع الحصول عليها، وأن يمتدح شي واصفًا إياه بأنه «أقوى رئيس صيني منذ مئات السنين»، فلا معارضة برلمانية ولا فصل بين السلطات، ولا سلطان لبشر على تصرفاته ولا يجرؤ على معارضته أحد.

في عهد شي أصبح للبلاد دور واضح في السياسة الدولية، فلأول مرة منذ أمد طويل تتدخل في صراعات لم يكن يتصور يومًا أن تكون لها علاقة بها، كالنزاع السوري الذي وقفت بكين فيه إلى جانب النظام بشكل قوي في مواجهة الثورة، كما برزت الميول التوسعية للبلاد فضمت جانبًا من أراضي جارتها الغربية طاجكيستان بموجب اتفاقية بين البلدين، بعد الضغط عليها وإغراقها في الديون، ومدت حدودها لآلاف الأميال جنوبًا فضمت معظم مساحة بحر الصين الجنوبي بالقوة، مشعلة نزاعات حدودية مع كل من إندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايوان وبروناي وفيتنام، وزادت حدة الخلاف مع اليابان على جزر سينكاكو الغنية بالنفط، وكرس التنين الصيني زعامته لمنطقة شرق آسيا بشكل لم يسبق له مثيل في العصر الحديث.

اقرأ أيضًا: الحرب الباردة في شرق آسيا: مَن في مواجهة من؟


سور الصين البحري وعقدة تايوان

تسعى بكين لضمان امتلاك الكلمة الفصل في فنائها الخلفي أولًا، وهو هنا منطقة جنوب شرق آسيا، قبل أن تضطلع بدورها العالمي المرتقب. وفي سبيل ذلك تتبنى بكل قوة ما يعرف بقضية توحيد الصين، وتعني بذلك على الأخص احتلال جزيرة تايوان التي ظلت جزءًا من البلاد حتى عام 1949، وذلك لأسباب استراتيجية في المقام الأول، فهي تقع في المنطقة التي يطلق عليها الصينيون اسم سلسلة الجزر الأولى، وتشمل كلًّا من بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، وتقع تايوان في القلب منها، والتي تمثل وفق تعبير الجنرال الأمريكي ماك آرثر «حاملة طائرات لا يمكن إغراقها».

فوجود دولة قوية مدعومة أمريكيًّا في هذا المكان يشكل اختراقًا للعمق الاستراتيجي الصيني، إذ تشكل السيطرة على سلسلة الجزر الأولى «سور صين عظيمًا آخر، لكن في الاتجاه المعاكس»، على حد تعبير الأستاذ بكلية الحرب البحرية الأمريكية جيمس هولمز.

اقرأ أيضًا: قضية الصين الواحدة تعود للواجهة

وتشكل تايوان ثغرة في هذه التحصينات، فالجزر المرجانية الصغيرة المتناثرة في تلك المنطقة استعملها الجيش الصيني كقواعد عسكرية وردم أجزاءً من البحر ليبني عليها مهابط للطائرات وقواعد للصواريخ، لذا فإن مصير جزيرة تايوان سيحسم إلى حد كبير مسألة تحول التنين الأصفر لقوة عالمية، فإن نجح في احتلال الجزيرة فحينها ستتحرر طاقاته العسكرية وتتجه للخارج بشكل يبدو الآن مستحيلًا، وفقًا للباحث والأكاديمي الأمريكي روبرت كابلان.

وقد تصدر الحديث عن أزمة تايوان اهتمامات المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي الذي اختتم أعماله في 24 أكتوبر 2017، مما يوحي بأهمية القضية وحساسيتها الشديدة.


الحلم الصيني

يعتبر المؤتمر الوطني أهم الفعاليات السياسية الصينية على الإطلاق، ينعقد مرة واحدة كل 5 سنوات، ليقيم فيها الإنجازات ويرصد الإخفاقات، ويرسم استراتيجية العمل خلال السنوات الخمس المقبلة. يتابع مدى الاتساق مع استراتيجية الحلم الصيني بتحويل البلاد إلى دولة «حديثة غنية قوية متحضرة ومتناغمة» بحلول ذكرى المئوية الأولى لتأسيس جمهورية الصين عام 2049، حيث من المفترض أن تكون البلاد حينها أقوى دول العالم وأكثرها تقدمًا ورفاهًا.

