أن تتقمص عدوك: الصين من دور الضحية إلى دور القاتل
ميهرجيل تورسون… قد يبدو اسمها غريباً بعض الشيء، لكن قصتها صارت معروفة لدى الكثيرين، فتورسون السيدة ذات 29 عاماً والتي ولدت في الصين، كان من حظها الجيد أن تخرج من بيت الرعب إلى فضاء الصمت.
سافرت تورسون إلى مصر لتدرس الإنجليزية، وهناك تعرفت على شاب مصري صار فيما بعد زوجها، وأباً لأطفالها التوائم، وقد استقر بها المقام في مصر مع زوجها وأطفالها دون أن يكون هناك ما يُعكر صفو حياتها، حتى قررت في 2015 أن تسافر إلى الصين لتزور أهلها بعد طول غياب، وبصحبتها توائمها الثلاثة.
حتى كان من قدرها أن تعتقلها السلطات الصينية لمدة 3 أشهر، لم تعرف تورسون سبباً لها، خرجت بعد ثلاثة أشهر وقد مات أحد توائمها الثلاثة، وأصيب الاثنان الآخران بمشاكل صحية.
مرّ عامان على الحدث حتى اعتقلتها السلطات الصينية للمرة الثانية، لتخرج بعدها بعدة أشهر، ثم تخضع للاعتقال للمرة الثالثة، لكنها وفي هذه المرة كانت بين جنبات «مدينة الوحدة»، لتمر بتجربة ستظل باقية في ذهنها لبقية الدهر.
كانت تورسون داخل زنزانة مع 60 امرأة أخرى في مكان واحد، كانت تُجبر على قضاء حاجتها أمام أعين كاميرات المراقبة، وكان عليها أن تغني طوال اليوم رفقة زملائها أغاني تمجد الحزب الاشتراكي الصيني الحاكم، في نفس الوقت الذي كانت تنام فيه رفقة الـ60 سجينة في نفس المكان على جنوبهم، حتى يستطيع المكان استيعابهم.
كانت تلك المرة هي الضربة القاصمة بالنسبة لتورسون، فكل ما مضى كان جزءاً من قصة أكبر، كانت تُجبر هي وزميلاتها على تناول حبوب أدوية لم تكن تعرفها، بجانب أنواع أدوية سائلة، تسببت في إصابة بعض النساء هناك بالنزيف الحاد، وأخريات سقطن موتى، وقد ذكرت تورسون أنه خلال الثلاثة أشهر التي قضتها هناك، سقط 4 نساء على الأقل، ومن لم تمت كان ينتابها نوبات مرض وإرهاق وشحوب.
تلقت تورسون جلسة تعذيب بالكهرباء، سمعت فيها الجندي وهو يخبرها بأنها «مجرمة»، لأنها من الإيغور المسلمين.
خرجت تورسون من السجن ثم سافرت إلى مصر، ومن هناك قصدت السفارة الأمريكية بالقاهرة، لتحصل على تأشيرة الدخول للولايات المتحدة، ومن هناك روت قصتها.
تركت أختي «زُهرة»!
تاريم… رجل أعمال إيغوري يبلغ من العمر 48 عاماً، عاش زمناً طويلاً في أورمقي، عاصمة مقاطعة «سنجان» الصينية، التي تغلب عليها الأقلية المسلمة، روى حكاية أخته التي اعتقلتها السلطات الصينية وأدخلتها معسكر «إعادة التأهيل الفكري» حيث إنه اضطر لدفع 20 ألف يوان صيني لبعض ضباط الشرطة هناك للسماح له بمقابلة أخته، مما جعله يرنو بسقف أحلامه إلى أن يحررها من المعسكر مقابل أي مبلغ من المال، لكنهم أخبروه أن ذلك مستحيل، وأن أقصى ما قد يحصل عليه هو مقابلتها لدقائق قليلة.
تحرك تاريم نحو الجنوب الغربي، ليقابل أخته حسب الاتفاق، حيث مكان اعتقالها، قرب مقاطعة شايار الواقعة بمدينة أكسو.
دخل تاريم عبر أكثر من نقطة تفتيش، تألف آخرها من 25 جنديًا ورجالًا لا يرتدون الزي العسكري، بالإضافة إلى سيارات مصفحة، وبعد أن وصل شاهد ما يقارب 500 شخص بدا أنهم وصلوا لتوهم إلى المعسكر، وقد ارتدوا جميعهم زياً موحداً يحمل اللون الأزرق السماوي، برؤوس محلوقة تماماً.
