مسرحية تشارلي: الوعي بطبيعة جمهور مواسم الترفيه
عرضت مسرحية تشارلي تشابلن من تأليف «مدحت العدل» وإخراج «أحمد البوهي» بين مصر والسعودية عدة مرات، حيث تم عرضها بداية هذا العام بموسم الرياض بالسعودية، ومن بعدها جاءت المسرحية لتعرض على مسرح أركان بلازا بمصر، ثم من جديد بالسعودية على مسرح خيمة جلوب في موسم جدة بالسعودية، ثم عودة لمصر مرة أخرى على مسرح موفنبيك، أي بدأ العرض بموسم يستهدف فئة معينة من الجماهير بموسم الرياض وهو المهرجان الترفيهي السنوي الذي ترعاه السعودية، ثم بمجيء العرض إلى مصر والتعرف على أسعار التذاكر التي تبدأ من 600 جنيه مصري، وتصل لـ2000 جنيه، للتأكيد على أن العرض يستهدف فئات جماهيرية بعينها وذلك قبل المُشاهدة.
عناصر جذب قبل المُشاهدة
ثم بالنظر في اختيار تشارلي تشابلن على وجه التحديد ذلك السينمائي العالمي الأشهر في تاريخ السينما ليكون شخصية مسرحية لهو أمر لافت للنظر.
بداية من ذلك الدمج بين الوسيطين فلا غنى عن التوجه ليس فقط لتلك الشخصية السينمائية بل لأفلامها إضافة لنوع السينما التي كان يقدمها تشابلن «الصامتة» ليكون وقبل بادئ ذي بدء هناك مجموعة عناصر جاذبة ومحفزة على المشاهدة تبدأ من تقديم السينما مسرحيًًا، ثم احتلال ذلك الصامت المشهد وتصدره له ليصبح ناطقًا علاوة على رؤية الجانب الخفي من حياته فقطعًا إذا تكلم ستكشف جوانب عدة تركها تشارلي لجمهوره في خطبته الناطقة في فيلمه «الديكتاتور العظيم» كتمهيد لما سيقوله إذ نطق أو إذا سعى أحد ذات يوم ليجعله ناطقًا، وأخيرًا هو عنصر اختيار الشخصية بذاتها ومعرفة الجمهور أنه لا بد من وجود صراع حتى تطرح الدراما لذا فهناك جوانب ستكشف، تحمل صراعًا عن حياة ذلك الكوميديان أي محفز آخر مكمل لكافة الرؤى الخفية التي لا يعلم عنها الجمهور الكثير، إضافة لمعرفة القائمين على العرض بطبيعة الجمهور الموجه له العرض المسرحي، تلك الشريحة التي تريد الترفيه، وهي شريحة غير متخصصة مسرحيًا التي ترتاد مسرح القطاع الخاص بهدف النزهة ورؤية شيء ترفيهي وقضاء وقت مسلٍ ومنها لعوامل الجذب داخل العرض نفسه بعد المُشاهدة.
الترفيه داخل العرض
كل ما تم ذكره جميعها هي عناصر جذب قبل المشاهدة تستقطب الجمهور للمسرح إضافة للحملة الدعائية الضخمة وتوفير سبل الراحة والتنظيم حتى لا ينفر الجمهور من المكان ويكون مهيئًا للاستمتاع.
