اكتئاب الأطفال: كيف نقهر القاتل الصامت للبراءة؟
كثيرًا ما نستهينُ ككبار بمشاعر الأطفال وحالاتهم المزاجية، ونجزم أنهم ما لم يُقاسوا ما نُعانيه في حياتنا اليومية من مسئولياتٍ واختبارات وإرهاقٍ بدني ونفسي، وما مررْنا به في طفولتنا من صعوباتٍ، فلا يحق لهم أن يعانوا من اعتلال الحالة المزاجية، أو أن يصابوا باضطرابات نفسية مؤثرة كالاكتئاب والقلق وغيرها. ولعلّ تلك الاستهانة، وما يترتب عليها أحيانًا من سلوكٍ عدواني تجاه ما يمر به أطفالنا من اضطرابات مزاجية ونفسية، هو من أبرز ما يؤدي إلى حدوث وتفاقم تلك الاضطرابات.
تخبرُنا الإحصاءاتُ المُفزعة أن ما يقارب 14% من أطفال العالم الأكبر من 10 سنوات من العمر، يعانون من أحد الاضطرابات النفسية، وفي مقدمتها الاكتئاب. وأن 10% من الأطفال الأكبر من 12 عامًا، قد عانوا من نوبةٍ واحدةٍ على الأقل من الاكتئاب الحاد الشديد، وفي الولايات المتحدة الأمريكية ترتفع نسبة المراهقين فوق 12 عامًا المصابين باضطرابات القلق والاكتئاب إلى أكثر من 13%. وسُجِّلَت عديد من حالات الاكتئاب الشديد بين الأطفال من سن 5 إلى 8 أعوام. وتذكر مصادر أخرى أن قد سُجٍّلت بعض حالات الاكتئاب الحاد في أطفال في الثالثة من العمر.
يكمُن التحدي في التشخيص هنا، في صعوبة التمييز بين نوبات الحزن والبكاء وتقلب المزاج التي يكاد لا يوجد طفلُ لا يمر بها بشكل متكرر، ونوبات الاكتئاب المرضي التي قد تتشابه معها قليلًا أو كثيرًا.
ولعلَّ أبرز ما يُميِّز الاكتئاب المرضي في الأطفال هو استمرار الأعراض لأكثر من أسبوعين متواصلين، لا سيما فقدان الطفل الاستمتاع والرغبة في الألعاب والأنشطة التي كان يحبها عادة، مع اعتلال ملحوظ في حالته المزاجية. وقد يعاني الطفل من درجات متباينة من الإجهاد البدني، واضطرابات النوم (بالأخص الأرق) وفقدان الشهية (قد يؤدي إلى انخفاض الوزن بشكل مفاجئ)، والعجز عن التركيز الفعال أو الإصابة بنوبات متكررة من الحزن الشديد أو الانفعال والهياج العصبي. ومن علامات الاكتئاب المرضي المهمة أن تؤثر الأعراض السابقة بشكل سلبي ملحوظ على أداء الطفل في المنزل وفي المدرسة… إلخ، وكذلك أن يُظهِرَ الطفلُ ميلًا كبيرًا إلى الوحدة والعُزلة لأوقاتٍ طويلة، لا سيما إذا كان من عادته الاندماج والتفاعل.
لماذا قد يكتئب طفلي؟
ما تُخبرنا به الأدلة العلمية المتاحة أن مرض الاكتئاب من الأمراض الأكثر تعقيدًا، التي يتفاعل في التسبُّب بها عديد من العوامل المختلفة، التي من أبرزها الوراثية والأسرية والاجتماعية وبعض سمات الشخصية. لكنَّها تُبرِّز لنا- بوجهٍ خاص- خطورة تعرض الأطفال لمواقف حياتية صعبة تُسبب ضغطًا نفسيًا وعصبيًا كبيرًا، مثل التعرض لاعتداءٍ جنسي، أو بدني شديد، أو الإهمال الأسري العاطفي والمادي أو مشاهدته الشجارات المستمرة بين والديْه أو تعرضه لحادث أليم ينجو منه بصعوبة أو بإعاقة، أو فقدانٍ لأحد الوالدين أو الأصدقاء البارزين أو التعرض للتنمر المستمر من زملاء المدرسة… إلخ.
