الانهيارات الأرضية تزحف، اصطدام عربات المترو، سقوط شبكة الكهرباء بالكامل، تصدعات الكباري، انطباق الأنفاق، أخبار عن شقوق بمبنى السد العالي، زحف البحر، الانفجارات التي صارت كزقزقة العصافير أمام كل نافذة وأعلى كل شجرة وتحت كل مقعد عام وعلى كابلات التليفونات وفي كل منور، القتل اليومي وبلا ضغينة والنهب والسرقة بلا نية وإفلاس البورصة والبنوك المقفرة كقبور، والبشر الساعون كموتى بلا روحٍ أو حياة؛ ينتظرون موتًا، قد يأتيهم عن يمينهم أو يسارهم بغتةً، أو بسكرات موجعة وصرخات مفزعة ملتاعة يغتالهم من أسفل أو يحوم حولهم ثم يصرعهم ويخطفهم من أعلى.
شواش ، أحمد سمير سعد

هكذا يصور الروائي أحمد سمير سعد نهاية العالم التي كتبها منذ أربع سنوات في روايته التي أطلق عليها اسم «شواش»، وهي نظرية الفوضى التي يعرّفها في بداية الرواية بأنها اختلاط نظام الأشياء في فراغٍ كبير بلا قاعٍ تسقط فيه إلى ما لا نهاية. وهي مأخوذة من نظرية في الفيزياء تحاول دراسة الأنظمة التي تبدي سلوكًا عشوائيًا غير مرتب.

يأخذ أحمد سمير هذه النظرية ويوسع من فكرتها من خلال عالم رياضيات جامعيٍ مرموق يرقب انسحاب الحياة من بين يديه أولاً ثم نهاية العالم بعينٍ فاحصةٍ لا مبالية، يترك العالم كله وراء ظهره فجأة، ورغم المسافة الواسعة والفرق الكبير بين أي قارئٍ محتملٍ للعمل إلا أنك حتمًا ستجد نفسك متورطًا في تخيّل نفسك وقد انتهى بك الحال لأن تصبح كـهذا الرجل المسكين، «حياتي مخادعةٌ تمامًا مملوءة بالأشخاص والأحداث والأفعال ولكنها خالية من كل معنى، فقط مع مرضي بتَّ واعيًا بي، أراقبني عن كثب».

تنسحب الحياة بتفاصيلها الثرية أمام أستاذ الرياضيات الكبير، لتبدو أمامه كـفلاشات عابرة يستحضر بعضها متأملاً ما آل إليه الحال بعد أن أصيب بالسرطان. لا نعرف اسمه، ولكنه يعرفنا على عدد من شخصيات عالمه القريبين منه وحتى البعيدين عنه، شيئًا فشيئًا نعرف أنه أبٌ لابنين يتركهما ويعود إلى مصر ليستعيد علاقاته التي تركها منذ زمن، بينما هو ذاهبٌ إلى الهاوية بعد مرضه الذي هو متيقن أنه سيفتك به، ولكن العالم كله يندفع بنفس السرعة تقريبًا، يقف راصدًا بهدوء ذلك الانهيار وتلك النهايات.

أسفار النهايات — شيرين هنائي

رواية أسفار النهايات شيرين هنائي
رواية «أسفار النهايات» — شيرين هنائي

بطريقة أخرى تنقل الروائية شيرين هنائي تصورًا لنهاية العالم، وهو تصور يجمع كذلك بين عالم الفيزياء وقوانين الجاذبية، وبين العلاقات الإنسانية وما يحدث فيها من جذبٍ وتنافر، في حكاية العالم «بحر» الذي يصادف أنه يكون أول من يرصد اختفاء «قانون الجاذبية» من العالم، وكيف سيكون ذلك مؤذنًا ليس بدمار العالم فحسب، ولكن بنهايته أيضًا.

في «أسفار النهايات» ثلاث حكايات متصلة منفصلة، تدور الأولى فيهم حول حكاية أستاذ الفيزياء «بحر» وعالمه وإدراكه الخاص اختفاء قانون الجاذبية، وكيف أن العالم من حوله لا يبالي بهذه التغيرات الكبيرة، التي ربما ينتج عنها نهاية كارثية، لتأتي الحكاية الثانية من «يناير» الذي ينقلنا إلى حكاية أخرى تتجه نحو الرمزية وتتجسد فيها أسماء الشهور على هيئة أشخاصٍ يعانون مما لحقهم من صفات جعلتهم منبوذين مما أدى بهم إلى قتل واحدٍ منهم. في الحكاية الثالثة نجد أنفسنا أمام حكاية «يانوس» الكاتب الثائر المعترض على ما يجده من حوله، والذي يسعى للتغير من خلال الكتابة، والذي تعرض من خلاله حالة خاصة لعالم مفارق مختلف في تفاصيله وأبطاله، ولكن ما يجمعه بنا هو تلك الكتابة والرغبة في التحرر.

