ابتدع الخليفة العباسي المأمون (198-218هـ)، لأول مرة، مفهوم «المماليك»، وهم أرقاء بيض كانوا يُشترون من أسواق النخاسة، لاستخدامهم كفرقة عسكرية خاصة، بهدف الاعتماد عليهم في دعم نفوذ الحاكم، وهو النهج الذي استمرَّ في عهد أخيه المعتصم (218-227هـ)، حسبما أوضح سامي المغلوث في كتابه «أطلس تاريخ العصر المملوكي».

أما في مصر؛ فلقد ازداد عدد المماليك تدريجيًا في عهد الدولة الأيوبية (567-648هـ)، مما أدى إلى تضخم نفوذهم السياسي، وازدادوا شعورًا بأهميتهم، كما أورد الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه «تاريخ المماليك في مصر والشام».

وهذا نراه في تولية السلطان الصالح نجم الدين أيوب (638-647هـ)، حكم مصر؛ وبحسب «طقوش»، أضحى نجم الدين أيوب، بفضل المماليك، حاكمًا على مصر، وقد ساندوه في توطيد سلطانه، لكن بعد وفاة الصالح أيوب، ثم مقتل ابنه توران شاه، أصبح الطريق ممهدًا للمماليك لتولي حكم مصر، وقيام دولتهم (648-923هـ).

وقد روي الدكتور قاسم عبد قاسم في كتابه «عصر سلاطين المماليك»، أن المفاهيم السياسية لدولة سلاطين المماليك كانت نتاجًا لظروف قيام الدولة، ويمكن بلورة هذه المفاهيم السياسية في أن أمراء المماليك اعتقدوا أن عرش البلاد حق لهم جميعًا يفوز به أقواهم وأقدرهم على الإيقاع بالآخرين، وهو الأمر الذي تأكده منذ بداية الدولة، سواء في مصرع أيبك وشجرة الدر، أو في مقتل «بيرس» لـ «قطز»، وهكذا تقرر منذ البداية مبدأ «الحكم لمن غلب».

الناس درجات

نتيجة اعتماد السلاطين المماليك على القوة العسكرية التي يمثلها مماليكه، فقد أصبح المجتمع المصري في عهد المماليك مجتمعًا طبقيًا في علاقاته واتجاهاته، وهذا ما أوضحه عبد الرحمن بن خلدون في كتابه «مقدمة ابن خلدون» عندما قسَّم المجتمع المصري إلى سلطان ورعية، بينما قسَّم تقي الدين المقريزي في كتابه «إغاثة الأمة في كشف الغمة» المجتمع المصري إلى سبع طوائف؛ وهي: «أهل الدولة» قاصدًا الحاكم وحاشيته، ثم «أهل اليسار من التجار وأولى النعمة من ذوي الرفاهية» على قمة الرعية، يليهم «متوسطو الحال من تجار وأرباب السوق»، ثم جاء «الفلاحون وسكان الريف»، ثم جُل «الفقهاء وطلاب العلم والكثير من أجناد الحلقة»، وفي القسم السادس وضع «أرباب الحرف وأصحاب المهن»، وأخيرًا وضع «الشحاذين والمتسولين» من الشحاذين والمتسولين الذين يتكففون الناس، ويعيشون منهم.

المراتب العسكرية

وترى الدكتورة نهلة أنيس، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الأزهر، في بحثها «أولاد الناس بمجتمع عصر سلاطين المماليك»، أن القوة العسكرية في عهد المماليك، كانت طبقات ذات مراتب عسكرية، وكان لكل مرتبة وظيفة، وله إقطاع ينعم به السلطان عليه حتى يستطيع القيام بهذه المهام.

الطبقة الأولى من الأمراء: أمراء المئين ومقدمي الألوف، ويقوم على خدمتهم مائة فارس، يكونون في خدمة السلطان في حالة الحرب.

والطبقة الثانية من الأمراء: هم أمراء الطبلخانة، ويقوم في خدمتهم أربعون فارسًا، يكونون في خدمة جيش السلطان.

الطبقة الثالثة من الأمراء: فهم أمراء العشرات، وربما وجد بين هذه الطبقة من هم أمراء عشرين فارسًا، وهم أرباب الوظائف الصغيرة.

