طباخ وديليفري: حكايات الذين لا يفطرون بسبب «أكل العيش»
ساعات قلائل ويُرفع أذان المغرب، أصوات مواقد الطهي تطغى على الأجواء، روائح الطعام تزكم الأنواف، الحركة تدب في المكان بلا انقطاع؛ بينما انهمك «محمد طه» في الانتهاء من طهي الأصناف التي أُعدت على القائمة الرمضانية اليومية لمطابخ إحدى القرى البدوية بمدينة التجمع الخامس؛ حيث أخذ ينقل بصره بين عقارب الساعة والزبائن الذين بدأوا يتوافدون على المكان.
قبل بداية الشهر الكريم، انخرط «طه» في تجهيز معدات ومستلزمات الطبخ في المطبخ المسؤول عنه داخل القرية البدوية، وذلك بخبرة طباخ مخضرم بدأ مهنته قبل عشرين عامًا رفقة أبناء عمومته في منطقة فيصل بالجيزة، إذ اعتاد مشاركتهم في إعداد ولائم للعزومات والأفراح، حتى بات من أشهر طباخي مطاعم الفنادق الكبيرة.
على مدار سنوات عمل «طه»، يتخذ روتين يومه شكلًا خاصًا؛ ما إن يقترب الشهر الكريم، إذ يُعلن حالة الطوارئ في المطبخ، بدءًا من إعداده قائمة بما سيحتاجه طيلة الثلاثين يومًا، مرورًا باختيار الطاقم الذي يعمل رفقته حتى تحديد الأصناف التي سُتقدم على طاولات الإفطار للزبائن « لأن سمعة المكان اللي بشتغل فيه ممكن تتأثر في رمضان تحديدًا لو الناس ملقتش كل حاجة زي ما طالبه وفي توقيت الفطار بالظبط».
منذ الحادية عشرة صباحًا، يتجهز «طه» لبدء يوم شاق معتاد، ونصب عينيه عقارب الساعة في اتجاهها صوب أذان المغرب الذي يُعلن انتهاء عمله، ليبدأ في وصلة أخرى أكثر أهمية «قبل الفطار بنص ساعة لازم أكون مخلّص طبخ، وأحضر الطلبات عشان تطلع على الترابيزات»، من دون التفكير فيما عساه سيتناوله رفقة طاقمه في الوقت الذي يُقبل زبائنه على كسر صيامهم «إحنا مش بنفكر في الفطار غير لما الأكل كله يتقدم على كل الترابيزات».
مُنظِّم مائدة رحمن: باكل آخر واحد
على طاولات مشابهة مصفوفة -في شكل هندسي- بحواري منطقة الحسين، انخرط «محمود ربيع» في رصّ وجبات بعينها لعابري السبيل والطلاب المجاورين للأزهر، وذلك في خفة واضحة، ليتمكن من الانتهاء مهمته اليومية التي يُجلب لها سنويًا، لإعداد الإفطار لبعض موائد الرحمن.
على عكس «طه» يعلم «ربيع» منذ بداية يومه عدد الوجبات التي سيقدمها، والأصناف المحددة التي يعدها، فتصبح مهمته أسهل كثيرًا «مفيش حاجة صعبة في شغل موائد الرحمن غير تحضير المعدات كل يوم، لأن معظم عملية الطبخ بتتم في الشوارع أو أماكن مفتوحة»، غير أنه يشمر عن ساعديه، عاملًا بجدية بالغة للانتهاء من طهي جميع الأصناف قبل أن يُرفع أذان المغرب «ماينفعش الناس تيجي تقعد وتستننا نحطلهم الأكل بعد المغرب».
لدى الطباخ الأربعيني قواعد بعينها يضعها نصب عينيه طيلة الشهر الكريم، في عمله الذي شرع فيه منذ الصغر رفقة والده، أولها عدم ادخاره جهدًا في طهي طعام المائدة «دي كلها ثواب، وحتى لو باخد أجري فلوس، لازم أساهم في خير المائدة بأني أطبخ أحسن حاجة»، وثانيها تقديم الإفطار في موعده، إضافة إلى «مش بنقرب من الأكل إلاّ لما نطمن أن كل اللي قاعد على المائدة فطر وشبع»، لذلك يتعمد التخديم عليهم طيلة إفطارهم، متصبرًا ببعض التمرات؛ ريثما يفرغوا «بعد ما نرتب حاجتنا كلها نقعد نفطر بقى براحتنا».
على غرار ربيع، لا يُهم «طه»، لكسر صيامه بانتهائه من تقديم الوجبات للزبائن، وذلك لاحتمالية قدوم بعض الأشخاص متأخرًا عن موعد الفطار، فيتطلب منه ذلك إعداد ما يطلبونه على وجه السرعة «في الوقت ده يدوب بنشرب كوباية عصير وإحنا واقفين»، لا يتوقفون عن تلقي الطلبات، ينهمكون في تلبيتها، تتسارع حركتهم، حتى يفرغ الجميع من تناول الإفطار «على الساعة 9 أو 10 بليل ممكن نقعد نفطر كلنا بسرعة»، ومن ثم يشرعون في تجهيزات السحور.
عامل ديليفري: تسليم الأوردرات أولاً
من يد طباخين مشابهين لربيع وطه، يتسلم «محمد رضا»- عامل ديليفري- الطلبيات اليومية، لينطلق في طرق عدة مختلفة، لتسليمها إلى منازل الزبائن الذين طلبوها مبكرًا، لتصلهم قرب أذان المغرب، ذاك الموعد الذي يُرتب عامل الديليفري الشاب قائمته اليومية عليها؛ ليتمكن من إتمام عملية التوصيل دون تأخير أو شكاوى.
