الكيمياء ضد الرصاص: الكيفلار وضربة «دو بونت» الثانية
يعج تاريخ العلم بالاكتشافات التي لم يكن أحد يبحث عنها في الأصل. كثيرا ما تتضافر الصدفة مع العقل المجهز لالتقاط همسات الطبيعة لتحصل البشرية على هدية جديدة مكتشفة أو مخترعة.
فيما يمثل البنسلين والأشعة السينية X-rays اثنين من أبرز الأمثلة على مثل هذه الأحداث المفيدة، فإن العلم صاحب نصيب الأسد في هذا المضمار يظل الكيمياء الصناعية بلا منازع.
في مجال يقوم على البحث والتجريب المتواصل نجد أن البيئة مهيئة تماما في معامل الأبحاث التابعة للشركات الكبرى لاصطياد مثل هذه الفرص ولتوليدها. إن العملية الكيميائية التي يتم اختبارها لتعطي شيئا ما، بإمكانها مع تعديل بسيط –قد يأتي على شكل غلطة- أن تذهب في اتجاه مختلف تماما لتعطينا شيئا جديدا كليا.
ولأن الحظ يواتي البيئة المستعدة والنشطة،كان لشركة دو بونت Du Pont نصيب وافر من هذه الصدف المثيرة والمربحة. بعد ما يقرب من ربع قرن على بداية تسويق النيلون والاكتشاف المصادف أيضا للتيفلون Teflon في معامل دو بونت، ظهر البوليمر الجديد بخواص لا تقل ثورية عن أي من سابقيه.
يدور حديثنا عن الكيفلار Kevlar، أول الأنسجة المضادة للرصاص والأقوى بخمس مرات من الصلب.
مسار ومصير
لتتمكن من جمع بعض المال اللازم لالتحاقها بدراسة الطب عملت ستيفاني كووليك Stephanie Kwolek في معامل دو بونت –شركة الكيماويات الضخمة اّنذاك- على العمليات الكيميائية التي تتطلب حرارة منخفضة خاصة البلمرة.
كانت كووليك قد حصلت على شهادة البكالريوس في العلوم تخصص كيمياء من كلية مارجريت موريسون كارنيجي وهي كلية تابعة لجامعة كارنيجي ميلون ومخصصة للنساء.
بدأت كووليك العمل في دو بونت كوضع مؤقت لحين توفير الثروة المطلوبة لمتابعة شغفها بالطب، الأمر الذي سيتغير عندما تنغمس كووليك في أبحاث البلمرة لتجد شغفها الحقيقي يتجسد أمامها على هيئة فئة من الأنسجة يطلق عليها Aramid.
بعد اكتشاف النيلون في النصف الأول من القرن العشرين، كان التحدي في النصف الثاني منه يكمن في صناعة بوليمر مشابه. كان النيلون عبارة عن سلسلة طويلة من الوحدات المتكررة ترتبط ببعضها عن طريق رابطة أميدية Amide Bond، أي رابطة تتكون من الذرات CONH. في حين احتوى النيلون على «وحدات متكررة» نسميها أليفاتية أي ليست على شكل حلقات.
كانت الرغبة تتزايد في صنع وحدات متكررة تحتوي على حلقات بنزين متكررة أيضا ترتبط بينها نفس الروابط الأميدية. كانت هذه هي نقطة ميلاد فئة جديدة تماما من البوليمرات تعرف باسم Aramids اشتقاقا من كلمتي Aromatic أي حلقي وAmide من الرابطة المذكورة اّنفا.
تواجدت كووليك في دو بونت بشكل متزامن مع بزوغ هذه المجموعة الكيميائية الجديدة وأصبحت دراسة الطب خاطرا بعيدا بعد أن وجدت نفسها تقوم بأبحاث مكثفة في هذا المضمار. كان الهدف الذي عينت من أجله كووليك هو مطاردة نسيج يتمتع بقوة شديدة، مقاومة عالية للحرارة وخفة بالغة. كانت دو بونت تبحث عن النسيج السحري القادم في سجلها.
