تغيير العالم: قصة الثورة البلشفية في روسيا

حفل راقص في قصر القيصر الروسي نيقولاي الأول.. حالة من البهجة يقطعها القيصر بصوت مذعور.. مطالبًا الضباط باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع أي ثورة أو انتفاضة محتملة بعدما سمع بنبأ قيام الثورة في فرنسا عام 1848.

ربما حاول القيصر من خلال هذه الإجراءات حماية عرشه من أي ثورات محتملة، لكنه لم يتمكن من حماية الإمبراطورية الروسية. فقد اندلعت الثورة البلشيفية في أكتوبر/تشرين الأول 1917، أسقطت حكم قيصر الإمبراطورية الأخير نيقولاي الثاني، ودشنت لمرحلة جديدة في التاريخ الروسي انتصرت بها الشيوعية واستمرت طيلة 70 عاماً. كيف حدثت؟ وماذا كانت مقدماتها؟ هذا ما نلقي عليه نظرة سريعة.

ما قبل الثورة: كيف عانى الشعب؟

شهدت روسيا قبل الحرب العالمية الأولى حالة من التخلف والاستبدادية الملكية، إذ تسيّد الشعب مجموعة من كبار ملاك المصانع والأراضي والعقارات، وعلى رأسهم أكبر مالك على الإطلاق وهو القيصر الروسي الذي كان يحكم بالتحالف مع هؤلاء الرأسماليين.

انعكست تلك الحالة على أوضاع الشعب وخاصة البروليتاريا (الطبقة العاملة). فالعمال داخل المصانع عانوا وطأة الاستغلال من قبل الرأسماليين، وأمام المصانع اصطف جيش هائل من طالبي العمل جعلهم الفقر على استعداد لقبول أي عمل لقاء أجر زهيد وإن كان لا يكفي لتلبية متطلبات الحياة الأساسية.

أما الفلاحون، فعانوا هم الآخرون من استغلال كبار ملاك الأراضي والعقارات، وكانوا بمثابة عبيد حاصرتهم السلطات بقيود تشريعية أجبرتهم على عدم مغادرة القرى والخضوع لملاك الأراضي للعمل بها.

في ظل هذه الظروف، لم يكن أمام الشعب سوى الثورة على هذا الاستبداد وسوء الأوضاع المعيشية، فانطلقت شرارة الثورة في 22 يناير/كانون الثاني 1905، وأُطلق على هذا اليوم «يوم الأحد الدامي»، حيث خرج آلاف العمال في مسيرة إلى قصر القيصر يلتمسون ظروف عمل أفضل، لكن الملكية القيصرية استطاعت قمعها بالقوة عبر إطلاق النار عليهم، فقتل وأصيب الكثيرون، وانتهى الأمر بالهزيمة.

فبراير/شباط 1917: حين سقطت القيصرية

بالرغم من هذه الهزيمة، فإنه لا يمكن إغفال ما أظهرته تلك الثورة من قدرة العمال والفلاحين على التنظيم والمطالبة بحقوقهم. وهو ما تكرر بالفعل بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى.

فمع دخول روسيا الحرب، وجد الشعب نفسه غارقًا في حرب تعود عليه بالخسائر في ملايين الأرواح والأموال، وعمت حالة استياء كبيرة داخل البلاد، إذ إنه على مدى ثلاث سنوات (1914-1917) قتل ما يقارب مليوني جندي روسي وأصيب ما يقارب خمسة ملايين، وأغلقت عشرات المصانع أبوابها بسبب انعدام الوقود والكهرباء فتفاقمت البطالة والفقر.

في ظل هذه الأوضاع وأمام ضغط الفلاحين والعمال والجنود الرافضين للحرب شهدت روسيا في ـ23 فبراير/شباط 1917 حالة من الإضراب بدأت في بتروجراد (العاصمة الروسية آنذاك). وتحولت خلال ثلاثة أيام إلى ثورة في وجه القيصر نيقولاي الثاني والذي قابلها بالقمع كما هو المعتاد.

لكن ما حدث هذه المرة أن قرر المحتجون البلاشفة التوجه إلى الجنود لتأييد الثورة، وظهرت بالفعل حالة تمرد ضد القيصر بين صفوف الجيش بعد رفض العديد من الجنود إطلاق النار على الشعب. وسرعان ما تحول الجيش كله ضد القيصر، مما اضطره في ـ3 من مارس/آذار 1917 إلى التنازل عن العرش لأخيه ميخائيل والذي رفض العرش دون أن يتربع عليه يومًا واحدًا.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحرب العالمية الأولى بالرغم من دورها في الدفع نحو الثورة، لكنها لم تكن العامل المطلق وراءها، فالثورة يستحيل أن تقع دون توافر الحالة الثورية المبدئية ودون وجود أزمة قومية عامة، أي دون وجود تلك الحالة التي تعجز فيها الطبقة المتسيدة عن إدارة شؤون البلاد، وترفض بها الطبقات الدنيا من المجتمع استمرار أوضاعهم المتدهورة.

وهذا الأمر لا يظهر فجأة بل هو نتيجة لمراحل طويلة من تطور المجتمع. وبذلك فالحرب هنا عجلت من انطلاق الحالة الثورية وكانت أحد العوامل الهامة بها وليست العامل الرئيسي بها.

