يعد الحديث عن التواجد السلفي في تركيا من الموضوعات التي تحتاج لشيء من التدقيق والبحث لما للأمر من جذور تاريخية تؤثر في الواقع من أبعاده السياسية والعقدية والفكرية للمجتمع التركي.

وسنحاول هنا عرض التركيبة الفكرية الصوفية للمجتمع التركي وجذورها التاريخية ومدى قدرة الفكر السلفي على التواجد والنمو به، وفق ما عرضته دراسة صادرة عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات».


جذور التصوف في المجتمع التركي

المجتمع التركي له طبيعة صوفية متجذرة منذ الإمبراطورية العثمانية التي تبنت منهج «أبي حنيفة» و«الماتريدية» في التأويل والرأي؛ كونها مدرسة إسلامية معتدلة تستطيع الاجتهاد في الأمور المعاصرة ومواكبة تحديات العصر وتحديدًا يُعتبر الأتراك من أتباع الطريقة النقشبندية الصوفية.

تنحدر الطرق والجماعات الصوفية من التصوف وتراثه والذي بدأ بوصفه نزعات فردية تدعو إلى الزهد وكثرة العبادة وتزكية النفس والسمو بها، ثم تطورت تلك النزعات حتى صارت طرقًا معروفة باسم الصوفية.

صارت الطرق الصوفية تكون منهجًا أو طريقًا للوصول إلى الله تعالى. ومن أهم علماء الإسلام الذين عُرفوا بالتصوف أو كتبوا عنه – أبو حامد الغزالي ورابعة العدوية ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي.

كان للطرق الصوفية في الدولة العثمانية دور بارز في إدارة شئون الدولة وتأسيسها فكان شيوخ الطرق يعملون على نشر الإسلام وإعداد المسلمين للجهاد. وقد تقلد الصوفية مناصب كبيرة، ومن أشهر الطرق التي كان لها دور بارز في الدولة العثمانية الطريقة البكتاشية والطريقة الرفاعية والطريقة النقشبندية، وكان لأهل التصوف نفوذ على الهيئة الحاكمة في الدولة ورقابة سياساتها، وكان رجال التصوف يشتركون مع الجيش العثماني في فتوحاته.

وقد مر دور الطرق الصوفية في تركيا بعدة مراحل؛ فقبل القرن التاسع عشر، كانت هذه الطرق مرتبطة بالدولة العثمانية، وفي أواخر العهد العثماني، بدأت تضعف تدريجيًا. وفي السنوات الأولى للجمهورية تم قمع هذه الطرق ومُنعت من العمل العلني.

لكن الطريقة الخالدية كانت قد انتشرت في إسطنبول مع وصول تلامذتها مثل أحمد ضياء الدين غوموشاهنوي، وكان أحد خلفائه محمد زاهد كوتكو، الذي تولى مسجد إسكندر باشا بحي محمد الفاتح بمدينة إسطنبول وكان زعيمًا للإسلام السياسي في تركيا بشكل غير رسمي؛ فقد روج أفكار الطريقة الخالدية في البيئة السياسية الجديدة.

وقد شجع كوتكو نجم الدين أربكان على تشكيل حزب النظام الوطني عام 1970 بالتعاون مع النورسية ثم حزب السلامة الوطنية 1972، لكن علاقة أربكان توترت معهما فيما بعد، وأدت لانسحاب الأخيرة من السياسة.

ومع تأسيس حزب العدالة والتنمية، شارك بعض أعضاء هذه الجماعة فيه، كما كانت هناك فروع أخرى للطريقة الخالدية انخرطت بقوة في المجال العام مثل: (حركة النور، وحركة فتح الله غولن، والسيلمانية).ولذلك كان للنقشبندية تأثير كبير في البيئة التركية.


فما السلفية إذًا؟ وكيف نشأت؟

هي منهج إسلامي يدعو إلى فهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة باعتباره يمثل نهج الإسلام والتمسك بأخذ الأحكام من القرآن والأحاديث الصحيحة ويبتعد عن كل المدخلات الغريبة عن روح الإسلام وتعاليمه، والتمسك بما نقل عن السلف. وهي تمثل في أحد جوانبها أحد التيارات الإسلامية العقائدية في مقابلة الفرق الإسلامية الأخرى.

وفي جانبها الآخر المعاصر تمثل مدرسة من المدارس الفكرية الحركية السنية التي تستهدف إصلاح أنظمة الحكم والمجتمع والحياة عمومًا إلى ما يتوافق مع النظام الشرعي الإسلامي بحسب ما يرونه إما بالدعوة والإرشاد كما في «السلفية الدعوية»، أو بالقوة كما في «السلفية الجهادية».

ويُعد الإمام أحمد بن حنبل أول من سعى إلى الحفاظ على الالتزام بما جاء في القرآن والسنة من غير تأويل أو ابتداع. وفي القرن الثامن الهجري أحيا الإمام بن تيمية هذا النهج في الرد على المتكلمين والمعتزلة.

