انتفاضة الأمن المركزي: أداة القمع مقموعة أيضًا
بهذا الهتاف حاول متظاهرو مصر منذ سبعينيات القرن الماضي حتى مظاهرات الأرض التي شهدها العام المنصرم، استمالة جنود الأمن المركزي، أداة القمع التي صنعها النظام خصيصا لهم، ورغم أن النظام وضع المتظاهرين وجنود الأمن المركزي في مواجهة بعضهم البعض لعقود، فإن الهتاف السابق يكشف عن حقيقة فهمها المتظاهرون، وهي أن أداة القمع التي صنعتها الحكومة، تعاني هي الأخرى من القمع.
نشأة القطاع
تعود فكرة استغلال مجندي القوات المسلحة في قمع التحركات المدنية لثورة 1919، حيث استعانت قوات الاحتلال بالمجندين لقمع التظاهرات الضخمة التي لا تستطيع قوات الأمن العادية مواجهتها.
وعقب هزيمة 1967، اندلعت العديد من المظاهرات المطالبة بمحاسبة المسئولين عن الهزيمة، كان أهم هذه المظاهرات ما جرى في فبراير / شباط 1968 من تظاهر لعمال حلوان لرفض الأحكام الصادرة ضد قيادات الطيران المتهمين بالمسئولية عن الهزيمة، وانتشرت المظاهرات سريعا لتتحول لانتفاضة طلابية واسعة، عجزت قوات الأمن بتشكيلاتها المختلفة عن السيطرة عليها.
وهو ما دفع القيادة السياسية إلى إنشاء قطاع الأمن المركزي بموجب القرار الوزاري 1010 لسنة 1969 وجعل قوامه من المجندين ومدة تجنيدهم 3 سنوات، وخص القطاع بمواجهة الاضطرابات وأعمال الشغب التي تعجز قوات الأمن العادية عن مواجهتها، ولم يتجاوز عدد جنود الأمن المركزي آنذاك خمسة آلاف مجند.
ولعل أهم الأحداث التي كان للقطاع الأمن المركزي اليد العليا في قمعها هي أحداث انتفاضة يناير 1977، وكذلك ثورة يناير 2011، غير أن قطاعات الأمن المركزي انسحبت مع الانفلات الأمني في جمعة الغضب.
انتفاضة الأمن المركزي
يبدو أن شهر فبراير / شباط له دلالة خاصة مع الأمن المركزي، فكما وقع الحادث الذي تسبب في إنشاء القطاع في فبراير / شباط 1968، جاء فبراير / شباط 1986 ليحمل حادثا آخر مهما في تاريخ القطاع، وهو تاريخ أول تمرد منظم للقطاع استمر لمدة أسبوع كامل، وراح ضحيته 107 قتلى كان أغلبهم من الجنود.
وتعود أحداث الانتفاضة إلى مساء 25 فبراير / شباط 1986، حيث خرج 8 آلاف جندي من معسكرين بمنطقة الأهرامات حاملين أسلحتهم المتمثلة في البنادق والهروات، ومرتدين زيهم الكامل في مظاهرة مسلحة قامت بتحطيم فندق «جولي فيل» المقابل للمعسكر، بعد انتشار شائعة مفادها مد فترة التجنيد لجنود الأمن المركزي لتصبح 4 أعوام، خلال ساعات استطاع الجنود احتلال منطقة الهرم بأكملها بما في ذلك مداخل طريق الإسكندرية الصحراوي وطريق الفيوم وترعة المنصورية، وفي الثالثة من صباح الأربعاء 26 فبراير أعلنت حالة الطوارئ، وتم فرض حظر التجول في تلك المنطقة.
وفي حوالي السادسة صباحا انتشرت قوات الجيش واحتلت عددا من المواقع التي يوجد فيها الجنود المتمردون، وبدءوا في حصارهم. وبعد معارك ضارية استطاعت قوات الجيش أن تسيطر على المنطقة. وحتى ذلك الحين لم يكن ما يجري في منطقة الأهرام قد امتد إلى بقية العاصمة، وما كادت ساعات صباح الأربعاء الأول تمر حتى بدأت الانتفاضة في أغلب معسكرات الأمن المركزي الأخرى في العاصمة، في شمالها وشرقها وجنوبها الغربي.
وتعالت أصوات اشتباكات الرصاص مع قوات الجيش التي كلفت بسحب السلاح من جنود الأمن المركزي في كل المعسكرات، بعد أن تزايدت الشكوك من اختراق سياسي واسع داخل جهاز الأمن المركزي.
وكان الوضع خارج القاهرة أقل حدة، حيث استطاعت قوات الجيش السيطرة على تمرد الأمن المركزي دون خسائر تذكر، عدا محافظة أسيوط التى كان مدير أمنها زكي بدر، وقد تولى الوزارة مكافأة له على دوره في قمع الأمن المركزي، وذلك عقب إقالة اللواء أحمد رشدي الذى تمت الإطاحة به نتيجة التمرد.
وكانت حصيلة انتفاضة الأمن المركزي أكثر من 107 قتلى معظمهم من الجنود، 104 في القاهرة و3 في أسيوط و719 جريحا، وبعد إعادة الجيش السيطرة على الأوضاع تم القبض على آلاف من الجنود، كما تم طرد 21 ألف جندي من الخدمة.