وأخيرًا؛ الطبقة الرابعة من الأمراء: أجناد الحلقة، وتمثل هذه الطبقة الأمراء أولاد الأمراء «المندرجين بالوفاة رعاية لسلفهم، وهم في الحقيقة كأكابر الأجناد»، وأطلق المؤرخون للسلطنة المملوكية على هذه الفئة من الأمراء لقب «أولاد الناس».

الحراك الثقافي لأولاد الناس

ظهرت فئة «أولاد الناس» في مصر بمرور الزمن، وبحسب «عبد قاسم»، هم أبناء المماليك الذين ولدوا في مصر ولم يمسهم الرق، وكانت مكانتهم الاجتماعية أدنى من المماليك، وغالبًا ما كان «أولاد الناس» هؤلاء ينصرفون عن الحياتين السياسية والعسكرية اللتين يحيا آباؤهم في ظلها، ويختارون حياة السلم، وقد ساهم بعضهم في النشاط الثقافي لعصره.

وكانت الثروات التي يرثونها عن آبائهم أو الإقطاعات التي كان السلاطين يمنحونها لهم تمكنهم من الحياة المرفهة الهانئة بحيث يمكن أن نلحقهم بالطبقة الحاكمة، وأن عاشوا على هامشها، فـ «أولاد الناس» كانوا يمضون أوقاتهم في ممارسة بعض الألعاب والرياضات، أو مجالس العلم.

وقد استطاع «أولاد الناس» أن يندمجوا في الشعب المصري، عندما اشتبكوا مع الحياة الثقافية المصرية، من خلال مساهماتهم في حركة التأليف، سواء في التاريخ أو الأدب، مما انعكس على ازدهار الحركة الأدبية والثقافية في مصر.

مساهمات ثقافية

ساعد سقوط الخلافة الإسلامية، وتراجع الدور الثقافي في الأندلس، أن تصبح مصر مركز النشاط العلمي والثقافي في العالم الإسلامي، فكان يشد إليها الرحال كونها بلدًا آمنًا مستقرًا، وقدر حرص سلاطين مصر على رعاية العلماء وتشجيعهم، مما ساهم في ازدهار الحياة العلمية في مصر.

وبحسب «نهلة»، شارك «أولاد الناس» في بعض هذه المعارف والفنون، فكان منهم علماء اللغة العربية والأدب والشعر والتاريخ وغيرها من علوم المعارف العامة، ومن أشهر هؤلاء هم:

ابن أيبك الدوادار

هو أبوك بكر بن عبد الله بن أيبك الدواداري، عمل جده ووالده في خدمة الدولة الأيوبية ثم المملوكية بعد ذلك، كما أنه عاش صراعات انهيار الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك.

أصله سلجوقي، وعرف عنه مرافقة أبيه عندما كان يجتمع مع رجال الدولة، فاستمع إلى كبار الأمراء والقواد، وعاين بنفسه بعض الأحداث، لذلك يُعد من المؤرخين القلائل الذين كانوا على اتصال مباشر بالدولة وكبار رجالها، واتسم أسلوبه بالإيجاز أحيانًا، ووجود الألفاظ المصرية في كتابته، كما لم يغفل عن ذكر أحوال نهر النيل في كتبه.

أما مؤلفاته؛ فأشهرها كتاب «كنز الدرر وجامع الغرر» وحوى تاريخ العالم منذ بدء الخليقة مرورًا بقصص الأنبياء، وذكر العرب والروم وفارس، وأخيرًا أخبار دولة المماليك حتى عصر الملك الناصر محمد بن قلاون. (1)

صلاح الدين الصفدي (696-764هـ)

هو صلاح الدين خليل بن عز الدين بن عبد الله الألبكي الصفدي، المعروف بـ«الإمام الأديب الناظم الناثر»، تعلم العلوم الشرعية صغيرًا، ولكنه تعلق باللغة العربية، وأجاد الخط العربي، واشتغل بالتأليف، وله العديد من المؤلفات.