وفي القرن التاسع عشر عمل الشيخ محمد بن عبد الوهاب على إحياء هذا النهج و أعاد مصطلح «السلف الصالح» وأخذ منحى معارضاً للدولة العثمانية التي اعتبرها مخالفة لنهج الإسلام الصحيح؛ بسبب انتشار التصوف فيها واعتمادها التأويل وعلم الكلام.

إذاً تخالف السلفية تفسير الدين وتأويله بناء على إعمال العقل والاستدلال به على نصوص القرآن والسنة، أو ما يسمى بالرأي والتأويل. وكان هذا مُبتدأ الخلاف بين السلفية (الوهابية) والدولة العثمانية، الخلاف الذي بدأ فكريًا ثم انتقل سياسيًا وتصاعد عسكريًا.


الخلاف العثماني الوهابي .. جذوره وامتداداته

https://www.youtube.com/watch?v=pMod23Dpcqc

أدى الاختلاف بين العثمانيين والسلفيين إلى صراعات فكرية وحروب، بقيت آثارها حاضرة حتى وقت قريب؛ أهمها ما حدث بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحليفه الأمير عبد الله بن سعود، في مقابل الدولة العثمانية.

فقد اعتبر العثمانيون قيام الدولة السعودية الأولى بقيادة الأمير عبد الله بن سعود انطلاقًا من نجد، وسيطرتها على مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم مهاجمة العراق والوصول إلى كربلاء، بمنزلة تمرد يجب قمعه. وبالفعل امتد الصراع بين الطرفين خلال الفترة 1805 إلى 1818، فقد وجه السلطان مراد الرابع واليه على مصر محمد علي باشا «بقمع التمرد واسترداد السيطرة العثمانية على الحرمين».

وقد سار إبراهيم بن محمد علي إلى الجزيرة العربية واستطاع في عام 1811 استعادة الحرمين، كما وصل الجيش العثماني إلى الدرعية عام 1818 واعتقل الأمير عبد الله بن سعود وأنهى دولته.

وبهذا، نشأت تصورات سلبية متبادلة بين الأتراك والسلفيين؛ فالأتراك يرون السلفيين «عصاة» خرجوا على العثمانيين، مما أسهم في إضعاف الدولة ومهد لسقوط الخلافة 1924، كما يعتقد الأتراك أن السلفية حاربت الصوفية والانفتاح ومحاولات التكيّف مع العصر.

ويرى بعض الأتراك أن حركة «الوهابية» السلفية لم تنته بالقضاء على دولتها الأولى، فقد ظلت هناك رغبة عميقة في العودة والتمرد على الأتراك، حيث يرون أن بريطانيا دعمت «الثورات العربية» ضد الإمبراطورية العثمانية وساعدتها على تأسيس دول جديدة مستقلة «السعودية».

لذا، أنتجت هذه المواجهة حاجزًا نفسيًا بين الطرفين يُفسر الخلاف التاريخي المنهجي والسياسي بين الطرفين – الوهابي، السلفي، السعودي – من جهة والنقشبندي الصوفي التركي – من جهة أخرى.


السلفية في تركيا: ظهورها وانتشارها

وجد الخطاب السلفي طريقه إلى تركيا بعد انقلاب 1980 حيث تقاربت تركيا الرسمية وقتها مع السعودية مستهدفة بذلك تعزيز «الإسلام الرسمي» لتقويض «الإسلام السياسي» لأربكان.

ومع بدايات تسعينيات القرن العشرين بدأت تظهر مفردة «السلفية» في كتابات بعض المفكرين الأتراك وتحدث بعضهم عن كونها «مدرسة شرعية ضمن الإسلام السني»، كما أشار حلمي ديمير أستاذ الإلهيات إلى دخول السلفية بوصفها تقليداً سنيًا له احترامه، وفي عام 1999 اعترفت مؤسسة الشئون الدينية التركية «ديانت» بالسلفية كونها مدرسة دينية سنية.

مع بداية الألفية الثالثة بدأ دعاة سلفيون يأخذون طريقهم إلى المجتمع التركي، وأصبح هناك شيوخ بارزون ينشطون تحت مسمى الدعوة السلفية. تُعد الشخصية المركزية المعبّرة عن الاتجاه السلفي في تركيا الآن ،عبدالله يولجو وأصله من تركمان العراق، ويُعرف في العالم باسم عبد الله الأثري.

وتُعد دار الغرباء للنشر هي أهم معاقل السلفية التي تنشر فكرهم وتقع في منطقة السلطان أحمد في إسطنبول.

