معجزة تشيلي و«صبيان شيكاغو»: فقاعة النجاح المزعومة
أثارت تغريدة رجل الأعمال المصري الشهير نجيب ساويرس خلال الأيام الماضية جدلًا كبيرًا حول نموذج تشيلي التي يصر البعض بتعريفها على أنها «معجزة اقتصادية» تحققت في عهد الجنرال بينوشيه، رغم كون ذلك النظام العسكري شديد الديكتاتورية والدموية، مما يدفع البعض كما اندفع المهندس نجيب بتصور أن هناك نظمًا عسكرية تستطيع تحقيق طفرات اقتصادية وتنموية بشرط الاعتماد على كفاءات مثل بيونشيه الذي جلب أبناء مدرسة شيكاغو الاقتصادية، ومنحهم حرية الإدارة الاقتصادية الكاملة، فهل تحققت تلك المعجزة الاقتصادية بالفعل؟
في عام 1973، ومع استيلاء الجنرال بينوشيه على السلطة في تشيلي وإطاحته بسلفه الاشتراكي أليندي، انفتح الباب أمام مجموعة الاقتصاديين التشيليين الشباب الذين تخرجوا من برنامج التبادل العلمي مع جامعة شيكاغو، تحت إشراف أستاذ الاقتصاد ميلتون فريدمان أبي «النيوليبرالية»، والذي اشتهر لاحقًا بكونه مستشارًا للرئيس الأمريكي ريغان، ورئيسة الوزراء البريطانية «مارجريت تاتشر».
سياسات أليندي الاشتراكية كانت النمط السائد في دول أمريكا اللاتينية، تعظيم من دور الدولة والقطاع العام، سياسات حمائية في التجارة الخارجية، تنمية داخلية عبر إعطاء الأولوية للتصنيع للخروج من التخلف، وأيًّا كانت الانحيازات الأيديولوجية، فإن هذا النموذج الذي لم يستمر كثيرًا عانى كثيرًا من المصاعب، فارتفعت مستويات التضخم إلى خانة الأرقام الثلاث بمعدل تجاوز الـ 150% فلم يكن البنك المركزي مستقلًّا نتيجة توسع الإنفاق العام ونتيجة تأميم القطاع المصرفي، وحققت الحكومة معدلات نمو متواضعة أقل من 1%، مع تزايد في عجز الموازنة نتيجة توسع نشاط الحكومة الذي ضم أكثر من 500 شركة في مختلف القطاعات الإنتاجية، مع سياسات تأميم للنحاس – أهم مصدر ثروة من المواد الخام في تشيلي – وتكثيف لعمليات الإصلاح الزراعي واسعة النطاق، هذا النموذج الاشتراكي غير المكتمل، كانت ثمرته الرئيسية هو أدنى معدلات للبطالة بأقل من 1% بالمقارنة مع العقود التالية.
أبناء شيكاغو، وفي مقدمتهم وزير الاقتصاد دي كاسترو، وضعوا نصب أعينهم تحرير الاقتصاد التشيلي من القيود، واستهداف خفض معدلات التضخم العالية وتحقيق معدلات نمو سريعة تستطيع تشغيل أكبر قدر من العمالة، ووضع سياسات جاذبة للاستثمارات الأجنبية والتدفقات المالية عبر تعظيم حماية الملكية الفردية وتهيئة المناخ لتلك التدفقات.
فبدأوا ببرنامج خصخصة واسع النطاق، نجح في تقليص شركات القطاع العام من 594 شركة في عام 1973 إلى 48 شركة خلال 10 سنوات، كان المستفيد الأكبر من هذه العمليات هم مجموعات من النخب المالية المرتبطة بأبناء شيكاغو والنظام الجديد بشكل مباشر، تمكنوا خلالها من الحصول على أرباح ضخمة، مع غياب أي شكل للرقابة والمحاسبة على عمليات الخصخصة وبيع الأصول نتيجة انعدام النظام الديمقراطي، فيما يعرف برأسمالية المحاسيب، على سبيل المثال شركة إس كيو إم، المنتجة الرئيسية لليثيوم في تشيلي اشتراها صهر بينوشيه، خوليو بونس، وهي اليوم واحدة من أكبر 5 شركات ليثيوم في العالم، وهذا الشخص هو ثاني أغنى ملياردير في تشيلي.