هكذا تكتب، تخاف فتكتب، تستعذب الخوف فتكتب، يضيق عالمك عليك فتكتب، وتكتب، تقسو على نفسك في رواياتك للتطهر، تلقي بمخاوفك في خلفية شخصياتك فتقتلها، تفتح جراحك وتتركها تنزف حبرًا على الأوراق. لا تتحمل هم أن يقرأ لك أحد أو ينتقدك أحد، خيالك هو مكانك الوحيد الذي لا ينازعك فيه أحد. يأتي المساء بلا طعام، لا تطلب جونو منك شيئًا أبدًا، تنام مبكرًا على فخذك تسمع صوت أمعائها الخاوية تشكو وحدتها. لمن ستتركها غدًا كي تذهب لعملك؟ ماذا لو طاردتك الضواري مرة أخرى؟
أسفار النهايات، شيرين هنائي

ظل التفاحة — محمد إبراهيم قنديل

ظل التفاحة محمد إبراهيم قنديل
ظل التفاحة — محمد إبراهيم قنديل

تجربة مختلفة يخوضها محمد إبراهيم قنديل في روايته ظل التفاحة، حيث لا يقتصر الأمر هذه المرة على رصد ديستوبي سوداوي لنهاية العالم، بل يفترض له بداية جديدة، من خلال حكاية بطلها الذي يفاجأ بنهاية غريبة لعالم، يشهد طوفانًا لا يبقى فيه سواه، وشيئًا فشيئًا تظهر ملامح جديدة لحياةٍ ممكنة.

تسير الرواية على محورين متوازيين، نشهد في الأول سيرة وحكاية بطل الرواية علاء توفيق، وتغيرات حياته، وانتقاله من إحدى قرى الريف إلى القاهرة، ولكنه سرعان ما يتغيّر به الحال بعد الثورة ليرصد تغيرًا مفاجئًا يظنه في البداية خاصًا به، وبالمنطقة التي وجد نفسه فيها، ولكن إذا به داخل عالمه الخاص الذي أوشك على النهاية، وإذا بالكاتب يستدعي من خلال بطل حكايته قصة بداية الخلق من جديد، ومشهد الطوفان، والنجاة المحتملة بعد نهاية هذا العالم.

انظر إلى نفسِكَ يا علاء جالسًا على حافةِ الليلِ والطوفان تنبشُ في نهايةِ العالَمِ عن جذوةِ إيمانٍ تُهَدِّئُ خاطرَك، نجوتَ لكنكَ ما زلتَ تبحثُ عن سفينة، السفينةُ التي لم تلجأْ لها إلا بعد قدومِ الطوفان. تُراها كانت بين عينيكَ طوالَ الوقتِ تناديكَ ببوقِها المكتومِ أنْ تركبَ وكنتَ تتجاهلُ النداءَ وتوغِلُ في الشوارعِ المسفلَتَةِ تُغريكَ بتجاهُلِها أكثرَ، لم تكُنْ نوحًا إذن. كنتَ على الجهةِ الأخرى تتعجبُ من النوحيين البدائيين السُّذَّج وتسخَرُ من سفينتِهم الوهمية التي لن تجدَ ماءً تسيرُ فيه. أين الحقيقةُ أيها العالَمُ المجنون؟ في الإيمانِ الهائمِ بين الآياتِ الشفافة؟ في السعيِ الحثيثِ إلى ذاتٍ راسخةٍ في الأرض؟ أم في تقَلُّبِ الحالِ بين هذا وذاك؟ وأيُّ إيمانٍ يشبهُ الحقيقةَ أكثر؟
ظل التفاحة، محمد إبراهيم قنديل

مدينة العزلة — أحمد صابر

مدينة العزلة أحمد صابر
مدينة العزلة — أحمد صابر
 لا أحد يعرف على وجه الدقة كيف بدأ الأمر، كيف اجتاح الحزن والشعور بالعزلة المدينة. استيقظ المئات على أحزان تعصر قلوبهم، وشعورٌ طاغٍ بالوحدة اقتلع السعادة من داخلهم، وبمرور الساعات في الخامس عشر من ديسمبر كانت المدينة بأكملها تصبغ وجوه سكانها بالتعاسة، ولم يسمع صوت الغناء إلا من أطفالٍ دون الخامسة عشر، وتغلبت أصوات النحيب الصادرة عن الجميع وتحولت الأجواء الاحتفالية لأجواء جنائزية .. انتشر الوباء خلال ساعات قليلة، وتحركت السلطات بعد أيام عندما تعددت حالات الانتحار، هذا الوباء ليس قاتلاً لكنه يدفع إلى الموت بخطوات ثابتة!
مدينة العزلة _أحمد صابر

صورة مغايرة يرسمها الروائي أحمد صابر في روايته «مدينة العزلة» التي يرصد انسحاب حياة الناس فيها، وتحوّل حالة الحزن والتعاسة والانعزال إلى سمة عامة تنتشر فجأة كالوباء بين أفراد المدينة، التي يقرر الحاكم فيها أن يفرض سيطرته وأفكاره عليها.