ويقول الأثري في حوار له موقع «المسلم» الإلكتروني:

يبدو أن مشكلة الدولة الإسلامية هناك أنها قامت على المذهبية، فنجد فيها المذهب الحنفي والعقيدة الماتريدية وأفكارًا صوفية، ونشرتها في جميع أرجائها، وفي المقابل لم نجد في تركيا خلال الخمسمائة أو الستمائة سنة إبان الدولة العثمانية؛ أي مصلح على طريقة أهل السنة والجماعة
ويقول أيضًا:
مشكلة الدعوة السلفية في تركيا أنها دعوة كانت ولادتها غير طبيعية، بمعنى أن الدولة العثمانية لم تشهد ظهور مصلحين سُنيين، أما في تركيا الحديثة فإنها لم تشهد ظهور أي من هؤلاء الدعاة المبتعدين عن الدعوة إلى الصوفية أو الماتريدية أو غيرها، فكانت ولادة الدعوة بنا، بأن دخلنا بالدعوة السلفية والحمد لله بين الناس.

ورُغم هذا الإصرار السلفي الواضح للانتشار في المجتمع، إلا أنهم يستخدمون سياسة ناعمة في نشاطهم، ويقول الأثري نفسه: «إن التركي لديه رد فعل مبالغ فيه، فضلاً عن نظرته المتعالية، لذلك يجب علينا أن نعرف كيف ندخل إلى نفوسهم ونعرض المسألة بحكمة».

أما عن الواقع السلفي في تركيا فيقول الأثري:

قبل ١٣ -١٥ سنة، لو سألتني كم عدد السلفيين الموجودين (في تركيا) المستوعبين لأصول دينهم؟ لقلت لك إنهم لا يتعدون أصابع اليد، أما الآن، فإن الذين نعرفهم أكثر من ألف، والذين لا نعرفهم ربما أكثر.

ويشير الأثري في حديثه إلى تحسن بيئة العمل الدعوي السلفي في تركيا ونجاحه في افتتاح مدرستين لـ«تدريس العقيدة السليمة»، مضيفاً «نحن الآن نعيش العصر الذهبي منذ سقوط الدولة العثمانية، أقصد العصر الذهبي في سياسة تركيا، وخاصة حزب العدالة والتنمية الذين لهم سياسة طيبة جداً بهذا الخصوص».

وفي 2011 احتضنت مدينة إسطنبول مؤتمر «السلفيون وآفاق المستقبل» وحضره عدد كبير من رموز السلفية في العالم.

كما أن هناك جهودًا سلفية أخرى تستهدف التأثير في المجتمع التركي، مثل جهود السلفيين القادمين من الكويت، التي أسفرت عن تأسيس«مؤتمر الأمة للتعاون العربي – التركي»، كمظلّة لبعض المشاريع، التي يقوم بها الشيخ حاكم المطيري، ومن أبرز الأنشطة التي يقوم بها المؤتمر دعم القضية الفلسطينية وقضايا العالم الإسلامي من خلال ندوات ولقاءات تجمع أعضاءه بممثلين عن حزب العدالة والتنمية وغيره من الناشطين السياسيين والإعلاميين الأتراك.

وإذا حاولنا حصر وسائل السلفية للانتشار في المجتمع التركي نجدها كالتالي:

– الدروس التي يقدمها يولجو عادة في دار الغرباء، أو في بعض البيوت.

– الاعتماد على الرموز السلفية الوافدة من الخارج وبخاصة الخليج.

– الاعتماد على بعض الأتراك الذين عادوا من الخارج بعد الدراسة مثل من درسوا في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، أو في الأزهر، ومن قاموا بأعمال جهادية في الثمانينيات والتسعينيات في أفغانستان أو البوسنة والهرسك والتقوا هناك مع عرب سلفيين، ثم نقلوا تلك الأفكار.

– الاعتماد على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.

ولكن منذ عام 2015 وكلمة سلفية تثير الكثير من الهواجس عند الأتراك وخاصة بعد تنامي السلفية «الجهادية» وتنفيذها لعدد من عملياتها ضد الأتراك؛ مما يسهم في استحضار العداء التاريخي العثماني الوهابي.

أما اليوم فتواجه السلفية عدة تحديات تُصعِّب من مهمتها في الانتشار والتوسع ولكنها لا تُمثل تهديداً وجودياً لها.

وأهم تلك التحديات: لطبيعة التركية المُتمسكة بتراثها الفكري والمذهبي، وتاريخ الخلاف العثماني الوهابي. ظهور السلفية«الجهادية» وارتباطها بالسلفية «الدعوية» في العقل الجمعي.

مع هذه التحديات المترافقة بوضع سياسي مضطرب يجعل الدولة التركية أكثر حرصاً على السلام الداخلي، ومع الطبيعة السلفية التي تنتهج التدرج والهدوء في النشاط الدعوي، أظن أننا أمام حالة سلفية مستقرة تزداد انتشاراً ببطء على الأقل طالما استمرت المعطيات كما هي.