قصة «تشادراك أكولو»: من لاجئ أفريقي إلى هداف البوندزليجا
مهما تخيلت أنك صادفت مفارقات وعجائب في عالم كرة القدم، إلا أن اللعبة الجماهيرية الأولي حول العالم ستتمكن من مفاجأتك بخبايا وأسرار جديدة مع توالي الأيام، بل يكمن قدرُ لا بأس به من متعة ذلك العالم أصلًا في مفاجأته!
ينقسم أغلب مشجعي البوندزليجا من العالم العربي على تشجيع إما عملاق بافاريا: بايرن ميونخ أو أسود فيستفاليا: بوروسيا دورتموند، ولا تنال أغلب الفرق الأخري نصيبًا كبيرًا من المتابعة إلا عند احتراف لاعب عربي بصفوفها بكل تأكيد، لكن بطل قصة اليوم الذي لا يلعب لأحد قطبي المسابقة الألمانية يعيش حالة من التألق دفعته لحجز مكان بقائمة هدافي البوندزليجا بعد مرور 12 جولة من الموسم الحالي، كما دفعت كثيرين للبحث في مسيرته وخط سيره الاحترافي ليُفاجأوا بأن المهاجم الكونغولي «تشادراك أكولو» صاحب الـ 22 عامًا الذي يلعب لصفوف نادي شتوتجارت لم يحظَ بمسيرة عادية كبقية المحترفين الأفارقة.
قصّة «أكولو» لم تبدأ أبدًا في الدوري الألماني، أو بالدوريات الأوروبية، بل لم تكن لها أي علاقة بكرة القدم أصلًا إلا في مرحلة متأخرة، ولكن بداية «تشادراك» الحقيقية كانت داخل أهوال الحروب الأفريقية الطاحنة التي اشتدت بأواخر تسعينات القرن المنصرم وخلفت خسائر بشرية ومادية هائلة؛ فكيف انتهى به الحال في قائمة الهدافين التي تشمل «ليفاندوفسكي وأوباميانج»؟
المشهد الأول: في الحرب
لا تحتاج سوى بحث بسيط لتكتشف أن جمهورية الكونغو الديموقراطية، موطن «أكولو»، عانت من حرب مدمرة أُطلِق عليها «حرب أفريقيا العظيمة» نظرًا لطول مُدتها وكثرة المتورطين بها، حيث بدأت الحرب في صيف عام 1998 وشملت ثماني دول أفريقية وعددًا آخر من المجموعات المسلحة واستمرت حتى يوليو من العام 2003.
تقول شبكة «bbc» البريطانية إن الحرب خلفت ما يقرب من خمسة ملايين ضحية، وعدد أكبر من المشردين والجوعى على امتداد جمهورية الكونغو، من بين هؤلاء كان الطفل «تشادراك» الذي ولِد عام 94 يتمنى ألا تمتد يد الحرب إلى مدرسته حيث كان يأمل بمواصلة تعليمه في ظل تلك الظروف القاسية.
لكن الأسوأ هو ما حدث بعد ذلك، حيث اُضطر للتخلف عن دراسته في سبيل توفير المال للحاجات الأساسية من أكل وشرب، وحتى مع تلك المحاولات لم تتمكن أسرته البسيطة من سد احتياجاتها طوال الوقت، حيث كشف «أكولو» في حوار مع وكالة «دويتشه فيله» الألمانية أنه عانى من جوع مستمر كأغلب سكان الكونغو بذلك الوقت وأصابه رهاب دائم من أصوات الرصاص ومناطق الاشتباك العسكري.
انتبهت أسرة «أكولو» سريعًا لأهمية برامج الهجرة واللجوء التي تقدمها بعض البلدان الأوربية للهروب من شبح الأرض المحروقة الذي يهدد مصير بلدهم، وبالفعل تمكنت والدة «تشادراك» وأخته من الحصول على تأشيرة اللجوء لواحدة من أغنى وأجمل بقاع العالم: سويسرا، بينما ظل الصغير برفقة أبيه ينتظران اللحاق بالنصف الثاني من أسرتهم.
مع مرور الوقت، بدأ الإحباط يتسرب لنفس «أكولو» عندما تأخر خروج تأشيرته لكنه في الأخير لحق بأسرته وغادر لسويسرا قبل أن يتم عامه الرابع عشر ليبدأ فصلاً جديدًا من حياة هداف «شتوتجارت» الذي لم يكن لدى تلك النقطة من الزمان سوى لاجئ أفريقي بسيط.
المشهد الثاني: في سويسرا
عندما سأله محرر «دويتشه فيله» عن انطباعاته الأولى لدى وصوله لسويسرا قادمًا من الكونغو،رد «أكولو» في إجابة كشفت كثيرًا عن قسوة الحرب وأثرها في نفسه.
«تشادراك» كان يعلم جيدًا أهدافه في تلك المرحلة من حياته، لقد ركز جهوده على الدراسة ولم يكن ليسمح بأي مشتتات تعيقه عن مواصلة مشواره، لذلك يعترف بأن كرة القدم لم تكن تشغله في شهوره الأولى بسويسرا. لم يمضِ وقت طويل حتى اكتشف «أكولو» الأمر الذي غيّر حياته كلها، إذ وجد الكونغولي أن كرة القدم تحظى بمحبة كثير من أقرانه السويسريين، بالإضافة لحرص مدرسته الجديدة على توفير حصص مخصصة لممارسة اللعبة بوجود مدربين متخصصين في أجواء تشجع المواهب الحقيقية وتدفعها للأمام.