وصلت «زُهرة» – والتي كان لها نصيب من اسمها- بوجه شاحب وعلامات حول عينيها، وخوف يغمر وجهها ودموع تخشى الخروج من محجرها، قابل تاريم أخته ذات الـ33 عاماً وهي أضعف من أن تتحدث.
كان خلاصة ما قالته زُهرة حينها أنها تخضع لفترة تعلم ستمر بعدها باختبار، وإذا ما نجحت في الاختبار ستحصل على حريتها، وانتهت الزيارة بعد 10 دقائق… 10 دقائق كانت كافية ليحزم تاريم أمتعته ويغادر الصين كلها.
من هم الإيغور؟ ولماذا تكرههم الصين؟
هي ليست بالدولة وليست بالتابعة، لكنها كانت واحدة من المدن ذات الطابع الخاص، فحدود «سنجان» بجانب مرورها بطريق الحرير، فهي تتقاطع مع الحدود الرسمية لثماني دول، هم: (منغوليا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وروسيا، وطاجيكستان، وباكستان، والهند، وأفغانستان).
سكنها الإيغور المسلمون منذ قرون، والإيغور هم مسلمون ذوو أصول تركية من حيث المنشأ واللغة. سكنوا سنجان ومارسوا التجارة والزراعة واستطاعوا العيش في حياة مستقلة… بعيداً عن الاحتلال في رغدٍ من العيش… وبعيداً عن الحروب والمعارك، حتى سقطت في يد الحكم الصيني في القرن الثامن عشر، لتحصل عام 1949 على استقلالٍ لم يدم طويلاً، فبعدها بعام واحد، أصبحت سنجان جزءاً من حكم دولة الصين الاشتراكية (الصين الحمراء).
عاش الإيغور سنواتٍ طويلة في صراع ومواجهة مع الصين للحصول على الاستقلال، كانت جلها تظاهرات واحتجاجات في الشوارع للمطالبة بالاستقلال، قوبلت جميعها بالمواجهة العنيفة والقمع.
قدم الكثيرون تبريرات بعضها منطقي وبعضها الآخر ربما لم يعد مناسباً لتطور الأحداث، فواحدة من التبريرات التي اشتهرت لفترة من الزمن، هو أن الصين ترغب في السيطرة على تلك النقطة الاقتصادية المهمة من طريق الحرير، وكأنها تكرر نموذج حرب الأفيون البريطانية على الصين، والتي وقعت خلال القرون الماضية، وقد تناسب التبرير مع موجة وقائع الاستعمار المشابهة على عديد من الدول بغرض السيطرة الاقتصادية، كما كان الأمر في العراق، وتحول معركة البترودولار الأمريكية، إلى معركة للقضاء على «أسلحة الدمار الشامل».
لكن التساؤل الأكثر مشروعية، إذا كانت المعركة من أجل السيطرة الاقتصادية، فما الذي حول القصة لتطهير عرقي يتمحور هدفه الرئيسي حول تغيير الطابع العقدي والثقافي لفئة احتفظت بدينها منذ قرون ولم تتخل عنه؟
لا يكمن التساؤل فقط حول مشروعية اعتقال أقلية دينية وحسب، ولكن إجبار أفرادها على تناول لحم الخنزير وشرب الخمر، فقط من أجل أن تتنصل تلك الفئة من دينها فعلياً، ثم تأتي الخطوة التالية، بتعيين رجل صيني يسكن مع أفراد العائلة للتأكد من التزامهم بالتعاليم الجديدة، والتأكد من عدم قيامهم بصلوات المسلمين، أو حتى تلاوة الدعاء قبل تناول الطعام.
تلك هي التبريرات التي لم تعد تجدي نفعاً في الحقيقة، فالصين لم تعد ترى أن الإيغور مجرد أقلية تحمل ديانة أخرى على غير ما يؤمن به عوام الصينين، بل ربما وجدت أن تمسك الإيغور بالجانب العقدي في قلوبهم سيظل دائماً المحرك الرئيسي لهم للمطالبة بالاستقلال والعودة لما قبل مأساة 1949، والمؤسف أنه حتى الآن لا يلوح في الأفق ما يدل على نهاية قريبة لمأساة محاكم التفتيش بنسختها الجديدة.
حينما ظُلم الصينيون!
احتاج الصينيون لسنوات عدة بل ولعقود ليرووا قصصاً كاملة من داخل معسكرات التعذيب اليابانية التي نصبها الجيش الياباني للصين بعد مذبحة «نانجينج»، وقد يفسر ذلك قلة القصص المسربة من داخل الواقع الإيغوري. لكننا الآن بصدد العودة لما قبل المأساة، حيث مأساة أخرى حفظتها سجلات التاريخ، واعتذرت عنها اليابان فيما بعد.
