إدريس ديبي: كيف رحل جنرال تشاد مضرّجًا بالدماء؟
لجنة الانتخابات التشادية أعلنت النتائج المؤقتة للانتخابات الرئاسية التي أظهرت أنه فاز بـ 80% من الأصوات التي شاركت في الانتخابات التي أُجريت في 11 أبريل/ نيسان الجاري، لكن لم تمر سوى ساعات على الإعلان حتى خرج التلفزيون الرسمي بإعلان آخر، مقتل إدريس ديبي متأثرًا بجراحه، وفرض حظر التجوال في البلاد، وإغلاق المجال الجوي لتشاد حتى إشعار آخر.
إدريس ديبي هو الرئيس الذي فاز لتوّه بالولاية السادسة له، لكن الجنرال برماندا المتحدث باسم الجيش، قال إن ديبي لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يدافع عن دولة ذات سيادة في ساحة المعركة. كان ديبي، 68 عامًا، قد شارك في المعارك الدائرة ضد المتمردين، كما يصفهم الإعلام الرسمي، في شمال تشاد.
يُعتبر ديبي من أطول الرؤساء الأفارقة حكمًا، إذ ظل على رأس السلطة منذ وصلها عام 1990 بانتفاضة مسلحة، ولم يتركها إلا في 20 أبريل/ نسيان 2021 بقتال مُسلح كذلك، إذ أُصيب أثناء زيارته لقوات بلاده التي تقاتل المتمردين المتمركزين على الحدود مع ليبيا بقيادة محمد مهدي علي.
ولد ديبي عام 1952 بمدينة فادة، شرقي تشاد، لأحد الرعاة من قبيلة الزغاوة العرقية، ثم انضم إلى الجيش في سبعينيات القرن الماضي، وابتعث إلى فرنسا ليتلقى تدريبًا عسكريًا هناك، ثم عاد إلى تشاد عام 1978. بدأ دخول ديبي إلى الحياة السياسية المدنية بطريقة مثيرة، إذ اشترك في حركة تمرد ضد الرئيس السابق كوكوني وادي عام 1982، وأعلن دعمه لخليفته الرئيس حسين حبري، الذي حكم ما بين أعوام 1982 و1990.
تولى في ظل حبري منصب القائد العام للقوات المسلحة، وعينه حبري مستشارًا عسكريًا، بعد دورة مكثفة في مدرسة قادة الأركان الفرنسية، في الرئاسة بسبب دور ديبي البارز في سحق التمرد العسكري المناهض لحبري الذي كان مدعومًا من الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي.
الانقلاب على الذي انقلب معه
عام 1989، فرّ ديبي إلى السودان، بعد أن وُجهت له تهمة تدبير انقلاب عسكري على حبري. حوّل ديبي التهمة إلى واقع فقاد جيشًا من المتمردين هاجم به تشاد لمدة 3 أسابيع عبر الحدود مع السودان المجاور. كان هدف ديبي وجيشه واضحًا، الإطاحة بحبري، والسبب المُعلن أن حبري متُهم بالتحريض على عشرات الآلاف من عمليات القتل السياسي التي تمت خارج القانون.
استطاع ديبي وأنصاره الذين تسموا بحركة الإنقاذ الوطني، إجبار حبري على التنحي ومغادرة تشاد لمنفاه. بعد تنحي حبري أعلن ديبي نفسه رئيسًا للبلاد عام 1991، ورتّب لانتخابات فاز بها عبر برنامج انتخابي مُقنع تعهد فيه بإنشاء تعددية حزبية وصياغة دستور جديد للبلاد. وفي عام 2001 انتخب ديبي لولاية ثانية، وفي عام 2005 أجرى تعديلات دستورية تتيح له الترشح لولاية ثالثة. وفاز بها بالفعل بنسبة 77% من الأصوات.
قد تدور الشبهات حول الانتخابات التي فاز بها ديبي، لكن هناك احتمالية كبيرة بأن فوزه كان حقيقيًا، رغم وجود سخط شعبي كبير ضده بسبب قمعه المعارضة وإدارته لموارد البلاد النفطية، لكن يخدمه وجود معارضة منقسمة على نفسها، ودعوات قوية لمقاطعة الانتخابات من المعارضة.
كما أن ديبي كان سياسيًا بارزًا يجيد المناورة، فلم يتردد في المشاركة مع جنوده في القتال بالزي العسكري وفي أماكن خطيرة. ولم يمنح نفسه رتبًا عسكرية إلا في أوقات مقاربة لموعد استحقاقها الرسمي، فحصل على لقب المشير العام الماضي فحسب، بعد 29 عامًا في السلطة.
حادثة اغتيال؟
الاشتباكات بدأت يوم السبت، 17 أبريل/ نيسان، وقالت البيانات الرسمية إن 500 مسلح قتلوا، وأُسر 150 آخرون، بينما خسر الجيش 5 جنود وأصيب 36 آخرون. يرجع السبب وراء ذلك التمرد، كما تصفه السلطة، إلى عام 2016 حين أُسست جماعة التغيير والوفاق المُسلحة. تلك الجماعة أسسها مجموعة من ضباط الجيش المعترضين على إدارة ديبي للبلاد، ويتهمونه بالقمع في الفترات التي تسبق الانتخابات.