سارع قيادات أحزاب الوفد والعمل والتجمع والأحرار عقب الحادث إلى لقاء مبارك، حيث أعربوا عن استنكارهم لانتفاضة الأمن المركزي، وتأييدهم المطلق لسياسة النظام في مواجهة الأحداث. وعلى الرغم من التغطية الجيدة نسبيا للأحداث بواسطة جريدة «الأهالي» لسان حال حزب التجمع، فإن موقف الحزب الرسمي ضد الانتفاضة، حيث صدر عن الحزب بيان «يستنكر الأحداث ويدعو لمشروع قومي يواجه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية».
احتجاجات بالجملة
وبنهاية 2009 شهدت وزارة الداخلية ثورة 6 آلاف مجند وعسكري ضد قيادتهم في معسكر التشكيلات لقوات أمن القاهرة، حين بدأت الاحتجاجات أثناء طابور التمام وفوجئ القائمون على السجن العسكري بمنطقة رمسيس، باعتراض جميع المجندين بالمعسكر ضد قائديهم، وتحطيمهم مباني إدارة المعسكر، والاستراحة المخصصة للضباط، وصالة الألعاب والسجن العسكري.
وأرجعت تحقيقات النيابة العسكرية ثورة الجنود إلى قسوة الضباط معهم، بجانب تأجيل حصول الجنود على إجازاتهم، وإرهاقهم في العمل في غير الأوقات المخصصة لذلك، الأمر الذي دفع 14 من كبار المجندين إلى قيادة ثورة داخل صفوف زملائهم انتهت بتهريب 6 من المساجين.
وفي 2013، أضرب مئات من جنود الأمن المركزي في معسكر قوات الأمن في شبرا الخيمة عن العمل، ورفضوا الخروج للخدمات داخل وخارج المعسكر، احتجاجا على سوء معاملة الضباط لهم، وطالبوا بتسليحهم بشكل جيد لمواجهة الخارجين على القانون، ونقل مدير المعسكر الذي يهدر كرامتهم.
وتبين أن الجنود أضربوا عن العمل احتجاجا على سوء المعاملة من جانب مدير المعسكر، والضباط، و قالوا للقيادات الأمنية: «إن أحد الضباط يقول لهم إن الضابط خط أحمر، ولا أحد يستطيع أن يقترب منه، وهندوس عليكم».
وفي أغسطس 2014، احتج مجموعة من المجندين التابعين لمعسكر قوات الأمن بالإسماعيلية، ضد الأداء الوظيفي وتواصل ساعات العمل ونقص الغذاء وخصم من الإجازات، وقطع المئات من جنود معسكر قوات الأمن بالإسماعيلية طريق الإسماعيلية، احتجاجا على طريقة توظيفهم وتشغيلهم المفتقدة إلى العدالة في توزيع ساعات العمل، بحسب قولهم.
وفي 2015 قام المئات من مجندي فرق الأمن بمعسكر «العزب» بالفيوم بقطع الطريق، وأشعلوا النيران في إطارات السيارات، ومنعوا مرور السيارات، احتجاجا على سوء معاملة إدارة المعسكر لهم، مطالبين القيادات الأمنية بالتدخل لحل مشكلتهم، وقد انتقل عدد من القيادات الأمنية بالمحافظة للتفاوض معهم وإنهاء الإضراب.
خاطر أبرز المقموعين
يعد أشهر جنود الأمن المركزي في مصر، هو الجندي سليمان خاطر الذي قتل 7 سياح إسرائيليين تسللوا إلى نقطة حدودية جبلية كان يحرسها في أكتوبر / تشرين الأول 1985.
وطبقا لتحقيقات النيابة، فقد حذر خاطر السياح السبعة قبل إطلاق النار باللغة الإنجليزية بأنه ممنوع العبور، ولكنهم أصروا على العبور، ولكونه في منطقة وعرة كان سلاحه جاهزا للإطلاق، فخرج عدد من الرصاصات قتلت 7 من أصل 12 شخصا، بينما هرب 5 آخرون.
وقد حكم على خاطر بالسجن المؤبد لمدة 25 عاما، ورغم أن القضية لم تكن مسيسة أثناء نظرها، فإنها شهدت انفجارا شعبيا عقب الإعلان عن انتحار خاطر في محبسه في يناير/ كانون الثاني 1986، حيث اندلعت المظاهرات داخل الجامعات المصرية، وكان هتافها الرئيسي:
كما أقامت الأحزاب فعاليات للتنديد بمقتل خاطر، وشهدت هذه الفعاليات أول هتاف ضد مبارك.
وفي تحقيق «موت في الخدمة» وثق الصحفي المصري مصطفى المرصفاوي لـ «بي بي سي» العديد من التجاوزات وسوء المعاملة التي يتعرض لها جنود الأمن المركزي داخل المعسكرات، والتي وصلت في بعض الأحيان إلى قتل الجنود على يد الضباط وتسجيلها كحالات انتحار، في الفترة ما بين 2008 لـ 2015.
وكشف التحقيق الذي استمر لمدة عامين عن سوء المعاملة التي يلقاها المجندون من إجبار على العمل بالسخرة وسوء التغذية والإصابات، بالإضافة إلى تعنت الضباط.
ورغم المواجهات الحادة التي تجري بين المتظاهرين وقوات الأمن، ورغم أن مجندي الأمن المركزي هم أهم أدوات القمع التي يستخدمها النظام، تبقى الحقيقة المؤكدة أن القطاع الذي استخدم لسنوات طويلة بهدف قمع أي تحرك مدني، لا يقل بؤسا وتعرضا للقمع عمن يقمعهم.