ثم أثناء المُشاهدة يجد المتفرج عناصر عدة أخرى للتسلية وجذب الانتباه، حتى لا يمل من الإيقاع الرتيب، حيث ترصع العرض بمجموعة من الأغاني والاستعراضات التي تساعد على شد الإيقاع، بجانب تقديم أشهر أفلام تشارلي فقط داخل العرض حتى لا يشعر المتلقي بالجهل بل يكون على نفس الوتيرة وواعيًا بالحدث ويضاف إلى معلوماته بعض الأحداث عن حياة البطل دون أن يكون بعيدًا كل البعد عنها، وتقديم ملخص عن أحداث كل فيلم من خلال استعراض غنائي ليحدث ربطًا بين ما يعلمه وما يشاهده من صورة مسرحية مسلية فتتحقق جميع عناصر الجذب، وذلك ما هو إلا رصد لما قدم دون الإشادة أو الإدانة، كل ما هنالك أنه بالفعل تمت الدراسة الجيدة لطبيعة المتلقي المستهدف ومنها لعناصر جذب تمثل الـ60% من المجهود المبذول في العرض، ثم تأتي باقي العناصر الفنية لتحتل الـ40% المتبقية ورغم فنيتها وما تحمله من تفاصيل فإنها لا تتخلى عن البحث عن عناصر الجذب والاهتمام بالمتلقي بل ووضعه في المقام الأول ودراسته جيدًا دراسة لا تقل عن دراسة الشخصية البطل بل تزيد.
الجمهور المُرفه
تؤخذ أحيانًا كلمة «ترفيه» على محمل الهزل أو السطحية، بينما للترفيه عناصر لا غنى عنها، مثلها مثل طبيعة أي نوع فني يمتاز بخصائص تميزه.
تبدأ عناصر الترفيه بتوفير كل سبل الراحة لذلك الجمهور، إضافة للوضع في الحسبان أنه جمهور غير متمرس في المسرح لذا فإذا قدمت إليه تكوينات أو ربما أنماط أو حتى أساليب إخراجية مكررة أو تشبه ما قدم عشرات المرات في مسرحيات سابقة تحت مظلة الترفيه والاستعراض والأغنيات فلا ضرر منها، لأن الاعتماد الأكبر سيكون على قلة خبرة ذلك الجمهور نحو ذلك الفن، نظرًا لغياب القطاع الخاص وبخاصة في مصر لفترات كبيرة، فالجمهور أصبح متعطشًا لذلك النوع وخبرته في المشاهدة به محدودة يريد التسلية والعبرة ورؤية الصورة المسرحية في أفضل حالاتها حتى يرضى عن ثمن التذكرة.
الإخراج
ومنها اعتمد الأسلوب الإخراجي لعرض تشارلي على تلك المعطيات المذكورة وقدم صورة مسرحية تتميز بأبعاد جمالية تؤكد علو التكلفة لكنها أيضًا جاءت لخدمة الدراما ولكن السؤال كيف تم الطرح لخدمة الدراما؟ فاستوديو تشارلي بالعرض تميز بالفخامة وبه تفاصيل سينمائية كرسم شريط السينما في الخلفية بينما بيته قديمًا، وهو طفل صمم ذا تكوين ضيق لتوضيح الفارق بين الزمنين وأزمة البطل في كل منهما التي تتضح في ضيق المساحة بنومه منكسرًا على أريكة متواضعة في مقابل المساحة الشاسعة بالاستوديو، علاوة على الاستعراض وحركته مختنقًا ملقى على الأرض يحاول النجاة بذاته في مقابل السلطة العليا من فوقه واقفة في مستوى أعلى تسيطر على حركته ويتضح بالتكوين أنهم في وضع المهيمن وهو في وضع المظلوم هم يقفون في الأعلى وهو ملقى في الأسفل، ورغم أنه تكوين في صالح الدراما وتفسير الحدث فإنه تكوين تقليدي للغاية وذلك وفقًا لطبيعة الجمهور المذكورة، الذي لا يهتم كثيرًا بتفسير الدلالة بقدر أن يصل له المعنى ببساطة، لذا لجأ المخرج لأول وأبسط تكوين إخراجي وتقسيم لوقوف الممثلين من الممكن أن يأتي في خاطر أي مخرج آخر لم تسبق له التجربة.
وهو الحال نفسه مع تصميم غرفة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي المضطهد لتشارلي المليئة بالكتب التي توحي بمجرد الرؤية بالجمود وضيق الأفق في مقابل استوديو تشارلي وشرائط السينما والكاميرات والبراح الفني، حيث إنها سلطة طاغية غاشمة في مقابل الفن الحر المتحرر من أي قيود، فذلك هو الخط الأهم الذي لفت نظر الكاتب ليكون مدخلًا وأساسًا لمسرحية عن تشارلي تشابلن ربما لما به من صراع واضح حيث تقوم الدراما في أساسها على الصراع ومنها لأطراف متبلورة، علاوة على أنها أزمة بين السياسة والفن وهو صراع شائع التناول دراميًا وجذاب أيضًا للجمهور.