عملية الخصخصة تزامن معها تقلص عدد العمالة في القطاع العام إلى النصف، وأصبح الاقتصاد التشيلي أكثر اندماجًا في الاقتصاد العالمي، حيث ارتفعت نسبة الصادرات والواردات من الناتج المحلي الإجمالي من 17% في عهد أليندي إلى 38% في عهد بينوشيه، وخلال الفترة من عام 1977 وحتى 1980 حققت تشيلي بالفعل معدل نمو سنوي بلغ 7.9%، وانخفضت التعريفات الجمركية من 94% كحد أقصى إلى رسوم ثابتة بنسبة 10% لتشجيع الاستيراد، مع إلغاء العديد من الضرائب العامة لتشجيع عملية النمو وتحفيزها، وخفض عدد النقابات.
سياسة العلاج بالصدمة التي نفذها أبناء شيكاغو وتلاميذ فريدمان، كانت تستهدف خفضًا كبيرًا في الإنفاق العام والاستثمار الاجتماعي، فانخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 28% في عام 1975، في مقابل صعود للاستثمار المالي والاعتماد الواسع على الاقتراض الخارجي. تحللت الدولة من التزاماتها بالإنفاق العام الاجتماعي على التعليم والصحة، اللذين أصبحا خدمات تقدمها شركات خاصة بمقابل مالي تحقق من خلاله أرباحًا.
الحرية الاقتصادية المفترضة التي كانت هي مضمون برنامج مجموعة شيكاغو، والتي كانت تشيلي بمثابة مسرح عمليات ومختبر كبير لليبرالية الجديدة مع نظام عسكري بامتياز لا يوجد معارضة له أو نقاش معه كان أمرًا مغريًا لاختبار النموذج وهو مطلق اليدين وحر تمامًا.
جاءت أزمة الديون السيادية في أمريكا اللاتينية عام 1981، والتي عرفت بـ «أزمة البنكيين – Bankers’ crisis» كاشفة تمامًا لحقيقة هذا النموذج، فقد كانت قناعة أبناء شيكاغو آنذاك هو تبني سياسة «لا تفعل شيئًا – Do nothing policy» بمعنى ترك الاقتصاد لآليات السوق التي ستصحح نفسها تلقائيًّا، وأن الاقتصاد قادر على التكيف مع تلك الأزمات، لكن النتائج كانت قاسية، حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي بما يصل لـ 14.3%، وارتفعت معدلات البطالة لأكثر من 23%، وهي للمصادفة أعلى أرقام بطالة في جميع الحكومات التشيلية، وانخفض الاحتياطي الأجنبي في البنك المركزي للنصف نتيجة خروج جماعي للأموال الساخنة، وهي العوامل التي تسببت جميعها في موجات احتجاج عارمة لم تطح بنظام بينوشيه القمعي، لكنها أطاحت بأبناء شيكاغو خارج دوائر الحكم، وأعادت بعض الشيء محاولات للتدخل الحكومي وبعض السياسات الحمائية لكن دون تغيرات هيكلية كبيرة تذكر، لكنها حافظت على رأس السلطة حتى عام 1990.
صحيح أن معجزة النجاح المزعومة أدت لتحسن بعض المؤشرات الكلية عدة سنوات وأهمها معدلات النمو الكبيرة لـ 8 سنوات، لكن ذلك النمو كان مدفوعًا بعمليات الخصخصة الواسعة وتدفق النقد الأجنبي في أدوات الدين، وتوسع الحكومة في الاقتراض الخارجي، وبالتالي لم تصمد تلك السياسات الهشة في تحمل صدمات الديون، حيث أدت لانفجار اجتماعي كبير نتيجة ازدياد البطالة والفقر وانسحاب الدولة من الخدمات الاجتماعية.