جده؛ الأمير عبد الله، كان من المقاتلين الذين منحوا إقطاعًا –أرض زراعية-في مدينة صفد، من قبل الملك الظاهر ركن الدين بيبرس العلائي البُنْدُقْدارِي الصالحي النجمي، الملقب بـأبي الفتوح، وعاشت الأسرة حياة الرفاهية في ظل هذا الإقطاع.

عُرف الصفدي؛ بأنه كان إمامًا، عالمًا، صادقًا، ماهرًا، حسن الخلق والمحاضرة، وكان بينه وبين علماء عصره مراسلات، في كافة المسائل العلمية والأدبية، وقد تلقى العلم على يد كبار علماء دمشق والقاهرة؛ مثل: ابن كثير، والذهبي، وابن سيد الناس، وابن نباته، وابن السبكي المصري.

وجاءت معظم مؤلفاته بين الأدب والتاريخ، وقد تعامل في كتابة التراجم والتاريخ بأسلوب الأديب، فاستطاع أن يرسم صورة معبرة وناطقة عن حياة الأفراد الاجتماعية، التي دونها، سواء في كتاب «أعيان العصر وأعوان النصر»، وكتاب «نكت الهيمان» في وصف العميان، وكتاب «الوافي بالوفيات»، وكتاب «نصرة الثائر على المثل السائر»، وغيرها من المؤلفات.

ويكثر في كتبه شعر المجون، وحكاياته له ولغيره، وله الكثير من الشعر والمقامات، في التغزل بالغلمان. (2)

ابن دقماق (750-809هـ)

هو صارم الدين إبراهيم بن محمد بن أيدمر بن دقماق العلائي القاهري، المعروف بـ «مؤرخ الديار المصرية»، وكان جده أيدمر العلائي أحد الأمراء في عصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون، كما التحق ابن دقماق فترة بالحياة العسكرية قبل أن يتركها حبًا للعلم والأدب، واعتنى بالتاريخ فكتب منه الكثير، وكان جميل العشرة، كثير الفكاهة، حسن الود، قليل الواقعية.

واتسم في كتابته بالعامية المصرية، ولم يكن عنده فحش في كلامه، ولا في خطه.

أما مؤلفاته؛ فيقول المقريزي: إنه ألف مائتين كتاب في التاريخ، أشهرها «نظم الجمان» في طبقات الحنفية وأخبار الدولة التركية (المملوكية)، وكتاب «الانتصار لواسطة عقد الأمصار» ويحتوي على تاريخ مصر وجغرافيتها، ومن كتبه الهامة أيضًا كتاب «نزهة الأنام في تاريخ الإسلام»، وكتاب «الجوهر الثمين في سيرة الملوك والسلاطين» عن تاريخ مصر إلى سقوط السلطان برقوق. (3)

ابن تغري بردي الأتابكي (812-874هـ)

هو أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن تغري بردي الأتابكي اليشبغاوي، الملقب بـ «تغري بردي»، ومؤرخ مصر ومؤرخ النيل، أصله رومي، فوالده اشتراه السلطان الظاهرة برقوق، وأعتقه وقرّبه لذكائه، وترقى في المناصب حتى أصبح أتابكًا للعسكر، وفي عهد السلطان الناصر فرج بن برقوق، نائب السلطان في الشام، وعُرف بالأمير الكبير سيف الدين تغري بردي اليشبغاوي.

واهتمَّ تغري بردي بدراسة التاريخ، خاصة كُتب المؤرخ بدر الدين العيني، وتتلمذ على يد المؤرخ تقي الدين المقريزي، أشهر مؤرخي العصر، ومؤسس المدرسة التاريخية المصرية، واقتبس من مناهجه وأساليبه في البحث والرواية، وزاد عليه التعليق برأيه الخاص على ما لا يروق له من أحوال السلاطين المماليك، وقد أوقف حياته على التنقيب في تاريخ مصر الإسلامية، فكان مؤرخًا بهواه وفطرته، واتسم بالذكاء والطرافة.