ورغم أن أطراف الصراع واضحة والدراما تسير في تدرج منضبط فإن «الكلمة» المكتوبة بالنص المسرحي كانت في غاية المباشرة والتوجيه حيث الاتكاء على أن الفن يقف أمام الطاغية وأن السياسة تحارب الفن بالحوار، أمرًا جاء على نحو خطابي للغاية سواء حواريًا أو حتى ما قدم بالأغنيات، والأسلوب الإخراجي لم يتخلَّ عن التكوينات الأولية المبتدئة، فالسلطوي يعتلي الجزء الأعلى دائمًا حتى عند محاولته لتطويع طليقة تشارلي جاء التكوين عن طريق تحريكه لها وللصحفية المساعدة له كعرائس الماريونت فهي بالفعل أساليب غير مبتعدة عن الدراما لكنها مكررة بجانب الخطابية الحادة ليكون عنصرًا الإخراج والكتابة في غاية المباشرة لكنهما يتماشيان مع طبيعة ذلك النوع ولا يضران به بل يتناسبان معه فلا يحتاج الجمهور المستهدف عناصر أعمق من ذلك، ولا يريد صناع العرض إرهاق الذهن أو استشعار الجمهور بالجهل، بل يعمل على توصيل الفكرة بكافة العناصر التي تجعله يستشعر أنه ليس بجاهل أو يحتاج لقراءة ودراسة لتفسير شيفرات العرض.
التمثيل
لم يتم استثناء الجمهور المتلقي من التفكير في صناعة ذلك العرض ولو لحظة واحدة لذا فعندما وقع تسكين دور السلطوي الفيدرالي على أحد تم اختيار «أيمن الشيوي» للدور نظرًا لارتباط صورته في الوسيط السينمائي في العالم العربي بدوره «يودا» ذلك اليهودي المتعصب الذي تعقب طريق رحلة كفاح همام المغترب المصري الطيب في الفيلم المصري الشهير «همام في أمستردام»، لذا فكان اختياره للدور أشبه باللعب على «الموتيقة» أو الصورة الذهنية الراسخة المحفوظة عند الجمهور، واستكمل أسلوب اللعب على الصور الذهنية ليس فقط في اختيار الممثلين بينما أيضًا في اختيار ألون الملابس فمثلًا «هيدا هوبر» الصحفية التي تنتمي لطرف صراع الشر، ترتدي فستانًا أسود يليه الأحمر وما لتلك الألوان من دلالات معروفة نحو الشر والخطر، بينما والدة تشارلي التي ترتدي الأبيض دائمًا بعد موتها وما للأبيض من دلالة لا تحتاج تفسيرًا حول النقاء والطيبة والصفاء، فهي صوت الضمير له والمحرك والدافع دائمًا، لكن تضمين الخط الخاص بالأم داخل الدراما الذي حضر حتى يؤسس لكونها ضميره في الحاضر جاء على هيئة «فلاش باك» في الماضي في محاولة لرصد واقع تلك الأم التي كانت تحب الفن لكنها لم تكن قادرة على تحقيق حلمها فتدفع الابن بروحها بعد موتها بتذكرها حتى يستطيع المقاومة وتحقيق الحلم، لكن الخط بذاته خط غير مكتمل فهي شخصية مبهمة مقحمة لم يتضح سبب واضح لعدم قدرتها على تحقيق حلمها ونعتها «بالمجنونة» بين أبناء حارتهم القديمة، فقط تم رسم ذلك الماضي لتضمينه في زمن الحاضر ليكون محركًا للبطل لكنه استند على بناء خاوٍ غير متسق دراميًا لشخصية غير معلومة دوافعها، وربما يزعج أي نوع من الجماهير.
