أطفال العالم الثالث: لو لم تغرق الرضيعة ووالدها في النهر
ترتجف أقدام المراهقة الصغيرة وهي تنتظر خلف الأسلاك الشائكة، تنظر إلى دورات المياه، فتجد صفوفًا من النساء والرجال أمامها، حيث لا أمل في العثور على مكان مغلق لتستتر فيه. تتحمل الفتاة آلامها، لكنها لا تستطيع كتم روح جنينها أكثر من ذلك، فيخرج من بين فخذيها، ملطخًا، متسخًا، لا يقدم لها الموظفون زجاجة مياه لغسله، فتمسح حول عنقه بمناديل ورقية، وتترك خلفها بقاياها.
في المحطات الحدودية بجنوب أمريكا يقف مئات المهاجرين من 56 دولة في مشهد فوضوي؛ الأطفال يرتدون ملابس شديدة الاتساخ، وقد رسمت الدموع على وجوههم مجراها، والأمهات المراهقات بملابس ملطخة بحليب الأم، وصغارهم على أيديهم بلا حفاضات. هذا هو وضعهم لأشهر حتى يُسمح لهم بدخول الولايات المتحدة؛ ولكنهم لن يدخلوا جماعات كما جاءوا، فهنا المحطة الأخيرة التي سيرى فيها الأب ابنه، والأم رضيعها، قبل أن يفترقوا.
من أجل أسر يائسة
كانت أقسى الصور التي انتشرت عن وضع اللاجئين على الحدود الأمريكية هي غرق رجل وابنته البالغة من العمر 23 شهرًا في المياه الضحلة على طول ضفة نهر «ريو غراندي»، وهو يلفها بقميصه الأسود، وتلف ذراعها حول عنقه في لحظاتهما الأخيرة خلال رحلتهما أملًا في اللجوء.
ربما كُتب لهذا الأب ألا يرى لحظة انفصاله عن طفلته بعينيه كآلاف الأطفال المنفصلين عن ذويهم على الحدود اتباعًا لسياسات إدارة ترامب، مثلما حدث مع أصغر طفل معروف، تم فصله عن والديه على الحدود، وهو يبلغ من العمر 4 أشهر، ليتم إرساله إلى ميشيغان، للعيش مع أسرة حاضنة، بعد احتجاز والده وترحيله إلى رومانيا، دون أن يعرف الموعد الذي سيرى فيه ولده مرة ثانية.
وسط هذه الصور انتشر خبر مجادلة محام حكومي في المحكمة بأن الأطفال المهاجرين لا يجب أن يحصلوا على الكماليات المعيشية مثل الصابون وفرش الأسنان. وفي الوقت الذي تخطط فيه إدارة ترامب لإيواء الأطفال المهاجرين في قاعدة عسكرية كانت تُستخدم في السابق كمعسكر اعتقال ياباني، نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن وكالة أسوشيتد برس خبرًا عن مركز احتجاز في تكساس حيث اجتمع حوالي 250 طفلًا، تم فصلهم عن أسرهم، دون طعام وماء وصرف صحي كافيين، حتى توفي بعضهم خلال فترة قصيرة.
كان قد مرّ عام على توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرارًا يُنهي سياسة فصل الأطفال المهاجرين عن والديهم؛ وبعد 6 أيام فقط من التوقيع أمر قاض اتحادي بلمّ شمل الأسر التي مزقت الحكومة الأمريكية أوصالها، حتى بدا أن أسوأ قرارات حكومة ترامب قد انتهى؛ ولكن ذلك لم يحدث في الواقع واستمر قرارًا بين طيات الورق دون تنفيذ.
وتستغل المحاكم هناك ثغرات في القرار لاستمرار فصل العائلات، وهي المبررات التي تبدو في البداية واقعية مثل سجل إجرامي أو مرضي للأب. ولكن ما يتم هو فصل طفل عمره 6 أشهر عن والده لأن الأخير قاد سيارته برخصة منتهية الصلاحية. ويتم منع ثلاث فتيات من لقاء والدهن لأن والدتهن توفيت في المستشفى بمرض الإيدز. وإذا وُضع المهاجرون في موضع شك أن لديهم انتماءات لعصابات تهريب، فهو نذير بأن أطفالهم سيلقون أسوأ مصير.