وأيضًا تجعل الإصابة بالأمراض المزمنة المرهقة في علاجها مثل السرطانات… إلخ الطفلَ أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب الشديد ولظهور النوازع الانتحارية. كما قد تلعب الظروف العامة القاسية مثل الحروب والصراعات والأوبئة دورًا بارزًا في إصابة الأطفال بالاضطرابات النفسية بوجهٍ عام، والاكتئاب بوجهٍ خاص. فقد أظهرت الدراسات العلمية تفاقم ظهور أعراض الاكتئاب بين نسبةٍ أكبرَ من أطفال العالم في فترة انتشار وباء كوفيد-19 وما صاحبه من إغلاق وتوقف لعديد من الأنشطة، كما يُظهر ذلك التقرير الموجز:
اقرأ: متلازمة ما بعد كورونا: الأسباب والعلاج.
اكتئاب الأطفال: الوقاية والعلاج
تكون سطوري تلك قد حقَّقت هدفَها وأكثر، إذا أسهمت في رفع الوعي بقضية اكتئاب الأطفال بين الآباء والمُربِّين، إلى الحد الذي يستطيعون به الشك المبكر في إصابة الأطفال بمقدمات الاكتئاب، ومن ثمَّ تبدأ الخطوة الأولى الصحيحة في علاج المشكلة، بالتوجه بالطفل إلى طبيب نفسي مختص للتأكد من التشخيص أولًا، واستبعاد الأسباب الجسمانية التي قد تفسر الأعراض مثل أمراض الكلى والمخ… إلخ، ثم رسم خطة التعافي من الاكتئاب وفقًا للحالة، والتي تشمل الدواء والعلاج النفسي السلوكي والدعم الأسري والمُجتمعي وتحسين نمط الحياة… إلخ. والتشخيص المبكر يلعبُ دورَ البطولة في سرعة تعافي الطفل من الاكتئاب، وفي تقليل فرص إصابته بالاكتئاب وبغيره من الاضطرابات النفسية لاحقًا في حياته.
اقرأ: كيف أحمي طفلي من الاضطرابات النفسية؟
1. الوقاية -كالعادة- خيرٌ من العلاج:
بكثرة التكرار، فقدت مقولة «الوقاية خير من العلاج» مفعولَها في نفوس السامعين، لكن الطب والبحث العلمي في كل يومٍ يزيدانها رسوخًا، حتى أصبح الطب الوقائي فرعًا حيويًا قائمًا بنفسه. وفي موضوعنا، فالوقاية من اكتئاب الأطفال ممكنة جدًا ببعض الجهد الذي يركز على توفير بيئة صحية آمنة وداعمة للطفل في المنزل وفي المدرسة وفي دور العبادة.. إلخ. والحفاظ على الاستقرار الأسري مع بعض الذكاء العاطفي من الوالدين في فهم نفسية الطفل وخصوصيات شخصيته، كفيل بجعل احتمالات إصابته بالاكتئاب المرضي شبه مستحيلة.
ومن أبرز جهود الوقاية، الانتباه الفائق من قبل الوالدين، لأي تغيرات سلبية مفاجئة في سلوك أو نفسية الطفل، والتواصل المستمر مع مقدمي الرعاية الآخرين له مثل معلمي المدرسة والأخصائيين النفسيين والاجتماعيين والمدربين الرياضيين… إلخ، للاكتشاف المبكر لأي من هذه التغيرات في البيئات الأخرى التي يتفاعل معها الطفل.