ولكن ذلك لا ينفي أن عنصر التمثيل كان العنصر الأهم والأكثر تميزًا بين سائر العناصر الأخرى وذلك وفقًا للنهج الذي اتبعه العرض في الاهتمام بكل عناصر الصورة المسرحية المرئية أن يظهر بها التكلفة والجودة العالية إضافة للوضع في الحسبان أن ذلك المستهدف يعي بأهمية عنصر التمثيل نظرًا لكونه المشترك الأبرز بين الوسيط المسرحي والسينمائي والتلفزيوني ورغم اختلاف الأداء التمثيلي داخل كل وسيط وبخاصة في المسرح لما يتمتع به من طبيعة خاصة حيث الآنية والحضور اللحظي والتفاعل الحي المباشر وذلك السياق الذي يحدد معايير تختلف في توجيه الممثلين والأداء الذي لا يستثني جسد الممثل كجزء أساسي منه لطبيعة الرؤية التي لا تتوفر بها كاميرا تعمل على المونتاج بالقطع والقرب من الوجوه وما إلى ذلك، فإنه يبقى عنصرًا مشتركًا لا يحتاج ذلك المتلقي فيه لخبرة مشاهدة مسرحية عالية حتى يتأتى له الحكم على إجادته من عدمه، لذا كان الاهتمام به واضحًا سواء على تلك الأدوار المذكورة أو غيرها بداية من مؤدي الاستعراضات وصولًا لبطل العرض «محمد فهيم».
محمد فهيم بطلًا!
ربما بطولة «محمد فهيم» للعرض هي العنصر الأكثر لفتًا للانتباه حيث كل ما تم ذكره من عناصر جاذبة تضع الجمهور في المقام الأول، للعمل على راحته وتقديم الرؤية الأسهل في الاستقبال واللعب على الموتيفات والأنماط التي لا يمكن لها أن تؤول لأي شيء آخر أو تحمل أكثر من تأويل يعمل على إرهاق ذهن المتفرج، وذلك لإرضاء الجميع بنفس الدرجة، إلا أن عنصر البطل جاء على نحو غير ذلك ولا يتبع ذلك الأسلوب تمامًا حيث إنه لم يكن نجمًا من نجوم الصف الأول ولم يكن له رصيد كاف عند الجمهور بوضعه مصدر الجذب الأول والأهم، وذلك بالمقارنة مع عروض مسرحيات موسم الرياض السابقة التي كان أبطالها أحمد عز وأحمد السقا.
لذا فكان اختياره للقيام بالبطولة مخاطرة حقيقية تكسر الاستراتيجية التي اتبعها القائمون على العرض، لكن بعد المشاهدة يتضح أنها مخاطرة في محلها وأن اختيار ذلك الممثل المتمرس مسرحيًا اختيار صائب ودقيق حيث الإجادة التامة للشخصية والوعي ليس بأهمية الشخصية والمسؤولية تجاهها التي سيشعر بالتأكيد أي ممثل آخر يحل محله، بل الوعي بالشخصية كشخصية مسرحية ستقدم من خلال دوافع وصراع، لا من خلال تقليد للأداءات المعروفة لذلك السينمائي الشهير، وإدراك تقديم جزء مستتر منها غير معلوم للجميع، لذا تم التعامل مع الشخصية بوضعها شخصية مسرحية وليست «كاركتر» تشابلن من حركات وملابس، إضافة لوعيه الجسماني بأهمية المرونة في حركة الشخصية وما يتحمله وجهه من مساحيق سعت لتقريب الشكل قدر الإمكان ليكتفي الممثل بذلك القرب للربط بينه وبين الصورة الشهيرة، وينحي عن عاتقه هاجس التقليد ويرتكز في أدائه بشكل أكبر على التمثيل.
لذا فكان اختياره للقيام بالبطولة هو المخاطرة الأكثر ربحًا داخل ذلك العرض الذي لم يخاطر بأي عنصر آخر لتوفير كل سبل الراحة وتحقيق الترفيه والاستمتاع وضمان الربح للمتلقي المستهدف.