وتنقسم مسيرة الحلم إلى مرحلتين؛ أولاهما تنتهي عام 2021 في الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الحزب الشيوعي، والذي بحلوله تكون التنمية قد عمت جميع مناطق البلاد، فالصينيون الآن يسابقون الزمن إذ لم يعد لديهم إلا ثلاث سنوات فقط للتخلص نهائيًا من مشكلة انخفاض مستوى المعيشة في المناطق الريفية والأطراف الشمالية والغربية للبلاد.

وتنقسم المرحلة الثانية إلى جزأين، تنتهي الأولى منهما عام 2035، وكالعادة تظل الخطط الدقيقة لتلك المراحل في طي الكتمان ولا تظهر تفاصيلها إلا بعد أن يتفاجأ بها المراقبون، إذ تكتفي البيانات الرسمية بالأوصاف الإنشائية ذات المدلولات الواسعة.


تطوير الجيش

الصين, الجيش الصيني, جنود
مجموعة من الجنود الصينيين في استعراض عسكري

كان تطوير الجيش محورًا مهمًا ضمن مشروع النهضة، فتحول من جيش عقائدي يعتمد على الكثرة العددية إلى جيش حديث يعتمد على الكيف ويستخدم أحدث التكنولوجيا، واستفاد كثيرًا من الروس في سلاح الطيران وصناعة الغواصات، وحقق تقدمًا كبيرًا أذهل الغربيين في مجال التحكم بالأقمار الصناعية والقدرة على استهدافها والتشويش عليها، بل خطفها من قلب مداراتها في الفضاء، بالإضافة إلى برنامج الصواريخ الذي تُنفق عليه الأموال الطائلة لتطويره باستمرار، والذي كان آخر إنجازاته هو إنتاج فئة جديدة من صواريخ pl-15 جو-جو الأربعاء الماضي، بمدى يتجاوز الصواريخ طويلة المدى التي تعاقدت وزارة الدفاع الأمريكية مع شركة رايثون لتصنيعها في مارس الماضي.

وعلى الرغم من أن الجيش الآن يحتل مرتبة ثالث أقوى جيش على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا، فإن الوصول للمركز الأول ليس بالأمر الهين، فسلاح الجو والبحرية بالذات مازال أمامهما وقت طويل ليستطيعا منافسة الأمريكان، فلا تزال الصين تختبر أولى خطواتها مع طائرات الجيل الخامس، حيث بدأت الأربعاء الماضي أول تدريب للطائرة (J20) فوق البحر، بينما يستخدم الجيش الأمريكي مقاتلة (F22 raptor) التي تنتمي لهذا الجيل منذ عام 2005.

اقرأ أيضًا: العسكرية الصينية: التحولات الكبيرة تبدأ دائمًا من الجيش

بالنسبة للقوة البحرية لا يمتلك الجيش حتى الآن سوى حاملة طائرات روسية،وأعلنت وكالة أنباء شينخوا الأحد الماضي بدء أولى محاولات تجربة أول حاملة طائرات مصنعة محليًا، ومن المتوقع أن تدخل الخدمة بعد عامين، وفي حال نجاحهم فستكون علامة فارقة في مسيرة سد الفجوة التسليحية مع الأمريكان، إذ كان من ضمن الأهداف التي طرحها الرئيس شي في المؤتمر الوطني «تسريع بناء بلادنا دولة قوية بحريًا».

فالبحرية هي التي تمد سلطان الدول العظمى إلى أنحاء العالم، وهي التي تحمي الأساطيل التجارية، ولذا بدأت بكين في تشييد قواعد عسكرية لقواتها في البحار البعيدة، فبدأت بقاعدة في جيبوتي وأخرى في ميناء جوادر بباكستان، مازالت تحت الإنشاء. هذا فضلًا عن وجود قواعد تجارية واستثمارية ضخمة لم تتم عسكرتها بعد، في جميع المضايق والممرات الملاحية الحيوية كقناة بنما وقناة السويس ومضيق جبل طارق ومضيق ملقا، كما تعمل على شق قناة خاصة بها في نيكاراجوا أوسع وأطول من قناة بنما، تصل بين المحيطين الأطلنطي والهادي.