ومن هنا أحب الكونغولي مشاركة أقرانه لعبتهم، لكن الأمر تخطى حدود المشاركة عندما لاحظ فيه المدربون مزايا فنية تمكنه من تجاوز مستويات الهواة واللحاق بأكاديميات كرة القدم، أبدى «أكولو» حينها التزامًا وجدية واضحة بعد أن عُرِض عليه الانضمام لأكاديمية نادي سيون!
ظهر «أكولو» بقوة في أكاديمية سيون حيث لعب كطرف هجومي، فتم تصعيده سريعًا من فريق تحت 18 عامًا لفريق الشباب تحت 21 عامًا، حيث شارك في 38 مباراة وسجل 17 هدفًا، هذا المعدل التهديفي الرائع منحه فرصة للظهور بالفريق الأول تحديدًا في موسم 2014/2015 حيث واصل أداءه الطيب وحاز ثقة مديره الفني الفرنسي «ديديه ثولوت» الذي أشركه في 68 مباراة عبر موسمين!
تحّول «أكولو» للاعب كرة قدم محترف وسعت شركة التسويق الرياضي «جولد كيك» التي تهتم بالمواهب الشابة للتعاقد معه، وبالفعل تم أول تعاون مشترك بينه وبين الشركة عندما أُعير لنادي نيوشاتل لمدة موسم واحد، لعب خلاله 16 مباراة وسجّل 9 أهداف، ليكون ذلك المعدل التهديفي إشارة بانتقاله لدوري أكبر ومنافسات أقوى.
المشهد الثالث: في ألمانيا
حرص نادي شتوتجارت الألماني على تدعيم صفوفه قبل بداية هذا الموسم، من بين هذه التدعيمات كان الحصول على خدمات المهاجم «أكولو» هدفًا هامًا للإدارة الألمانية. يشير موقع «ترانسفيرماركت» أن الكونغولي كلف خزينة شتوتجارت 5.4 مليون يورو حصل عليها نادي سيون نظير انتقاله لأربعة مواسم كاملة، لتصبح صفقة «تشادراك» ثاني أغلى صفقات شتوتجارت هذا الصيف!
قبل إتمام الصفقة، كشف الموقع الجماهيري «شتوتجارتر» عن تفاصيل انتقاله في تقرير جاء فيه أن «أكولو» قد لفت بالفعل انتباه عدد من الأندية الألمانية بعد تصريحات مدربه السابق في سيون «بيتر زيدلر» الذي عمل بالبوندزليجا بين أعوام 2008-2011، التصريحات جاءت تعبر عن ثقة «زيدلر» في المهاجم الشاب الذي وصفه بالمثابر الاستثنائي واللاعب الذي يقاتل في سبيل تعليمات مدربه، من هنا حرص مدرب شتوتجارت «هانز وِلف» على الحصول على «أكولو» الذي توافق إمكانياته الفنية كثيرًا من رؤى «هانز». حصل «تشادراك» في شتوتجارت على الرقم 19 الذي يرمز لعُمر شقيقته، وبدأ فصلًا هو الأهم والأكثر أمانًا وسعادة في حياته عندما أتيحت له فرصة المشاركة في واحد من أهم 5 دوريات بأوروبا.
في الثالث عشر من أكتوبر الماضي، جمعت مباراة فريق شتوتجارت بنظيره كولن علي ملعب الأول ضمن إطار البوندزليجا، نجح فريق «هانز وِلف» بافتتاح التهديف قبل أن يتعادل الضيوف، ليشرك مدرب شتوتجارت لاعبه «أكولو» في الدقيقة 61 من عمر اللقاء. لم يخيب الكونغولي ظن مدربه، ونجح في آخر ثانية من عمر المباراة في التوغل بمنطقة الجزاء ومراوغة مدافعي كولن وتسديد أرضية زاحفة سكنت شباك الخصم وحسمت نقاط المباراة وأشعلت مدرجات شتوتجارت التي ظلت تهتف «أكولو…أكولو»!
كرر «تشادراك» الأمر مرة أخرى عندما استضاف فريقه نادي بورسيا دورتموند منذ عدة أيام، فاستغل الأول خطأ بالتمرير بين المدافع «مارك بارترا» وحارس دورتموند «رومان بوركي» ليسجل هدف شتوتجارت الأول في مباراة انتهت لصالحهم بنتيجة 2/1 ومنحت «أكولو» مركزًا بقائمة هدافي البطولة برصيد 4 أهداف.
عندما سُئل «تشادراك» في مقابلته مع الوكالة الألمانية عن طموحاته خلال الفترة القادمة، ظهر الارتباك بعض الشيء على الكونغولي، ثم أجاب بأنه يأمل أن يحظى هو وعائلته بالصحة والأمان والسلامة وأن تستمر أجواء المحبة والترحيب التي نالها في سويسرا أو بألمانيا على حالها.
كما أضاف أن أفراد أسرته شاهدوه عبر المواجهات السابقة وشعروا جميعهم بالفخر عند تسجيله لأهداف وقيادة فريقه لانتصار وسمعوا الجماهير وهي تهتف باسمه، لكنه يرى بأن ما زال أمامه الكثير للقيام به سواء مع شتوتجارت أو مع منتخب بلاده الكونغو، الذي فضّل في النهاية الدفاع عن ألوانه وتمثيل آلاف الأطفال الذين عانوا من ظروف الحرب والفقر والتهميش.