رحلة تجارية مع الله: العمل الخيري في مصر بين المجتمع والسلطة
هذه العبارة الرنانة يسعى من أجلها الكثير من المواطنين في رحلة تجارية مع الله عندما يقرر أن يلجأ لعمل الخير، ذلك التفكير الذي ينتهي مطافه غالبًا عندما يقع اختياره على إحدى الجمعيات الخيرية التي تذاع إعلاناتها عبر الفضائيات والإذاعات والصحف والمنشورات التي تحاصره في كل مكان من البيت والشارع وحتى أماكن العمل.
ما يقرب من 46 ألف جمعية أهلية بمصر -وفقًا لتصريحات مستشار وزيرة التضامن الاجتماعى- تعمل على قدمًا وساق في محاولة للقضاء على مثلث الفقر والجهل والمرض بالمجتمع المصري، منهم من ظل يعمل في الخفاء دون إعلانات مدوية تروج له والبعض الآخر استطاع أن يجعل من اسمه ودوره علامة في أذهان المواطن المصري الباحث عن عمل الخير، لتصبح تلك الجمعيات هدفًا للسلطة وفريسة السياسة في المجتمع.
مستشفى 57357: أصل الحكاية جنيه
«اتبرع ولو بجنيه …اتبرع باللي تقدر عليه»، تلك الجملة التي بنت عليها مستشفى سرطان الأطفال 57357 حملتها وعلقت في أذهان ملايين من المصريين الذين سارعوا في التبرع لبناء ذلك الصرح؛ أملًا في وسيلة حقيقية تستطيع أن تخلصهم من الوحش الكاسر الذي يلتهم أجساد أطفالهم المرضى بذلك المرض اللعين المسمى بالسرطان، والذي أصبح أكثر انتشارًا مؤخرًا، ووفقًا للنتائج التي نشرت من السجل الوطني للسرطان فقد قدر نسبة الإصابة بالسرطان في مصر عام 2012 113.1 / 100,000 من إجمالي عدد السكان و 114.98 / 100,000 من إجمالي عدد السكان في عام 2013، ومن المتوقع أن تزيد حالات السرطان من 2013 -2050 لتكون لتكون 341,169 / 100,000 من إجمالي عدد السكان.
ومع تغير احتياجات المواطنين بالمجتمع تعمل تلك الجمعيات على التطوير من أدائها حتى تلبي تلك الاحتياجات التي تعجز الدولة عن تقديمها للمواطنين البسطاء، فإن أول الجمعيات الأهلية التي شهدت مصر تأسيسها كانت (الجمعية اليونانية) في الإسكندرية عام 1821، والتي كان من شأنها الاهتمام بالجالية اليونانية الموجودة في الإسكندرية في هذا الوقت.
ومع مرور الوقت ومع الإدراك المجتمعي لأهمية تلك الجمعيات لما تقدمه للمجتمع بدأت سلسلة من الجمعيات الأهلية العمل في مصر، ومن ثم بدأ العمل الخيري تتسع رقعته وتأسست الجمعيات الأهلية ذات الطابع الخيري وأخرى بذات السمة الدينية، بالاضافة إلى وجود جمعيات أهلية انخرطت بــــــــ «العمل الحقوقي»، ومع نهاية القرن التاسع عشر بدأ إنشاء الجمعيات التي تتبنى حقوق المرأة (جمعية المعونة النسائية 1895 وغيرها)، إلى أن تطور الأمر عام 1923 لتأسيس الاتحاد النسائي.
المسجد والكنيسة: لماذا لا تهتم الدولة؟
في الربع الأخير من القرن التاسع عشر تأسست العشرات من الجمعيات الأهلية ذات السمة الدينية، إسلامية (مثل الجمعية الإسلامية) وأخرى قبطية (منها جمعية التوفيق القبطية)، إلا أنها جميعا تخطت الدعوة الدينية، واهتمت بالتعليم والصحة وأمور أخرى تحاوط المواطنين البسطاء.
و في ظل ترهل الدولة وتراجعها عن أداء دورها المنوط بها يبحث المواطنون حينها عن طوق نجاة آخر أو عن وسيلة أخرى لقضاء حوائجهم، ولتقديم المساعدات، سواء على المستوى المادي أو الاجتماعي، فمع تخبط التوجه الاقتصادي لمصر منذ عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات بين الرأسمالية والاشتراكية التي أسس لها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
استمر هذا التخبط إلى عهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك حتى كشف النقاب عن التوجه الاقتصادي الحقيقي لمصر ذات الطابع الرأسمالي، بدأت الدولة من هذا الوقت رفع يدها عن المواطن المصري، وخصوصا محدودي الدخل، ومن هنا أصبح الوضع مثيرا للارتباك.
ففي الوقت الذي نهج فيه نظام مبارك سياسات اقتصادية رأسمالية أغفل فيها تطوير القطاع العام كما تراجع مستوى خدمات الدولة في عدد من المجالات منها الصحة والتعليم وغيرها من الخدمات، بدأت المساجد والكنائس في توفير خدمات صحية ودروس خصوصية تتناسب مع الأسر ذات الدخل المنخفض، كما قدمت العديد من الخدمات المجتمعية، فالكنيسة قامت بتقديم تلك الخدمات للأقباط، وعلى الجانب الآخر كانت المساجد تقدم مثلها للمسلمين.