وعلى عكس الدول الأخرى لم يشكل تطوير الجيش عبئًا باهظًا يثقل الاقتصاد، بل إن الاستثمارات العسكرية تشكل داعمًا ماليًا مهمًا للدولة، من خلال سياسة «الاندماج بين القطاعين العسكري والمدني»، فالجيش يعقد صفقات سلاح بالمليارات مع جيوش دول أخرى.


الحرب الخفية

يشكل الاقتصاد الساحة الأوسع للمنافسة بين واشنطن وبكين. راهن ساسة البيت الأبيض من قبل على أن الاقتصاد هو السلاح الفعال لهزيمة منافسيهم على غرار ما حدث للاتحاد السوفيتي، لكن التنين الأصفر تعامل مع الأمر بدهاء شديد، فلم يواجه الولايات المتحدة بل تماهى مع خططها وباغتها من حيث لا تحتسب، فالمنافسة التجارية الناعمة حولت الولايات المتحدة بنسبة كبيرة من دولة صناعية كبرى تحتكر الطاقة الإنتاجية الأكبر في العالم لدولة مستهلكة لما ينتجه الصينيون، ما تسبب في أزمة بطالة وركود في اقتصاد الدولة العظمى بشكل غير مسبوق.

وفي الحرب التجارية استحلت بكين كل الطرق لتصل إلى مبتغاها، فلا تعترف بالملكية الفكرية، ولا حقوق الشركات صاحبة الماركات العالمية، ولا المعايير البيئية، وقرصن الهاكرز الصينيون كميات هائلة من البيانات السرية للمصانع والشركات الأمريكية، لا سيما الكبرى منها، بل استولوا على البيانات السرية للحكومة الأمريكية بما فيها البيانات العسكرية، واستولوا على تصميمات أسلحة حديثة، فهناك فرع متخصص في الحرب السيبرانية اسمه الجيش الأزرق، وظيفته الأولى اختراق قواعد البيانات الأمريكية، وقد نجح في مهمته لدرجة أنه استطاع الحصول على البيانات الشخصية الكاملة للعملاء السريين لوكالة المخابرات المركزية CIA حول العالم، بما فيها بصمات الأصابع وفصائل الدم.

اقرأ أيضًا:الأمن السيبراني: هل وقفت الصين وراء هجوم Wannacry الأخير؟


اغتصاب الولايات المتحدة!

الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»

أدى اكتساح المنتجات الصينية للسوق العالمية وأسعارها التنافسية لاستسلام الشركات العملاقة أمام الزحف الأصفر، فنقلت خطوط إنتاجها إلى الصين حيث العمالة الرخيصة، تاركةً البطالة تتفشى في الغرب، وأصبحت الصين مصنع العالم. هضم خبراؤها أسرار التكنولوجيا ولم يكتفوا بإدارة ماكينة الصناعة الغربية، بل بدأوا يصنعون علامات تجارية خاصة بهم، فأصبحت هواتف هواوي وشاومي مثلًا تنافس هواتف نوكيا وآبل وتزاحمها في الأسواق، وغير ذلك من المنتجات ذات الميزة التنافسية العالية.

وقد أحدثت وقائع تلك المعارك التجارية دويًا هائلًا في الغرب حتى أن أحد أسباب اختيار الناخبين لترامب وعوده بالتصدي لهذا الغزو وإنقاذ الصناعة الوطنية بعد أن أغلقت آلاف المصانع أبوابها. حيث تعهد حينها بأنه لن يسمح للصين بأن تواصل «اغتصاب» بلاده وتمارس «أكبر عملية سطو بالتاريخ».