المعجزة المتخيلة في تشيلي لم تنجح أبدًا في نمو القطاع الصناعي، ولم تنجح في عمل قيمة مضافة لصادرات بلد يملك احتياطيًّا ضخمًا من النحاس، فاستمرت صادرات النحاس كأهم مورد للنقد الأجنبي في تشيلي، بواقع ٥٨٪ من إجمالي الصادرات، وظلت تلك الشركة ضمن الشركات القليلة التي لم يتم خصخصتها بل ظلت مملوكة بشكل ما للقطاع العام، كذلك ظل نشاط صيد الأسماك هو أحد الموارد الحيوية في الاقتصاد التشيلي، وهو ما يعني أن خطط الإصلاح المالي والنقدي سواءً في عصر أبناء شيكاغو أو في عصور من تلاهم، لم تستطع أن تحرك ساكنًا في إصلاح الهيكل الاقتصادي ورفع مستويات الإنتاجية، وبالتالي فإن اقتصاد تشيلي أقرب ما يكون لاقتصاد ريعي يستحق وصفه بدولة تعاني من «المرض الهولندي».
على الرغم من أن المؤشرات الاقتصادية لتشيلي تحسنت كثيرًا بعد رحيل بينوشيه وعودة الديمقراطية بشكل سليم، في إطار اقتصاد سوق اجتماعي، وتحولت صورة تشيلي خارجيًّا إلى الأرض الموعودة أو الواحة الديمقراطية في أمريكا اللاتينية الأكثر انفتاحًا على العالم، والتي تحقق متوسطات دخل كبيرة وانخفض الفقر فيها إلى ما دون 8% بعدما كانت 68% عام 1990، ونمت فيه الطبقة الوسطى بشكل كبير للغاية، واكتملت جميع فترات الرؤساء لمدة 30 عامًا بدون أي انقلاب عسكري واحد.
إلا أن أزمة اللامساواة ما زالت متفاقمة في تلك البلاد، حتى بعد أكثر من 33 عامًا على رحيل بينوشيه، ما زالت تتركز 30% من الثروة في يد 1% من سكان البلاد، بينما أكثر من 80% من المواطنين لا يكفيهم دخلهم الشهري حتى نهاية الشهر، رغم انخفاض نسب الفقر العام وتحسنها كثيرًا بعد سنوات الديمقراطية، لكن ما تزال تشيلي واحدة من أكثر 3 دول تعاني من انعدام المساواة، والتي يساهم فيها بقوة التكتلات المالية المحتكرة للعديد من القطاعات والصناعات المهمة، صناعات التبغ والجعة والطيران وحدها تحتكر شركة واحدة في كل قطاع منها أكثر من 75% من حصص السوق، والتي حصلوا عليها بعقود امتياز وتقارب من السلطات في عهد بينوشيه، واستطاعوا استكمال المسيرة حتى في ظل الديمقراطية عبر أدوات الرشاوى والتأثير في صناعة القرار بالمال وغيرها من الأساليب الملتوية على بعض النخب السياسية الفاسدة.
وهو ما نتج عن هذا السطح الهادئ من الخارج لحدوث انتفاضة جماهيرية بالسنوات الأخيرة في تشيلي كرغبة واضحة في إعادة هيكلة الاقتصاد والعلاج الحاسم لإرث اللامساواة الكبير، وتحسين مستويات المعيشة القاسية، وتعديل النظام السياسي الذي كانت المشاركة فيه قد انخفضت بالفعل إلى ما دون الـ 40%، تمكنت الانتفاضة الأخيرة من تعديل الدستور والوصول بشاب يساري عمره 35 عامًا من أبناء الحركة الطلابية، إلى منصب رئيس الجمهورية، محملًا بإصلاح ما تراكم في البلاد منذ عهد أبناء شيكاغو إلى اليوم، ومؤكدًا للمرة الألف على وهن رؤية البعض حول حقيقة اقتصاد تشيلي ووهم فتية شيكاغو.
- What We Can Learn From Chile’s Financial Crisis
- Real GDP growth
- Milton Friedman did not save Chile
- خيارات السياسات االقتصادية في المراحل الانتقالية في تشيلي
- The Complicated Legacy of the “Chicago Boys” in Chile
- How Economic Concentration and Crony Capitalism Led to the Chaos in Chile
- Privatization and business groups: Evidence from the Chicago Boys in Chile