عمالة الأطفال في مصر: تحرش وأمراض نفسية وأعمال إجرامية
هكذا أشار تقرير منظمة العمل الدولية بشأن عدد الأطفال العاملين حول العالم، وبرغم أن هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم أو البارحة، إلا أنها تتفاقم بشكل لافت بالمنطقة العربية يومًا تلو الآخر، حتى بلغ نصيبها ما يزيد عن 10 مليون طفل. واستحوذت مصر وحدها على نسبة فاقت الـ 25% من هذه الظاهرة بالمنطقة.
وبينما خصص العالم يوم الـ 12 من يونيو/حزيران من كل عام يومًا عالميًا لمكافحة عمالة الأطفال، وتزايدت التقارير والتحذيرات الدولية من تداعياتها السلبية، إلا أن الوضع في مصر بدا كما لو كانت هذه الظاهرة ليست مشكلة أو لم يعد يُنظر إليها على هذا النحو. فهل الأمر حقًا بهذه البساطة، أم أن له خفايا كامنة يجب الانتباه إليها؟
العاملون الصغار: ما بعد الإهمال
بلغ عدد الأطفال العاملين بمصر نحو 2.8 مليون طفل بما يمثل 26% من عدد الأطفال العاملين بالدول العربية. ومع ذلك، ففي ظل البطالة والأوضاع الاقتصادية الصعبة، والارتفاع المستمر في الأسعار، ووجود ما يزيد عن 30 مليون مصري تحت خط الفقر، أصبحت هذه الظاهرة بمثابة واقع اعتاد عليه الناس، وعملت الحكومات المتعاقبة على تبريره دون إيجاد حل جذري له.
هو بالفعل كذلك، واقع معتاد ومبرر أيضًا، لكن تكمن وراءه العديد من الأخطار الخفية والتداعيات السلبية التي لن تقف عند حد معاناة هؤلاء الأطفال بمهن شاقة ومخاطر جمة، كما لن تنحصر في الإهمال أو التسرب من التعليم.
فهؤلاء العاملون الصغار محاطون بالكثير من الأخطار، ويعانون من ضغوط نفسية وجسدية واجتماعية تنعكس عليهم بالضرورة. في هذا السياق يمكن إيجاز التداعيات السلبية لهذه الظاهرة في عدد من النقاط كالتالي:
– الاضطرابات النفسية
يعمل نحو 30% من الأطفال في القطاعات الحرفية؛ كورش إصلاح السيارات والمحاجر، بالإضافة إلى قطاعات التجارة والخدمات والصناعة. وكما هو المعتاد يتعرض الأطفال في العديد من هذه المهن لمختلف أنواع الإهانة والتحقير والضرب.
وحين يشكون تلك المعاملة تكن الإجابة «بيضربك عشان يعلمك»، فيستمر الأطفال في تلقي السباب والألفاظ النابية ما يؤدي إلى استثارة مشاعرهم، فيشعرون أنهم ليسوا كسائر الأشخاص في المجتمع، ويصبحون أكثر عرضة للإصابة بالاضطرابات النفسية. وما يزيد الأمر سوءًا شعورهم بالحرمان عند مقارنة أوضاعهم بأوضاع غيرهم، فينمو لديهم تدريجيًا شعور بعدم الأهمية.
قد تكون هذه الاضطرابات غير ملحوظة أو يصعب تفسيرها، إلا أنها تنعكس في عدد من المظاهر كالاكتئاب والانطواء أو الاعتداء على الغير، وربما يتطور الأمر إلى تعاطي المخدرات اقتداءً بأمثاله ووسيلة للهروب من الواقع المؤلم.
– عدم الرضا عن الحياة
تزيد عمالة الاطفال مبكرًا من مشاعر السخط والتبرم وعدم الرضا بين صفوفهم؛ فانشغالهم بالعمل في وقت مبكر من الحياة يؤدي إلى تفاقم الشعور بالإنهاك والتعب، كذلك عدم تمتعهم بمباهج الحياة في هذه المرحلة يولد حالة من عدم الرضا عنها، ويتفاقم الأمر كما سبقت الإشارة بالمقارنة مع الغير.
ولعل أبرز العواقب المترتبة على تلك الحالة انتشار التحايل على الآخرين بين هؤلاء الأطفال، ومحاولة إيقاع غيرهم بالمشكلات للنيل منهم والتمتع بآلامهم، وربما يتطور الأمر فيتزين عالم الانحراف لهم، ويقتنعون بمشروعيته.
– تأخر النمو المعرفي واكتساب سلوكيات الشارع
يعاني الأطفال العاملون كذلك من تأخر واضح في النمو المعرفي، نتيجة افتقارهم إلى التنبيهات التي تنمي إدراكهم للعالم. كما يترتب على ذلك إضعاف المهارات الاجتماعية لديهم، ما سيجعلهم غير قادرين على التمييز بين الأنماط المقبولة اجتماعيًا وتلك التي لا تحظى بالقبول.