وبالفعل فرض ترامب مؤخرًا رسومًا حمائية على صادرات الصلب والألمنيوم واستثنى منها دولًا كثيرة، وأعلن الممثل التجارى الأمريكى روبرت لاتيرز أن المستهدف من الأمر هو الصين، وبعدها تم الإعلان عن رسوم جديدة ستفرض اعتبارًا من 22 مايو الجاري تنال نحو 50 مليار دولار من المنتجات التي يستوردها الأمريكان من بكين، التي هددت بالرد من خلال فرض ضرائب بنفس القيمة على وارداتها من واشنطن، وقد دافع وزير التجارة الأمريكي ويلبور روس، عن الرسوم باعتبارها محاولة لإفشال المخطط الصيني «المخيف»، المسمى بـ«صنع في الصين 2025» والهادف للسيطرة على جميع الصناعات الحديثة في العالم، إلا أن أكثر من 1100 خبير اقتصاد أمريكي أرسلوا رسالة إلى البيت الأبيض حذروا فيها من أن الإجراءات ستصيب اقتصادهم في النهاية بأضرار بالغة.

ويسعى التنين الأصفر أيضًا لزعزعة عرش الدولار وترسيخ مكانة اليوان دوليًا، الذي منذ اعتماده ضمن سلة العملات العالميةفي صندوق النقد الدولي، مطلع أكتوبر 2016، سار بقوة في طريقه للعالمية، فأصبح عملة متداولة لدى حكومات جنوب أفريقيا وغانا ونيجيريا وموريشيوس وزيمبابوي، ومؤخرًا أعلن الصينيون عن خطتهم لاستبدال اليوان بالدولار في التعاملات النفطية، وهي خطوة مضرة جدًا بالدولار الذي يستمد قوته بالأساس من النفط، منذ أن بدأ تسعير البترول به عام 1974، ثم بدأ يكتسب المزيد من القوة حتى أصبحت معظم التعاملات الدولية تتم باستخدامه، واليوم تجد الصين أنه من المنطقي أن يتم تسعير النفط بعملتها بعدما تجاوزت الولايات المتحدة في حجم استيراد منتجات الطاقة والوقود في العام الماضي.

اقرأ أيضًا:هل يستطيع اليوان الصيني أن يحل محل الدولار الأمريكي؟

وقد ابتلعت العولمة بالقدر الذي يفيدها ولفظت منها ما رأت فيه مساسًا بمصالحها، وانخرطت في النظام الدولي الخاضع للهيمنة الغربية بالقدر الذي يمكّنها من الاستفادة من خيراته وتستطيع أيضًا الإضرار به وتقويضه من الداخل، فهي اليوم تمتلك أكبر احتياطي من العملات الأجنبية في العالم، وهي الدائن الأكبر لواشنطن، ما يجعلها قادرة على التحكم في سعر صرف الدولار بدرجة كبيرة.


الإمبراطورية ذات القبضة الحديدية

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

بالتوازي مع التقدم المادي احتل الإنسان أهمية كبيرة في مشروع الحلم الصيني، ولكن ليس بهدف إعلاء قيمته ودعم حريته، بل لاستغلاله وتوجيهه لخدمة المشروع، فالرئيس شي في المؤتمر الوطني الأخير شدد على أهمية «توارث الجينات الحمراء»، أي نقل الأفكار الشيوعية بالطريقة الصينية إلى جميع أبناء الشعب والتأكد من إلزامهم والتزامهم الحرفي بها، وتم النص صراحة في المؤتمر الأخير على ضرورة «صيننة الأديان»، أي محاولة تعديلها وإعادة صياغتها وتفسيرها لتتأقلم مع الاشتراكية التي لم تسلم هي الأخرى من «الصيننة»، فكل المفاهيم تعاد صياغتها لتخضع لتفسير الحزب الواحد والزعيم الواحد الذي يجمع كل مقاليد السلطة والقوة والنفوذ في يديه.

اقرأ أيضًا:عبادة الدولة: كيف نجحت الدولة في صنع دين جديد للبشرية؟

ولذلك تمارس الأجهزة الحكومية رقابة صارمة على مواقع الإنترنت، وقد تعززت هذه القبضة خلال الفترة الأخيرة على إثر التطور التقني الذي أحرزوه، ففي البداية سمحت بكين لشركات التكنولوجيا الأمريكية، مثل جوجل وفيسبوك وتويتر، بالعمل في بلادها، ثم لما امتلك الصينيون الخبرات التقنية من تلك الشركات طردوها واستبدلوا بها شركات محلية، وأعلنوا أنهم لن يسمحوا لها بالعودة إلا بعد رضوخها لشروط الرقابة المحلية الصارمة، بل إن الشيء المرعب حقًا هو بدء الشركات الحكومية في تطبيق نظام جديد يستخدم تكنولوجيا قراءة الدماغ يتيح كشف الحالة النفسية للموظفين ومعرفة مشاعرهم تجاه الآخرين، وبالأخص مديريهم، مما أثار المخاوف من ظهور «شرطة الفكر» التي تحاسب الناس على الأفكار التي تدور في أذهانهم.