قبل شهر ونصف الشهر، بدأ «رضا» في عمل توصيل طلبيات الأكل لأول مرة في حياته، ما اعتراه قلق نابع من عدم معرفته كيف سيتم الأمر لا سيما في شهر رمضان «الناس في رمضان بتكون عاوزة الأكل يوصلها في ميعاد مظبوط عشان ده فطارهم»، ما يعني احتمالية التأخير غير واردة، فاتبع نظامًا بعينه ساعده حتى الآن «بدأت أرتب العناوين.. أبدأ بتوصيل طلبيات الأماكن البعيدة الأول، وبعدين القريبة عشان الكل يوصله قبل المغرب».
مواقف عدة واجهت الشاب العشريني في طرقه اليومية لتوصيل الطلبات، يحاول جاهدًا التغلب عليها، لا سيما تكدس الشوارع بالسيارات قبيل المغرب «بضطر أدخل من شوارع جانبية كتير عشان متأخرش»، ما يجعله يبذل مجهودًا أكبر في عمله مقارنة بالأيام العادية، إضافة إلى حرصه الشديد لتفادي حوادث الطرقات التي تزداد في ذلك التوقيت تحديدًا، نظرًا لرغبة الجميع في اللحاق بأهلهم في موعد الفطار «مرة عربية كانت جاية سريعة خبطت الموتوسيكل بس جات سليمة ومحصلش حاجة، فبحاول أخد بالي أكتر».
«كله يهون لما بلاقي الناس سعيدة أن الأكل وصلها قبل المغرب مش بعده»، هؤلاء الذين يعرضون عليه مشاركتهم إفطارهم «مرة شاب مغترب أصر أقعد أفطر معاه لأن المغرب كان أذّن، وبعد محاولات كتير سمحلي أمشي بعد ما شربت العصير معاه»، يقول «رضا» ضاحكًا.
رغم حرص «رضا» على توصيل الأكل للزبائن لكسر صيامهم، لا يكترث لإفطاره كثيرًا «همي بيكون الشغل الأول»، يُعينه في ذلك ما يمنحه بعض صُناع الخير الذين يتكدسون على جانبي الطرق، وفي الشوارع قبيل المغرب، من تمور وعصائر يوزعونها على المسافرين والمتأخرين عن إفطارهم «باكل تمر وعصاير من اللي الناس بتوزعها علينا، وبفضل مكمل لحد ما خلص كل الأوردرات، وبعدين أرجع المطعم أفطر».
المؤذّن: أهل بيتي اعتادوا الإفطار متأخرًا
إشارة لبداية نهاية عمل كل من الثلاثة ينتظرونها، يعطيها المؤذن «محمد فكري» الذي يرفع أذان المغرب يوميًا في مسجد الشارع الذي يقطنه بمنطقة «صفط اللبن»؛ ليكسر الجميع صيامهم في ما عداه، إذ يعتاد تأدية صلاة المغرب رفقة بعض ممن يتبعون عادة إتمام الصلاة قبل الفطار «بقالي عشرين سنة بأذن المغرب في رمضان فدايمًا منفطرش غير بعد صلاة المغرب».
قبل عقدين من الزمن، قَدِم «فكري» من محافظته ببني سويف، ليستقر به المقام في «صفط اللبن»، بالقرب من مسجد صغير يتوافد عليه باقي الجيران لتأدية صلواتهم به، فعهد صاحب المسجد بمفتاحه إليه، ليكون مسؤولًا عنه، بخاصة «أنا كنت بأم الناس في الصلاة وبأذن من نفسي ومتواجد بشكل دايم»، فائتمنه الرجل الستيني على مسجده، قبل سفره إلى الخارج.
رغم أهمية ما يقوم به الرجل الخمسيني في المسجد، فإن طقوسه خلال شهر رمضان لديها مذاق مختلف بالنسبة له، لا سيما حين يبدأ تحضيراته للنزول إلى المسجد لرفع أذان المغرب «بكون واخد كم حبة بلح في جيبي وأنا نازل»، ليعتمد عليها ريثما يفرغ من صلاته «غير أن أهالي الشارع بيتفننوا أنهم يعملوا خير فيبعتوا عصاير وتمور وحلويات لنا».
مهمة جادة يضعها المؤذن على عاتقه بشروعه في رفع أذان المغرب الذي ينتظره الجميع «لازم أتأكد من معاد الأذان بالدقيقة والثانية عشان هتسأل قدام ربنا»، فما أن ينتهي من مهمته، يلحق بأهل بيته ليتناولون الإفطار معًا «هم متعودين يصلوا الأول وبعدين يفطروا، فبنفطر مع بعض».
عكس المؤذن، يجاهد كل من الطباخين وعامل الديليفري للحصول على إجازة لا تتعدى كونها يومين أو ثلاثة، لمشاركة أسرهم الإفطار خلال شهر رمضان، مثلما فعل «محمد طه» الذي لأول مرة منذ بدء الشهر الكريم يتناول إفطاره رفقة أسرتها مطلع الأسبوع الجاري «حتى لما روحت فطرت معاهم معرفتش أفطر وقت المغرب وبقيت أستنى لبعد الصلاة فهم كانوا يستنوني»، يقول «طه» الذي انتهت عطلته القصيرة عقب يومين فقط، ليتوجه صوب عمله مجددًا الذي سيقبع به حتى انتهاء إجازة عيد الفطر.