البنوك المركزية: كيف ظهرت وما دورها في سياسات الدول؟
لكل دولة علم ونشيد وطني وحاكم وبنك مركزي، قد يتغير أول اثنين، وقد تعاني فراغًا من الحاكم لأي سبب، لكن الدول بالتأكيد لا توجد بغير بنك مركزي، فبعد أن كانت البنوك المركزية أمرًا طارئًا على الدول، باتت البنوك المركزية هي الدول.
عام 1668 وضعت السويد البذرة الأولى لمفهوم البنوك المركزية، وأسست أول بنك مركزي في العالم. بعد بنك السويد بعشرات السنوات أنشأت بريطانيا بنكها المركزي، وأشهر بنك مركزي في العالم. البنك المركزي هدفه الأول هو إقراض الحكومة، أو تمويل الحكومة، وشراء الديون التي تدين بها الحكومة للجهات الأخرى. وشيئًا فشيئًا أصبح البنك المركزي يتدخل لتنظيم المعاملات التجارية المحلية ووضع سقف محدد للعديد من المعاملات المالية.
فبات البنك المركزي وما يمتلكه من ودائع ضخمة تضعها الدول فيه هو الملاذ لكافة البنوك التي تعاني من أزمات داخلية. كما أن البنك المركزي أصبح الوسيط لحل المشكلات بين البنوك المختلفة وتنظيم التعاملات المالية بين البنوك وبعضها. قد يبدو الأمر غير مؤثر على حياة المواطن العادي، لكن الحقيقة أن البنك المركزي هو ما يمنح الثقة للمواطن بأن الأموال التي يودعها في أي بنك لن تُهدر حتى لو أفلس البنك، لأن المركزي سوف يُقرض البنك الخاص بك ما يكفي لتسديد مديونيته.
تلك النقطة تحديدًا كان سببها الأزمة المالية التي ضربت بريطانيا في بدايات القرن التاسع عشر، ففقد الناس الثقة في المنظومة المالية البنكية. حتى أن المحللين يقولون إن بريطانيا كانت على وشك العودة لنظام المقايضة بسبب انعدام الثقة، لكن جاء الحل بجعل البنك المركزي يقرض البنوك الواقعة في الأزمة، دون أن يتلقى منها مقابلًا أو فائدة، كي يمكنها الاستمرار في الوفاء بالتزاماتها أمام العملاء.
وأبرز ما استأثرت به البنوك المركزية هو إصدار العملات النقدية للدول، فأصبح البنك المركزي محتكرًا لحق عرض النقد في أي دولة. ولضمان عدم التلاعب والشفافية العالمية وضعت بريطانيا الذهب كمعيار للتعامل، وتبعتها في ذلك العديد من دول العالم في تثبيت سعر عملتها إلى الذهب كي تصبح العملات الورقية قادرة على الطيران بحرية بين مختلف دول العالم، لأنها في النهاية تمثل بيانًا بأن الشخص يمتلك قدرًا معينًا من الذهب في دولته، وهو نفس المعدن الذي تعترف به الدول الأخرى.
أمريكا تفشل في إنشاء بنك مركزي
بريطانيا هي الرائدة إذن في مجال البنوك المركزية وقواعدها، ولهذا رفضت الولايات المتحدة الأمريكية تأسيس بنك مركزي خاص بها. لأن الرأي العام الأمريكي كان مناهضًا لكل ما هو بريطاني، خصوصًا بعد الاستقلال عن بريطانيا. فأرادت كل ولاية أن تكون لها الحرية المالية كاملة، لا أن تخضع للبنك المركزي البريطاني ولا أن تخضع لبنك أمريكي فيدرالي. فظلت الولايات المتحدة تتعامل مع بنك كبير لكل ولاية فحسب، وحتى أول بنك مركزي المؤسس عام 1791 فشل في تكوين قاعدة ائتمانية ومصرفية، فعادت بنوك الولايات للواجهة.