مقدمو الرعاية أم مغتصبون؟
قالها طفل بينما كان ينتظر إطلاق سراحه من ملجأ للأطفال المهاجرين في شيكاغو، بعدما ظل هناك لمدة عامين على الأقل. بينما وجد طفل آخر أن إضرابه عن الطعام سيكون وسيلته الوحيدة لخروجه من الملجأ. ونجد هناك رضيعًا يبلغ عمره 10 أشهر، تم فصله قسرًا عن والديه على الحدود، ومؤخرًا تم نقله للمستشفى بعد سقوطه من مكان مرتفع، وظهرت على جسده علامات عض قوية متكررة.
الأيام جميعها يتخللها السأم والخوف؛ بينما ينتظر الأطفال المغادرة، ثم ينتظرون، وينتظرون طويلًا. يقضون أيامهم في تعلم اللغة الإنجليزية، ويشكون من الطعام، وسوء المعاملة، والاعتداءات المتكررة من الموظفين، وهم يبكون، ويؤذون أنفسهم في يأس، ويكتبون رسائل لن تصل لذويهم، ويتناولون كل يوم نفس الوجبات، المكرونة الفورية في الغداء، والبوريو في العشاء، والتي قال كثيرون إنها غير كافية، وجميعهم جائعون.
يتصرف الموظفون وغيرهم من السكان المحليون حول الملاجئ في بعض الأحيان كحيوانات مفترسة؛ فقد أبلغ أطفال المهاجرين عن تعرضهم للاعتداء الجنسي في الملاجئ بكل الولايات الأمريكية وعددهم 100 ملجأ، دون تحقيق في البلاغات، رغم رصد كاميرات المراقبة لتلك الحوادث.
في إحدى الحوادث البشعة بشكل خاص، تم الإبلاغ عن موظف رعاية الأطفال في سبتمبر/أيلول 2018 بتهمة الاعتداء الجنسي على 7 أطفال على مدار عام تقريبًا في ملجأ أريزونا، وكان الموظف يعمل لعدة أشهر بالملجأ دون فحص كامل لخلفيته وهويته الرسمية، ليهدد الأطفال ويسخر منهم ويلقي بالنكات الجنسية على أمهاتهم وأخواتهم.
ويحكي أحد الأطفال أنه جره على بطنه إلى غرفته، بينما الجميع منشغل في متابعة مباراة كرة قدم ضمن فعاليات كأس العالم، وظل الطفل ينازع من أجل التحرك، لكن الموظف ثبته بجسده ثم اغتصبه، «ليذوق ما ذاقت منه أخته الحامل»، كما قال له ساخرًا، وتركه مستلقيًا على الأرض ليلتقط أنفاسه، وحذره من فتح فمه بما حدث.
مع فتح التحقيقات بأمر من حاكم ولاية أريزونا، وإجراء تفتيش على الملاجئ على مستوى الولاية، ثبت أن موظفي «برنامج رعاية أطفال المهاجرين غير الربحي» لا يحملون هويات قانونية، وكذلك لم يتموا إجراءات الفحص اللازمة للتوظيف؛ ولكن حتى تم فتح هذا التحقيق، كان الأطفال قد توقفوا عن الإبلاغ، واستجابوا لتحذيرات المعتدين، قلقًا من أن التحدث سيُؤخِّر من لقائهم بذويهم، حتى بعد ما أخبروهم بفتح تحقيق، وأن فيديو المراقبة قد رصد الاعتداءات.