عائلة جديدة
كان أول تعارف بين السوق وعائلة Aramid يكمن في مادة أطلق عليها اسم نوميكس Nomex. كان النوميكس مادة تعد بالكثير اّنذاك بمقاومة حرارية بالغة وتوصيلية حرارية شبه منعدمة. كان الأمر مثيرا بحق، فبينما كان النوميكس يشتعل فإنه يتوقف عن الاشتعال بمجرد إبعاد مصدر اللهب عنه، أي أنه لا «يلتقط» النار ولا يشتعل بحد ذاته كما في القطن أو أي نسيج اّخر.
لم يطل الوقت حتى أصبحت تطبيقات النوميكس في كل مكان أهمها سيارات السباق التي تبلغ احتمالية الحريق فيها مستويات مخيفة. اعتلى النوميكس عرش المواد المتقدمة حتى ظهرت ألياف ثاني أفراد العائلة الكريمة، الكيفلار.
الكيفلار
لم تكن كووليك تهدف لتصنيع الكيفلار عمدا عندما وجدته في طريقها. كانت أبحاثها حول البلمرة تضم تجارب عديدة على تفاعلات البلمرة في مذيبات مختلفة ومحاولة تشكيل النواتج على هيئة ألياف ودراستها. ما أن أضافت مركبا حلقيا وهو البنزين 1،4 ثنائي الأمين إلى مركب حلقي اّخر وهو تيريفثالول ثنائي الكلوريد حتى تكون محلول غريب. لقد تكونت في المحلول –الذي أصبح رائقا- بللورات سائلة انفصلت بسرعة عن المحلول واستقلت بنفسها عنه لافتة كل الأنظار إليها.
شق الطريق
كان المركب الناتج يتكون من وحدات مرتبة بشكل ليس مذهلا وحسب، بل خارقا تماما. كانت كل الوحدات في اتجاهاتها الصحيحة وبترتيبها الصحيح لدرجة تكوين روابط هيدروجينية بينها –بعزل عن الروابط الأميدية الموجودة بالفعل- جعلت المادة شديدة التماسك. تلك الصفة التي أدت لاستقصاء هذا النسيج الواعد.
ذكرنا أن الكيفلار في المحلول يتخذ حالة البللورات السائلة ثم يتصلب في صورة أنسجة عند غزله spinning. سهّل ذلك من عملية تقديمه لمختلف الصناعات التي تحتاج صفاته المتفوقة بيأس. أهم هذه الصناعات بالطبع كانت صناعة مواد الحماية وصناعة الإطارات.
بدرجة انصهار تتعدى الخمسمائة درجة سيليزية، تفوق الكيفلار منذ ظهوره على كل ما قد تم إنتاجه قبل ذاك الوقت. مع التفوق في ترتيب جزيئاته، أصبح النسيج الجديد بلا منافس خاصة مع قدرته المبهرة على مقاومة الشد Tensile strength.
تم دمج الكيفلار في كل ما يتم صناعته لحماية الجسم من الأذى في المواقف شديدة الخطورة، من خوذات الجنود إلى السترات الواقية من الرصاص إلى الأحذية العسكرية. بالطبع لم تكن صناعة بالحجم الضخم الذي تمثله صناعة السيارات لتغفل عن فوائد هذه المادة فجعلت منه مكونا من تركيبة تصنيع إطارات السيارات مما جعلها تقاوم الفناء الناتج عن الاحتكاك ميكانيكيا وحراريا.
مثل الكيفلار خطوة تاريخية نحو عالم المواد الحديثة، المتطرفة في خواصها، التي تعد بالكثير وتفي بوعودها دائما. كان النصف الثاني من القرن العشرين عبارة عن إشارة البدء في حقبة تمكننا فيها موادنا الجديدة من فعل كثير مما حلمنا به وظننا أن لن يصبح واقعا أبدا.
إن قوة الكيفلار ليست فقط قوة ميكانيكية بل قوة فكرية أيضا. سيذكرنا البوليمر دائما بما حدث عندما كان العقل مستعدا للاستماع لما تمليه الطبيعة ومبادرته لتلقي هذه الهبة والاهتمام بفهمها وتحويلها إلى أدوات. إن في قلب معظم الاكتشافات الثورية صدفة.