اتخذت الجماعة من جبال تيبستي، الممتدة بشمال تشاد وفي جزء من جنوب ليبيا، مقرًا لها. رغم بعد الجبال عن العاصمة فإن الجماعة شنّت هجومًا على نقطة حدودية في عشية الانتخابات الأخيرة، وأخذت تتقدم نحو نجامينا، العاصمة. حتى قررت الجماعة أن تدخل إلى العاصمة، الإثنين الماضي، فشنت هجومًا عليها. ساد الذعر في المدينة، أُغلقت المدارس واصطحب الأهل أولادهم منها، وانتشرت الدبابات في كافة شوارع العاصمة.
لم يمض سوى يوم على ذلك الهجوم و أعلن الجيش وفاة الرئيس متأثرًا بجراحٍ أصيب بها دون تقديم مزيد من التفاصيل عن كيفية إصابته، ولا كيف استطاع المهاجمون الوصول إليه. المعلومات القليلة للغاية عن ملابسات مقتل ديبي قد تمنحنا الحق للتشكك في صدق الرواية الرسمية، كما قد تفتح الباب أمام فرضيَات أخرى.
بعض تلك الفرضيات لا يستبعد الاغتيال، اغتيال شخصي ومباشر للرئيس أثناء وجوده على الخطوط الأمامية للقتال من قِبل أحد حراسه أو ضباط جيشه المقربين، بخاصة وأن الجيش التشادي يضم في صفوفه عددًا لا بأس به من أبناء قبائل الشمال، والتي يدين معظمهم بالولاء لمعارضة ديبي.
تصفية، خيانة، أم انقلاب؟
وفرضية أخرى يمكن أن نتخيل فيها حدوث تصفية للرئيس داخل قصره بخيانةٍ من أقرب خاصته وخدمه، ما يجعل تلك الفرضية ذات مصدقية نوعًا ما أنه من المستبعد، ومن غير المألوف، أن يوجد رئيس على الخطوط الأمامية المباشرة للنيران أمام أعدائه. الرؤساء يذهبون للجبهات، يرتدون الملابس العسكرية، يرفعون الروح المعنوية للجنود، يخطبون فيهم عن الوطن والتضحية، لكن لا يكونون على الخط الأول وفي مرمى بنادق العدو.
ولو كان ديبي استثناءً، وكان بالفعل على خط إطلاق النيران فلا بد أن له مرافقين وحرّاسًا، ومن الصعب تخيّل أن يسقط الرجل قتيلًا دون أن يصاب أي قائد عسكري آخر بأذى، ولم يُعلن الجيش في بيانه عن قتل أو إصابة أي مسئول بارز آخر.
ويمكن التكهن بأن أصواتًا داخل الجيش قد قررت التخلص من ديبي بسبب فوزه بالولاية السادسة التي سترفضها المعارضة، ما يجعل البلد منقسمًا على جبهتين، المعارضة الغاضبة في الداخل، وجماعة التمرد على الحدود. فآثرت جهة ما التخلص من ديبي لوضع لحل، ولو مؤقت، للمنحدر الذي سيتدحرج من عليه تشاد.
بعد خبر الوفاة أعلن الجيش التشادي أنه سيُجري انتخابات رئاسية بعد 18 شهرًا، على أن يتم تعيين نجله محمد كاكا، 37 عامًا وجنرال في الجيش، رئيسًا مؤقتًا للبلاد. وتعيين نجل القتيل يستبعد بصورةٍ ما أن يكون مقتل ديبي جراء انقلاب عسكري عادي، لأن منطق الانقلابات يقضي بإزاحة كل من له علاقة بالمُنقلب عليه لا بتولية نجله. كما أن كاكا كان الحاكم الفعلي للبلاد، فلا حاجة له للتخلص من والده ليخلو له الحكم.
من المشير المقتول للجنرال الشاب
جدير بالذكر أن تلك الخطوة هي خطوة غير دستورية، لأنه طبقًا للدستور التشادي في حال خلو منصب الرئاسة فإنه الدستور يقضي بأن يتولى رئيس البرلمان، على أن يُعلن رئيس البرلمان عن تنظيم انتخابات رئاسية عاجلة، شريطة ألا يكون هو مرشحًا فيها. لكن تحايل الجيش على تلك المسألة بحل البرلمان والحكومة أولًا، ثم تعيين محمد رئيسًا مؤقتًا.
وخوفًا من رد فعل الجماعة المسلحة دعت العديد من السفارات الأجنبية رعاياها لمغادرة البلاد، بخاصة أن محمد صُنع على عين والده، وترقى في المناصب العسكرية بسرعة كبيرة. فقد رقاه والده بالأمر المباشر لرتبة جنرال، بأربع نجوم، وهو لمّا يتجاوز الثلاثين من عمره.
ثم لاحقًا عينه قائدًا للحرس الجمهوري، وشارك محمد مع الجيش الفرنسي في مناورات عسكرية عديدة ضد الجماعات الانفصالية والإسلاميين، الذين يصفهم بالمتشددين، مثل جماعات بوكو حرام وجماعة الأنصار. كما كان قائدًا للقوات التشادية الفرنسية المشتركة في معركة إيفوغاس التي سحق فيها التحالف الفرنسي التشادي المتمردين شمالي مالي عام 2018.
بولاية ابن القتيل باتت تشاد في وضع مأزوم قد ينفجر في أي لحظة، فبعد أن كان الصراع بين سلطة شرعية ومتمردين عليها، باتت البلد تعاني حاليًا من فجوة داخل السلطة ذاتها، وانتقال غير شرعي للسلطة من المشير المقتول للجنرال الفتيّ. وعلى فرنسا أن تبحث لها عن حليف آخر، فقد كان ديبي أقوى حلفاء فرنسا، ويعتبره كثيرون رجل فرنسا في تشاد، وخير من دعم القوات الفرنسية الموجودة في أفريقيا.