بخلاف ذلك أظهرت التحقيقات أن الملاجئ تنتظر قرابة شهر للاتصال بالشرطة وتوصيل بلاغات الأطفال، وعندما حدث ذلك، مؤخرًا، في ملجأ أريزونا، أظهر تقرير للشرطة أن المستشار الرئيسي للصحة العقلية في الملجأ أخبر الضباط أن «الحوادث قد تم تسويتها، والاعتداءات الجنسية لم تعد تحدث»، وبدلًا من التحقيق في الحادث بأنفسهم، أخذوا بكلمات المستشار وأغلقوا التحقيقات، وفي كثير من الحالات، قدم الضباط ببساطة تقارير معلوماتية موجزة عن الحوادث، دون التحقيق فيها باعتبارها جرائم محتملة.
احتجاز إلى أجل غير مسمى
بينما يكافح نظام الهجرة لإيواء ورعاية 14.600 طفل، وأعداد أضخم من كل عام؛ حذر المحققون الفيدراليون من أن إدارة ترامب قد تنازلت عن إجراء فحوصات اعتيادية بمكتب التحقيقات الفيدرالي لبصمات الأصابع للموظفين، ولم توفر إخصائيين صحة عقلية في مخيمات، يصل عدد الأطفال بها حتى 2.800 طفل، كما أن بلاغات الاغتصاب والاعتداء الجنسي التي وصلت إلى الشرطة لم يصل التحقيق فيها إلى ساعات حتى يتم غلقها، دون تخزين مؤقت لسجلات البلاغات، لأن قوانين الولايات تحظر نشر تقارير إساءة معاملة الأطفال، بخلاف التهديدات التي يتلقاها الأطفال من الموظفين بأن من سيبلغ عما حدث له، لن يخرج من الملجأ، ولن يلتقي بأهله ثانية.
وتتحفظ حكومة ترامب على السجلات السرية حول الملاجئ التسعة التي تمولها الحكومة الفيدرالية في منطقة شيكاغو للأطفال المهاجرين المنفصلين عن ذويهم، والتي تديرها مؤسسات يعود عمر بعضها إلى أسابيع، لتشكل واحدة من أخطر وأكبر شبكات المأوى في أمريكا للقُصر، والتي لا نعرف عنها سوى لمحات بسيطة، أمّا بقية أركان المأساة فما زالت مجهولة.
واتضح أن مؤسسات الرعاية هي في الحقيقة شركات سجون هادفة للربح، فهي شركات تبني سجونًا خاصة لها بأموال مسئولين رافضين لسياسات الهجرة واللجوء، ثم الاستفادة من الأرباح على طول الطريق، وبداخل هذه السجون يسلبون حريات المهاجرين الأساسية، ويجنون 750 دولارًا يوميًا لكل طفل من المهاجرين لإيوائه في ملجأ مؤقت، ليصبح الإيواء صفقة رابحة حققت منها شركة Caliburn International Corp وحدها في العام الماضي 100 مليون دولار، بعد ما قدمت نفسها للجمهور أن ملاجئها المخصصة للأطفال تتنافس مع فخامة فندق فورسيزونز.
إن متوسط مدة الإقامة القانونية للأطفال في الملاجئ حتى العثور على ذويهم هو 50 يومًا وفقًا لمسئولين فيدراليين، ولكن ما يحدث مخالف لذلك، بقصد إخفاء الواقع القاسي الذي يعيشه بعض الأطفال لسنوات في انتظار المغادرة، خاصة أولئك المنتمين لدول ذات أغلبية مسلمة أو دول شرق آسيا، وجنوب ووسط إفريقيا، وأولئك ممن ليس لديهم أقارب أو أصدقاء في الولايات المتحدة، فيظلون رهن الاحتجاز لفترة أطول.
تحولت حياة هؤلاء الأطفال إلى حلقة مفرغة من الرعب والمأساة، بداية من معاناتهم في بلدانهم الأصلية، ووصولاً إلى التعرض لكافة أشكال العنف وسوء المعاملة والاغتصاب، سواء خلال رحلتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم على أيدي أخصائيي الرعاية في الملاجئ.