فقد كان الشق الآسيوي شريكاً فاعلاً في تقديم الضحايا بمئات الآلاف، في فترة الحرب العالمية الثانية، وكذلك في السنوات الساخنة في مرحلة ما قبل الحرب.
ففي 13 ديسمبر/كانون الأول عام 1937، وفي خضم توسعات هتلر الأوروبية التي مهّدت لاحقاً لنشوب الحرب، دخل الجنود اليابانيون إلى مقاطعة نانجينج الصينية، وارتكبوا واحدة من أبشع المذابح الدموية عبر التاريخ، حيث قاموا بعمليات قتل واغتصاب جماعي وصل عدد ضحاياها إلى 300 ألف ضحية بحسب بعض التقديرات.
وصلت شهادات الناجين بعد أعوام من المذبحة، بعد أن تلقت اليابان هي الأخرى، مذبحة أكثر بشاعة في هيروشيما وناجازاكي.
وين سونشي
كتب لها القدر أن تكون زوجة قبل الاقتحام بعامٍ واحد، قبل أن تُفاجأ وهي جيرانها بوصول القوات اليابانية إلى مدينتهم. ودون أي مقاومة عسكرية تُذكر أو مؤشراتٍ لنشوب قتال، دخلت القوات إلى المساكن واقتادت النساء منها إلى المباني التي خضعت لسيطرة القوات.
روت سونشي أنها اقتيدت من مأوى اللاجئين – الذي اختبأت فيه هي وجيرانها- صحبة 18 امرأة أخرى إلى أحد المباني المُسيطر عليها، ثم قادها أحد الجنود إلى غرفة واغتصبها تحت تهديد القتل بالسكين.
وبحسب رواية سونشي، فالأمر لم يكن مقتصراً على صغار السن، فحتى المسنون لم يكونوا بمأمن من ويلات الاقتحام، فجارتها – صاحبة الثمانين عاماً- تعرضت للطعن بسكين داخل منزلها الذي لم تغادره، لاعتقادها أنها في أمان بسبب اعتبارات تقدمها في السن.
شين ديشو
كان طفلاً حينها، وكان والده صاحب محل أقمشة ووالدته ربة منزل، وكان منزلهم منزلاً عائلياً بامتياز، يجمع الجد والجدة والعمة أيضاً، وكان ذلك التجمع العائلي جزءًا من الكارثة وجزءًا من حلها.
فقد داهم الجنود اليابانيون مقاطعتهم وتفاجئوا ذات يوم بجندي كبير في السن نسبياً يدخل عليهم المنزل، ومن الخوف حاولوا أن يقدموا له الحلوى كنوع من الترحيب حتى يرحل عنهم ولا يؤذيهم، لكن رده حينها كان إعلاناً عن رغبته في شيء آخر، وقد كان مقصده هي «العمة» الموجودة في المنزل، فأم شين كانت حاملاً في طفل ولن تصلح، وحينما اقتاد الجندي العمة قاومته بكل قوة، فما كان منه إلا أن طعنها أربع طعنات بخنجره وتركه مضرجة بدمائها ورحل عن المنزل.
لثلاثة أيام كانت العائلة في حال لا تُحسد عليه، فالزوج قد خرج للقتال ولم يعد بعدها أبداً، ومن تبقى في المنزل جد وجدة مسنان وأم حامل، وليس من بينهم من يمكنه أن يحمل جثمان شابة ميتة لدفنها.
ظل الجثمان في مكانه لثلاثة أيام حتى دخل عليهم جندي ياباني شاب، تحدث معهم بلطف غير معتاد بعد إعلانه أنه دخل إلى منزلهم مصادفةً، قال لهم إنه لم يكن يريد أن يكون ضمن هذه الحرب، وأنه مُجبر على ذلك، وبعد أن تحدثت الأسرة معه، ساعدهم في وضع الجثمان في نعش، وقاموا بدفنه، وغاب الجندي بعدها ولم يلتقيا من جديد.
بإمكاننا أن نُعدِّد كل قصص الضحايا، أو نُؤلِّف كتاباً يجمع كل الشهادات التي رواها أصحابها بعد كل ما عايشوه خلال الحرب، لكن ها هي الصين بين ماضٍ كانت فيه الطرف الأضعف، الطرف الذي لم يكن يمتلك عصاً يحمي بها نفسه أو بشراً يحملون نعش ميته؛ وحاضرٍ قررت فيه تقمص دور المعتدي… ويظل التساؤل حاضراً: إلى أين سيقود هذا الدور مصير مسلمي الإيغور؟