2. الاستماع الجيد للطفل والإنصات إلى شكواه:
الطفل الذي يستطيع التحدث بأريحية مع والديه ومعلميه، دون الخوف من الانتقاد الحاد أو التسلط الشديد أو إطلاق الأحكام العنيفة تجاهه، ويجد من هؤلاء آذانًا صاغية، هو طفل أقرب ما يكون للحفاظ على السواء النفسي، وأبعد ما يمكن عن الإصابة بالاكتئاب، أو غيره من الاضطرابات والتشوهات النفسية. يجب على الوالدين إعطاء الفرصة كاملة للطفل للشكوى مما يؤرقه دون خوفٍ من العقاب يدفعه إلى الكتمان والكبت، وتعويده من الصغر على التعبير عن نفسه، ولو بشكلٍ غير مباشر عبر بعض الهوايات التي تنشط الحواس والمهارات مثل الرسم والكتابة والشعر والموسيقى… إلخ.
3. الرعاية النفسية الفائقة لا سيما بعد الأزمات والحوادث:
يجب مساعدة الطفل على تجاوز الأزمات الحياتية الخاصة والعامة بسلاسة، ويحتاج هذا في أحيانٍ كثيرة إلى طلب الاستشارة والمساعدة من أخصائي نفسي يجيد التعامل مع الأطفال، ليدير دفة خطة التعافي من صدمة الأزمات، حتى لا تترك جروحًا غائرة في تكوين الطفل النفسي، وتصيبه بعقدٍ نفسيةٍ تظل تطارد سلامَه النفسي ما بقي من حياته.
وقد يحتاج الطفل إلى أن يصف له الطبيب مضادات الاكتئاب الدوائية لفترةٍ تقصر أو تطول للتعافي من اكتئاب ما بعد الصدمات والاكتئاب المرضي بوجه عام أو قد يكتفي الطبيب بالتعامل غير الدوائي مثل العلاج المعرفي السلوكي CBT أو العلاج الجدلي السلوكي DBT، وأنشطتهما التي تعزز التعافي النفسي والتفكير الإيجابي والنظر بشكل أفضل للنفس وللآخرين، والقضاء على العقد والمخاوف النفسية من جذورها، ويختار المعالج النفسي ما يناسب كل طفل وفق خصوصية حالته. وقد يحتاج الطبيب النفسي في حالات كثيرة إلى علاج الطفل دوائيًا ونفسيًا في آن. ويجب على الوالدين- ومن يقوم مقامهما- أن يكونا داعمين للطفل في تلك الأسابيع والشهور الحساسة التي يتلقى فيها العلاج، وأن يتفاعلا بإيجابية مع العلاج النفسي، ويتجاهلا كثيرًا من الخرافات والشائعات المتداولة مجتمعيًا حول هذا الأمر.
ولأهمية دور الوالدين في علاج طفلهما، فقد يضطر المعالج النفسي إلى علاج الوالدين أولًا حتى يمكن رعاية وعلاج الطفل بشكلٍ فعال، لا سيما إذا وجد أن تعرض الطفل للاكتئاب راجع في جزءٍ كبير منه إلى مشكلةٍ تتعلق بالوالدين.
اقرأ: أشهر 8 خرافات حول الأدوية النفسية.
4. مشاركة الطفل في الأنشطة المختلفة:
من أبرز ما يحسن الحالة المزاجية للطفل، ويزيد ثقته بنفسه، ويسهم في الوقاية من الاكتئاب وعلاجه، أن يشاركَه والداه في أنشطته وألعابه، لا سيَّما إن بدا للطفل أن الوالديْن لا يتصنعان الاهتمام به، إنما يستمتعان بالتفاعل معه، وبالاشتراك معه في هواياته واهتماماته.
5. نمط الحياة الصحي:
لا يسهم النوم الجيد والطعام الصحي المتوازن المرتكز على الفواكه والخضروات والأسماك والألبان والحبوب الكاملة كالشوفان في تعزيز المناعة الجسدية للطفل فحسب، إنما في تحسين المناعة النفسية أيضًا، بشكلٍ مباشر وغير مباشر، فالجسم والنفس مُتصَّلٌ واحد. كما تؤدي ممارسة الرياضة المعتدلة الممتعة دون ضغط نفسي أو بدني زائد على الطفل، إلى تعزيز السلامة النفسية للطفل، وسرعة تعافيه من الاكتئاب واضطرابات القلق، لا سيما إن شاركه فيها والداه ومن يحب.