نحو استبداد البرجوازية

أدى سقوط القيصرية بعد تنازل نيقولاي الثاني، إلى دخول البلاد في حالة من ازدواجية السلطة، إذ سارعت الطبقة الرأسمالية والتي كانت متحالفة مع القيصر إلى إنقاذ نفسها عبر تكوين حكومة مؤقتة من كبار ملاك الأراضي ورجال الصناعة، ولكن هذه الحكومة لم يكن لها أي قاعدة دعم في العاصمة، حيث وضع العمال والجنود ثقتهم في قادة الاشتراكيين الثوريين، الذين يقودون سوفييت بتروجراد. وتعززت بذلك ازدواجية السلطة، حيث تعايشت السلطة السوفييتية، مع ما تبقى من سلطة الطبقة الرأسمالية السابقة.

وبالرغم مما يثيره هذا الوضع من تساؤل بشأن كيفية سيطرة الطبقة الرأسمالية على السلطة في حين أن العمال والفلاحين هم من قاموا بالثورة، إلا أن الاقتراب من واقع العمال والفلاحين يضع تفسيرًا لهذا التساؤل.

فبعد سقوط القيصرية، انخرط العمال والفلاحون في السياسة دفعة واحدة وكانوا لا يفرقون بين المدافعين عنهم حقًا والانتهازيين الرأسماليين ذوي الكلام المعسول، والذين وعدوا بالإصلاح الزراعي والقضاء على الأرستقراطية وتصفية بقايا الإقطاع وضمان حقوق القوميات.

لم يدم الكلام المعسول طويلًا، فسرعان ما عمد الرأسماليون إلى الانفراد بالسلطة، وتنصلوا من وعودهم الإصلاحية، وتوغلت أيديهم في خزانة الدولة التي كانت تحت تصرفهم، كما قرروا الاستمرار في الحرب ضد قوات المحور للحصول على مزيد من الأرباح.

وإزاء ذلك ألقى زعيم البلاشفه فلاديمير لينين خطابًا أعلن فيه الانقلاب على تلك البرجوازية، وأن أهداف الثورة الحالية اشتراكية، ودافع عن فكرة أن الإصلاح لا يمكن أن يتحقق إلا بإسقاط الحكومة المؤقتة، واستيلاء الطبقة العاملة على السلطة بالتحالف مع الفلاحين.

وزاد الأمر حدة، اندلاع أزمة جديدة في يوليو/تموز 1917 حين أصدرت الحكومة المؤقتة قرارًا بشن هجوم عسكري على ألمانيا، لكن ما حدث أن فشل الهجوم وتحول إلى هجوم مضاد على الجيش الروسي، مما أدى إلى انتفاضة الجنود والعمال، واجتياح البلاد موجة من الإضرابات والمظاهرات.

كما هو المتوقع تمت مواجهة تلك المظاهرات بالعنف والتنكيل، وأسفر الأمر بالنهاية عن نجاح البرجوازية في الانفراد بالحكم وإنهاء ازدواجية السلطة. لكنها لم تكتف بذلك، إذ خفضت أجور العمال، وأغلقت الكثير من المصانع، وانتزع كبار الملاك الأراضي الزراعية التي كانت بحوزة الفلاحين، كما رفعوا القيمة الإيجارية لها، حتى زادت الأوضاع المعيشية للعمال والفلاحين سوءًا وتفاقم الفقر والبطالة بين صفوفهم.

أكتوبر/تشرين الأول 1917: حان وقت الخلاص

أدى هذا الاستبداد من قبل الطبقة البرجوازية إلى تيقن الجميع من أنه لا بديل عن الثورة وإسقاط البرجوازية. فاندلعت حالة من الإضراب بمختلف أنحاء روسيا شارك فيها أكثر من مليون عامل. وفى 10 أكتوبر/تشرين الأول 1917 صوتت غالبية اللجنة المركزية للبلاشفة لقرار يدعو إلى انتفاضة مسلحة. وبالفعل تمكنت قوات البلاشفة ليلة الـ25 من الشهر ذاته من الاستيلاء على المرافق الحكومية الرئيسية في العاصمة الروسية.

خرج لينين بخطاب إلى مواطني روسيا قائلًا «لقد أُسقطت الحكومة المؤقتة، وانتقلت سلطة الدولة إلى أيدي جهاز سوفيت نواب العمال والجنود ببتروجراد.. لقد تحققت القضية التي كافح من أجلها الشعب.. تحيا ثورة العمال والجنود والفلاحين».

وأصدرت الحكومة الجديدة التي شكلها البلاشفة برئاسة لينين مراسيم بمصادرة أراضي كبار الإقطاعيين ووزعتها على الفلاحين، كما دعت شعوب وحكومات جميع الدول المتحاربة لأجل التفاوض الفوري من أجل السلام. وبالفعل أنهت الحرب العالمية الأولى من خلال التوقيع على مُعاهدة سلام مع ألمانيا تسمى «برست ليتوفسك».

وهكذا، دشنت الثورة لمرحلة جديدة في تاريخ العالم، أثبتت من خلالها أن البديل للرأسمالية ليس حلماً طوباوياً، بل احتمالاً واقعياً يمكن إنجازه من خلال النضال السياسي للطبقة العاملة. كما مكنت روسيا أن تقف على رأس معسكر سياسي واقتصادي وإيديولوجي منافس لمعسكر الرأسمالية طيلة سبعة عقود، فاستطاعت من خلالها أن تشكل تهديدًا حقيقيًا له، مما مكّنها من أن تترك آثارًا كبيرةً في صياغة النظام السياسي والاجتماعي العالمي من قبل وحتى اليوم.

صحيح أن ذلك لم يحدث بتأثير ثورة أكتوبر وحدها، لكنها لعبت الدور الرئيس فيه، فقد كانت سمة العصر بعد 1917 هي الصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.