ومع تزايد تأزم الوضع الاقتصادي بدأت كل مؤسسة في المحاوطة على أفرادها، من خلال تلك الخدمات الأمر الذي سهل حالة الاستقطاب الديني التي انتشرت في المجتمع المصري، وأصبح كل منها دولة قائمة بذاتها بعيدة عن الدولة الأم، ومن هنا بدأت الأسوار تتعالى لتفصل بين كل مجتمع على حدة، فالكنيسة أصبحت مجتمع المسيحيين والمسجد أصبح للمسلمين، أما الدولة فأصبحت أكثر انسجامًا لهذا الوضع لما قامت به المساجد والكنائس من تخفيف عبء المواطنين عنها، بالرغم من أن هذا هو دورها الأساسي.
صندوق تحيا مصر: السياسة والخير في وعاء واحد
بعد عام تقريبًا من إنشاء صندوق تحيا مصر؛ بدأ عدد من الجمعيات الخيرية التي تعلن عن نفسها عبر الإعلانات المصورة، والتي تجمع تبرعاتها من عرق المصريين وخيرهم الاتحاد مع صندوق تحيا مصر الذي أنشأه الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، بهدف التغلب على الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد وفقا لتصريحاته.
ورغم أن احتياجات المواطنين ضمن الدور الأساسي الذي من المفترض أن تلعبه الدولة، فإن الجمعيات الخيرية كان لها رأي آخر، ففي أغسطس/أب 2015 استغل النظام أسماء كبرى الجمعيات الخيرية للوصول إلى المواطنين البسطاء للتبرع لصالح مشاريع النظام من ضمن تلك الجمعيات،جمعية رسالة التي تبرعت بـ5 ملايين لصندوق تحيا مصر لحملة علاج فيروس سي التي أعلنت عنها الدولة.
في الوقت نفسه قامت جميعة الأورمان بتوزيع عجول التسمين على البسطاء بقرى ونجوع محافظة الأقصر، وذلك بتوزيع الدفعة الثالثة منها بمركز أرمنت جنوب غرب المحافظة تحت شعار «تحيا مصر»، بالإضافة إلى افتتاح 4 قرى فى محافظة الفيوم ضمن افتتاح المرحلة الثانية لــ 750 منزلا بـــ21 قرية، وذلك ضمن بروتوكول التعاون بين جمعية الأورمان وصندوق تحيا مصر لإعادة تأهيل لـــ4445 منزلا بـــ 126 قرية على مستوى الجمهورية.
كما وقع صندوق «تحيا مصر» الذي أنشأ لحل الأزمة الاقتصادية برتوكول تعاون مع مؤسسة «مصر الخير» للإفراج عن 2000 غارم وغارمة، بتكلفة تصل إلى 21 مليون جنيه تبرع بها صندوق تحيا مصر.
الخير بين الدولة والمجتمع: من المسئول؟
رأى عبد الغفار شكر، نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، في كتابه «نشأة وتطور المجتمع المدنى: مكوناته وإطاره التنظيمى» أن الجمعيات الأهلية جزء من المجتمع المدني الذي عرفه من خلال كتابه بأنه:
وعلى الرغم من أن الجمعيات الخيرية تحاول أن تسند الدولة في تلبية احتياجات المواطنين البسيطة التي تساعدهم على المعيشة ومواكبة الظروف الاقتصادية، إلا أن تلك الجمعيات تقابل حالة من الملاحقة الأمنية من الحكومة المصرية، كان آخرها قانون الجمعيات الأهلية الذي ناقشه البرلمان المصري في نوفمبر / تشرين ثانٍ الماضي، ذلك القانون الذي أطلق عليه عدد من الحقوقيين والسياسيين «قانون تأميم المجتمع المدني».
وفي دراسة بحثية بعنوان «الدولة والمجتمع: اتجاهات جديدة في التنمية» للكاتب سامح فوزي نشرت عبر المركز العربي للبحوث والدراسات، أكد أنه «عادة ما تلعب الدولة دورا سلبيا لإعاقة بناء المجتمع المدني من خلال الركون إلى ترسانة من القوانين واللوائح التي تُكبِّل المبادرة الحرة الشخصية للأفراد، هذه حالة كثير من الدول النامية، وهو أمر يتصل بطبيعة تدخل الدولة غير القانوني في شئون المجتمع، أكثر ما يتصل بحجم تغلغلها القانوني الفعلي لتنظيم العلاقات داخل المجتمع كما هو الحال في الدول المتقدمة».
وتطرق الكاتب إلى الحال في الدول الإسكندنافية (دول أروبا الشمالية)، حيث تلعب فيها الدولة دورا رئيسيا في مساعدة التنظيمات التطوعية علي العمل جنبا إلى جنب مع الحكومة في توفير الرعاية الاجتماعية، مؤكدًا، بحسب تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 2002م، أن الدول الإسكندنافية (دول أوروبا الشمالية) هي الأقل فسادا، والأكثر اهتماما وصونا لحقوق الإنسان، وتبدي احتراما وتوقيرا لحكم القانون، مما جعلها مصدرا أساسيا لرفع معدلات ثقة المواطنين في الدولة.
فتراجع الدولة عن دورها في تلبية احتياجات المواطنين أدى إلى صعود المؤسسات الخيرية ذات الطابع الديني الأمر الذي تسبب في حالة الاستقطاب الديني التي يشهدها المجتمع الآن، وعلى الرغم من أن العمل الخيري موجود في عدد من الدول المتقدمة، إلا أنه في مصر محاصر بعدد من القوانين النظامية، وفي ذات الوقت تلجأ إليه الدولة أحيانًا للترويج لشعبيتها للوصول لأكبر قاعدة من المواطنين المحبين للخير.