وكما يكتسب الفرد المهارات الاجتماعية من البيئة المحيطة به، فهؤلاء الأطفال يكتسبون مهاراتهم من هذه البيئة المليئة بالألفاظ النابية والسلوكيات المنحرفة، ويتعرضون لمختلف أنواع الدعاية السلبية. وفي ظل عدم اكتمال النمو والنضج المعرفي لديهم، لن يكون أمام الكثير منهم سوى محاولة التأقلم مع الواقع واكتساب سلوكيات وقيم البيئة المحيطة بهم.
ويبدأ الأمر تدريجيًا، فذلك طفل بدأ العمل في مخبز وهو في الـ 13 من عمره، كان يدخر كل ما يكسبه. مع الوقت، بدأ يكتسب سلوكيات الشارع وقيمه، وبعدما كان متفوقًا في دراسته، صار يرسب. التقى بغيره من المنحرفين، وتبدلت قيمه التي نشأ عليها حتى انتهى به الأمر متعاطيًا للمخدرات، وأصبح لا يجدي العقاب معه نفعًا.
– التعرض للتحرش الجنسي
تشير العديد من الدراسات إلى أن الأطفال العاملين أكثر عرضة للتحرش الجنسي من غيرهم، وذلك من خلال من هم أكبر منهم سنًا كالعاملين معهم وأحيانا أصحاب العمل. وطبقًا لشهادات عدد من الأطفال الذين تعرضوا للتحرش، فهم إما يُمارس ضدهم التحرش تحت وقع الاعتداء بالضرب، أو استعمال التهديد بفضح أمرهم أمام الآخرين، وأحيانًا بالترغيب وتقديم المبالغ التي تفوق الدخل اليومي.
وبطبيعة الحال، فقدرة الطفل على المقاومة ستضعف بمرور الوقت، وربما يصبح الانتهاك الجسدي أمرًا مقبولاً. وفي هذه الأوضاع قد لا يجد الكثير من الأطفال أي غضاضة في الانتقال إلى أماكن البغاء فيما بعد والعمل بها، إذ أن هذه البيئة قد تسهم في استثارة الدافع الجنسي لديهم قبل الأوان.
جرائم «الأطفال العاملين»
من الطبيعي أن ينجم عن هذه الاضطرابات النفسية والاختلالات السلوكية وتلك المعاملة السيئة التي يتلقاها الأطفال العاملون، أن يصبحوا أكثر عرضة للفساد والانحراف مبكرًا، وهو الأمر الذي أشارت إليه العديد من الدراسات.فطبقًا لما أوضحه الباحثان «جانيت كوري» و«إردال تيكن»، فإن هذه العوامل تضاعف احتمالية تورط الأفراد في ارتكاب الجرائم في وقت مبكر. إذ ينجم عن ذلك اكتساب السلوك العدواني وتعلم أساليب الحيلة والخديعة، كما يصبح الأطفال أسهل انقيادًا لمحاولات استدراجهم في الأعمال الإجرامية، كتجارة المخدرات والسرقة والدعارة.
وقد ظهر ذلك بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، حيث تزايدت معدلات الجرائم التي يرتكبها الأطفال، وتزايدت معها عمليات استخدامهم في ترويج المخدرات لتسهيل عملية الإفلات من القبضة الأمنية، والوصول إلى شرائح عمرية أصغر.
كذلك أشارت الإحصائيات إلى أن جرائم هؤلاء الأطفال تتطور تدريجيًا، حيث تبدأ بالعنف والسرقة، وتتحول مع التعرف على فئة كبيرة من الأطفال المنحرفين إلى التورط في جرائم قتل ومخدرات وسرقة وشذوذ.
فوفقًا للإحصائيات المتاحة من المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية،فقد بلغ عدد الأطفال المحكوم عليهم أو المحبوسين احتياطيًا أكثر من 10 آلاف طفل، 20% منهم متهمون بجرائم القتل العمد، فيما وصلت نسبة الأطفال المتهمين في جرائم مخدرات وسرقة إلى نحو 50% منهم.
ولعل الأمثلة على ذلك كثيرة،وتمتلئ بها صفحات الجرائد كل يوم، فنجد خبرًا عن طفل يقتل صديقه بسبب خلاف على سعر سماعات «التوكتوك» الذي يعملان عليه، وآخر عن طفل خشي افتضاح أمر بعد فشله في ممارسة الشذوذ مع صديقه بالعمل فأقدم على قتله، وثالث يقتل زميله بعد استفزازه له واستهزائه به أمام العاملين، وعلى هذا المسار تتنوع الأسباب ويكون الجاني والضحية أطفالاً عاملين.
ختامًا، فعلى الرغم من أن عمالة الأطفال في مصر هي انعكاس لذلك الواقع الاقتصادي والاجتماعي المرير وذلك الفقر الذي يرزح تحت وطأته ملايين المصريين، إلا أن الأمر يحمل في طياته العديد من الخفايا والتداعيات المخيفة التي لا يجب الاستهانة بها أو التهاون معها.