اقرأ: الشوفان: هل هو غذاء سحري؟
6. تدين إيجابي بعيدًا عن الوساوس القهرية وجلد الذات:
هناك أنماط مختلفة من التدين نراها في المجتمع، ومنها ما يزيد القوة النفسية للطفل والمراهق إلى حدٍ بعيد، ويزيد ثقته في نفسه، وفهمه لحياته، ومرونته في استيعاب صدماتها، وهي تلك التي تجنح بالطفل إلى التفاؤل باتزان، والتصالح النسبي مع ميله الفطري للعب وللتفلت من النظام الصارم، واحتواء هذا الميل، وجعل دور العبادة أكثر احتواءً للأطفال بأنشطة متنوعة.
وهناك في المقابل أشكال من التدين يغلب عليها القهر والإجبار من قبل الوالدين أو المربين، والتأنيب المستمر للطفل، وإشعاره بالتقصير دومًا، وتخويفه بشكلٍ غير متوازن من العقوبات الدنيوية والأخروية، وتوسيع دائرة المحرمات أمامه، مما يدفع به إلى دوامات من الشك وجلد الذات، كافية لإيقاعه في حبائل الاكتئاب المرضي الشديد. ولا يمكن في بيئة يغلب عليها التدين علاج قضية الاكتئاب بمعزل عن مسألة التدين، وتوجيه دفته إيجابيًا بما يحقق للطفل وللمراهق قدرًا أكبر من السلامة النفسية.
وللمزيد حول علاقة التدين بالاكتئاب اقرأ أيضًا: هل يساعد التدين المكتئبين: العلم يجيب.
7. الانتباه الفائق لظهور النوازع الانتحارية:
أخطر مضاعفات الاكتئاب بلا منازع هي الميول والأفكار الانتحارية، التي قد تتفاقم وتؤدي به إلى الإقدام على الانتحار، لا سيما إن حمل معه اكتئابه الشديد إلى سن المراهقة الأكثر خطورة، الذي يقدر فيه على إيذاء نفسه جديًا، ولو بشكلٍ غير مباشر عبر إدمان المواد المخدرة التي تفاقم الاضطرابات السلوكية، وتمنحه جرأة غير محسوبة في ارتكاب الممارسات الخطرة ومنها الانتحار.
اقرأ: الصدمات الكهربية: علاج نفسي أم تعذيب كما في الدراما؟
وقد أظهرت إحدى الدراسات في الولايات المتحدة الأمريكية أن 9% من طلاب المدارس العليا قد نفَّذوا محاولة واحدة للانتحار على الأقل خلال عام، وهي نسبة خطيرة للغاية، تُفسر كون الانتحار في الولايات المتحدة الأمريكية هو السبب الثاني لوفاة الأطفال بين عمر 10 و 14 عامًا.
يجب على الوالديْن والمعلمين والمربين الانتباه إلى بداية ظهور الأفكار والنوازع الانتحارية لدى الطفل، لا سيما إن كان مُشخَّصًا بالاكتئاب أو له تاريخ مرضي للإصابة به، وطلب المشورة الطبية النفسية العاجلة في حالة ظهور أي منها:
- الحديث المتكرر عن الموت، والهوس بفكر الموت.
- البحث على الإنترنت عن وسائل القتل وطرق الانتحار.
- الشكوى من اليأس، وأنه أصبح عديم القيمة، والإشارة إلى الانتحار.
- الجرأة والتهور بشكلٍ غير محسوب، وغير متسق مع شخصية الطفل أو المراهق.
- إيذاء النفس أو الآخرين.
- العزلة الشديدة لأيام متواصلة، ورفض التفاعل مع الأسرة والأصدقاء.