ولذا في إطار خطتها لتحقيق الانسجام والتناغم القسري بين مختلف أطياف الشعب تواجه السلطات كلًّا من الأغلبية البوذية في إقليم التبت، والأغلبية المسلمة في تركستان الشرقية، والذي يطلق عليه صينيًّا اسم «شينكيانج»، بالقمع الشديد، حيث تقبع أعداد هائلة من أقلية الإيجور المسلمة فيما يسمى بـ«مراكز إعادة التوعية»، وهي عبارة عن معتقلات يتم فيها إجبارهم على اعتناق الفكر الشيوعي وترديد الهتافات التي تمجد الحزب الحاكم.

اقرأ أيضًا:الصين تجبر المسلمين على شرب الكحول وأكل الخنزير

وبالرغم من سماح الحكومة ببناء المساجد والمطاعم والمدافن الشرعية، فإنها تناهض أي مساعٍ لتعميق الهوية الدينية بين أبناء الأقلية المسلمة، حتى أنها رصدت مكافأة مالية كبيرة لمن يدلي بمعلومات عن أي رجل ملتحٍ أو امرأة ترتدي النقاب في الإقليم، كما تحظر دخول الأطفال إلى المساجد وتجبر الطلبة على الإفطار يوميًا في رمضان، وتمنع تسمية المواليد بالأسماء ذات الدلالات الإسلامية، على اعتبار أن ذلك يعزز الانتماء الديني، وهو أخشى ما تخشاه السلطات التي تريد حصر الممارسات الدينية في بعض الطقوس الشكلية فقط، بينما يكون انتماؤهم الحقيقي وولاؤهم الأول للحزب الشيوعي والرئيس شي.

ونفس الممارسات تتبعها الحكومة تجاه بوذيي إقليم التبت، فتقيد بشدة الحرية الدينية وحرية الكلام والحركة والتجمع، وتقوم بعمليات طرد جماعي للرهبان والراهبات، والشيء الأكثر غرابة أن الحكومة الشيوعية تريد أن تحتكر حق اختيار الزعيم الروحي للديانة البوذية، فاختارت أحد أتباعها ليكون الخليفة المرتقب حال موت الزعيم الروحي الحالي، الدالاي لاما، الذي يبلغ من العمر 82 عامًا، والذي يعيش في المنفى منذ احتلال الصينيين لبلاد التبت عام 1950، وهو ما يرفضه التبتيون بشدة، ووصل بهم الأمر لتنظيم مراسم احتجاجية يقدم فيها عدد منهم على الانتحار اعتراضًا على الاضطهاد الشديد الذي تمارسه الحكومة بحقهم.

رفضت الحكومة الصينية قرار مجلس الشيوخ الأمريكي، الشهر الماضي، الذي حصر حق اختيار الزعيم الروحي الجديد في يد مسئولي المكتب الخاص بالدالاي لاما الـ14 فقط، واعتبر أي تدخل من الحكومة في اختياره باطلًا، إذ يصر الحزب الشيوعي على الاحتفاظ بالسيطرة على تعيينات جميع الهيئات الدينية ومنشوراتها وأمورها المالية وشئون التعليم الديني.

أما بالنسبة للمواطنين الذين يعيشون في الخارج فلهم دور أيضًا في مشروع الحلم الوطني، فقد أكد شي ضرورة التواصل معهم أينما كانوا في جميع دول العالم، إذ يعتبر نفسه الأب الروحي لهم، ففي إندونيسيا وماليزيا على سبيل المثال يسيطر الصينيون على معظم الاقتصاد ويتلقون دعمًا من بكين، التي تعتبرهم بمثابة أذرعها الضاربة وأدواتها للتحكم في تلك الدول.