أما مؤلفاته؛ فهي: كتاب «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» وهو تاج جهوده، وبدأه من عصر عمرو بن العاص وانتهى بسيرة عصره، لذلك يُعد أتم وأطول كتاب تاريخ لمصر الإسلامية وتقلبات نيلها، ورتبه بالسنين، وأفرد ترجمة خاصة فيه لكل سلطان، وكتاب «مورد اللطافة فيمن ولى السلطنة والخلافة»، وكتاب «المنهل الصافي» موسوعة ضخمة، يترجم فيها لأعلام الإسلام، من ملوك وساسة وجند وعلماء وأدباء، بداية بالمعز إيبك التركماني زوج شجرة الدر، بالإضافة إلى كتب أخرى تدور في فلك التاريخ. (4)

ابن شاهين (813-873هـ)

هو غرس الدين خليل بن شاهين الظاهري، تلقى العلم منذ الصغر، ودرس على أيدي علماء عصره، وأجازه الحافظ ابن حجر العسقلاني للإفتاء والتدريس، وكان والده شاهين من مماليك الظاهر سيف الدين برقوق، لذلك تقلد ابن شاهين عدة وظائف حتى انصرف عنها، واكتفى بالتأليف، فكتب في الفقه والتفسير والتعبير والتاريخ والإنشاء.

أما مؤلفاته؛ فأهمها كتاب «زبدة الممالك وبيان الطرق والمسالك» وعرض فيه الوظائف الحربية والإدارية في دولة المماليك الثانية، وكتاب «الإشارات في علم العبارات» في تعبير الأحلام، وعرف عنه شغفه بالبحث، لذلك له نحو ثلاثين مصنفًا. (5)

ابن إياس (823-930هـ)

هو زين العابدين محمد بن أحمد بن إياس، الملقب بـ «أبو البركات»، ومؤرخ الفتح العثماني لمصر، أصله شركسي، فوالده كان متصلًا بالأمراء وأرباب الدولة، وجده الأمير إياس الفخر الظاهري من مماليك الظاهر سيف الدين برقوق وعمل دوادارًا في عهد الناصر فرج بن برقوق.

اهتمَّ بدراسة التاريخ والجغرافيا، وتعلم على يد جلال الدين السيوطي وغيره من علماء عصره، كما نظم الشعر، ولكنه عني بكتابة تاريخ مصر دون غيرها، وامتازت كتبه بأنها كانت تحوي ما شهده بعينيه، فهو شاهد نهاية دولة المماليك وصعود الدولة العثمانية، واتسمت لغته بالوضوح والبساطة والدمج بين اللغة العربية الفصحى والعامية.

أما مؤلفاته؛ فهي: كتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» التي تحتوي على تاريخ مصر الإسلامية، خاصة دخول العثمانيين لمصر، وكتاب «نشق الأزهار في عجائب الأقطار» وفيه تسجيل لمقاييس فيضان النيل، وغيرها من المؤلفات. (6)

هذا فضلًا عن اهتمام «أولاد الناس» بعلوم أخرى برزوا فيها وأجادوا، مثل: الأمير «عماد الدين إسماعيل بن الناصر حسن بن محمد بن قلاون» في علم الحساب والرياضيات، و«شهاب الدين علي بن طيبغا» في علم الفلك، و«الناصري محمد بن قرقماش» في علم الكيمياء، و«الناصري محمد بن منكلي» في علوم الملاحة وفن القتال، والأمير «ناصر الدين محمد بن جقمق» في علم التفسير والحديث، والحافظ «علاء الدين بن مغلطاي بن قلج بن عبد الله البكجري» في الفقه والحديث، وغيرهم الكثير الذين برعوا في شتى فنون العلوم والمعرفة في عهد دولة المماليك. (7)

المراجع
  1. د. نهلة أنيس محمد مصطفى، أولاد الناس في مجتمع عصر سلاطين المماليك، دورية كان التاريخية، العدد الثامن، يونيو 2010.
  2. د. عواطف آدم، صلاح الدين الصفدي وجهوده الأدبية والنقدية، كلية اللغة العربية، جامعة أم درمان الإسلامية، 2007.
  3. السيد علي الحسيني، نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار، الجزء 16.
  4. محمد عبد الله عنان، مؤرخو مصر الإسلامية ومصادر التاريخ نفسه، الهيئة العامة للكتاب، 1999.
  5. د. نهلة محمد مصطفي، المصدر السابق.
  6. محمد عبد الله عنان، المصدر السابق.
  7. د. نهلة محمد مصطفي، المصدر السابق.