تبدأ الرواية برصد واحد من أفراد هذه المدينة الذي يفاجأ بفقد ذاكرته، ومن خلاله يعرض حالة المدينة كلها، وكيف تحول الإنسان فيها إلى رقم، وكيف أصبحت وسائل التكنولوجيا والإنترنت هي المهيمنة على حياة البشر في تلك المدينة، وهل يمكن بعد كل ذلك مواجهة تلك العزلة والهروب من نهاية محتومة للعالم.

تدين الرواية بشكل واضح ومباشر أحيانًا ما وصلنا إليه في عالم اليوم من عزلة فرضتها علينا وسائل التواصل وسيطرة المواقع والإنترنت على حياة الناس، وتصوّر كيف يمكن أن يمتد أثر ذلك كله ويتفاقم حتى يصل بالناس إلى فقد أنفسهم وهوياتهم، بل والسيطرة عليهم بكل سهولة من خلال أي حاكم ديكتاتوري يأمر وينفذ أوامره على الجميع، يفرض عليهم طريقة حياة خاصة من ارتداء ملابس سوداء وسماع أغانٍ محددة وقراءة نوع واحد من الكتب، بل ويفقدهم الذاكرة فهو يكره هؤلاء البشر الذين يحكمهم، بل ويحلم هو الآخر بأشخاصٍ آخرين يمتثلون لأوامره بشكل مباشر دون مراجعة!  

تلاوات المحو — مصطفى منير

تلاوات المحو مصطفى منير
تلاوات المحو — مصطفى منير
صحا الناس على صراخ أحدهم، ومع كل بابٍ يفتح تخرج الصرخة قبل صاحب الدار، لم تتمكن الحكومة من فهم ما حدث، قال رجال الدين (طردنا الله من سلطانه)، صرخ رسولٌ من رسل الخير: هذه ليست القيامة، رجال السياسة لم يتحدثوا. كانوا أسرع المتأثرين بمسح الحياة عنهم، كيف يسمعهم شخصٌ وتفاصيلهم مبهمة، لن يصدقهم أحد مطلقًا! كل أهل المدينة أصبحوا بلا ملامح إلا هو محيي ابن طاهرة الذي وقف في الشارع لا يفهم ما يدور، نسي كل شيء، الناس تجري هنا وهناك.

ربما تكون هذه الرواية الأكثر سوداوية وكابوسية في هذه القائمة، بل وربما في الروايات التي تصوّر نهاية العالم بشكلٍ عام، لم يبنِ مصطفى منير روايته على مشهد واحد، أو يرصد حالة تغير واحدة في المجتمع وفرض ما سيحدث بعدها، بل استطاع أن يجمع العديد من الأفكار والمواقف والأشخاص في حكاياتٍ متوازية متتالية، لكي يرسم صورة للعالم الذي يشهد نهايته ويتلو في النهاية «تلاوات المحو» التي ذيّلها بعنوان ثلاث دهشاتٍ لحياة أخيرة.

هنا نحن إزاء رسم تفصيلي لمجتمعٍ متخيّل، من خلال عدد من الشخصيات التي يعبر عنها السارد حينًا وتعبّر عن نفسها أحيانًا أخرى، ليخلق عالمًا موازيًا يتشكل شيئًا فشيئًا من خلال الرواية، بكل فئاته من بسطاء ومثقفين ورجال دين وسياسة، وكيف يسعى رجال الحكم والسلطة لفرض سيطرتهم من خلال حرق الكتب وتعميم نمط واحد من الكتب على الناس جميعًا، وكيف يتعامل الناس ويسعون للخلاص مما لحق بهم من خلال اللجوء للخير والتعامل بالمعروف، ولكن ذلك كله لا يستقيم لهم، إذ سرعان ما تأتي نهاية العالم أيضًا وينهار!   

لعل أكثر ما يلفت النظر في النهاية في هذه النماذج من الروايات التي تصوّر نهاية العالم أن كتابها من الشباب، وأنها في الأغلب روايات أولى لأصحابها، وأن هذه الرؤية وهذا التصور هو ما سيطر عليهم، وهم جميعًا يعكسون شعورًا متزايدًا بالنهاية الحتمية التي يذهب إليها العالم، سواء منه ذلك الآخذ بقوانين العلم الحديثة وأحدث ما وصلت إليه التجارب والاكتشافات، أو ذلك الغارق في وحدته ومعتقداته الخاصة، ثم نتيجة واحدة نهائية يصل إليها الجميع، تتغير أشكالها ولكنها تتفق في حالة السوداوية والدمار.