ظلت الولايات المتحدة بلا بنك مركزي حتى عام 1816، في ذلك العام قرر الكونجرس إنشاء بنك مركزي جديد. هذا البنك الثاني استطاع أن يصمد أطول من سابقه، استمر حتى عام1836 لكنه انتهى بالحل بقرار من أندرو جونسون، الرئيس الأمريكي، بزعم عدم دستوريته. فعاد القطاع المصرفي الأمريكي للحركة الحرة بلا بنك مركزي، وحاولت القوانين الفيدرالية ضبط الأمور كلما استطاعت، لكن ظلت الحرية المالية هى المسيطرة.
لكن احتاج الأمر لبنك واحد فقط لم يحتفظ بنقد كاف ليرده للعملاء حين يطلبونه، فأصاب الهلع العملاء وطالبوا بمدخراتهم كلها، فلم يستطع البنك مواكبة الطلب المرتفع المفاجئ فانهار البنك. عملاء البنوك الأخرى خافوا، فطالبوا بمستحقاتهم كاملة فدخلت البنوك الأخرى في أزمة، واستمر الأمر كقطع الدومينو بنكًا يلي الآخر.
لكبح هذا الانهيار تدخل جون مورجان، مصرفي أمريكي، أعلن عام 1907 أنه سوف يُقرض كافة البنوك المحتاجة للنقد للوفاء باحتياجات عملائها وإنهاء الأزمة. كان مورجان بشخصه قد أصبح بمثابة البنك المركزي في تلك اللحظة، فتغيّر الرأي العام الأمريكي وأصبح الصوت المرتفع من نصيب المطالبين بضرورة إنشاء بنك مركزي ينظم أعمال البنوك ويُقرضهم وقت الأزمات ويتحكم في المعروض من العملات النقدية.
الدولار بديلًا عن الذهب
الهوس الأمريكي بألا يصبحوا أتباعًا للنظام المالي المؤسس سلفًا جعلتهم يضعون نظامًا خاصًا بالبنك الفيدرالي الأمريكي، فيتكون من 12 بنكًا مركزيًا موزعين على مختلف الولايات الأمريكية، وينسق عمل تلك البنوك مجلس إدارة فيدرالي. وجعلت الولايات المتحدة البنك المركزي ممولًا من القطاع الخاص دون الحكومة كي تقطع أي احتمالية لتبعيته للحكومة الأمريكية.
ولهذا يخضع البنك الفيدرالي للمساءلة الدقيقة أمام الكونجرس الأمريكي بشكل دوري. أعضاء مجلس إدارة البنك الفيدرالي يعينهم الرئيس الأمريكي بموافقة الكونجرس، ويمكن أن يظلوا في الخدمة لمدة 14 عامًا كاملة. لكن يختارون من بينهم رئيسًا ونائبًا له مدتهما 4 سنوات قابلة للتجديد.
الفيدرالي الأمريكي اتبع قاعدة الذهب مع باقي البنوك العالم حتى عام 1914، لكن قيام الحرب العالمية الأولى سبب رعبًا لدى العالم من أن تصل كمية من الذهب من دولة عبر التهريب أو التجارة الشرعية لدولة أخرى فترتفع قيمة عملة وتنخفض الأخرى. لذلك قررت البنوك المركزية منع تحويل العملات الورقية إلى ذهب، واحتكرت البنوك مخزون الذهب واستخدمته في تمويل الحروب.
الحربان العالميتان الأولى والثانية جعلتا النظام الاقتصادي القائم على الذهب ضعيفًا وغير عملي، فبرز الداعي إلى نظام نقدي عالمي يحكم الجميع. في تلك اللحظة وُلد نظام بريتون وودز، النظام الذي وضع الولايات المتحدة على قمة النظام المالي. إذ ثبّت هذا النظام سعر الدولار للذهب، لكن ثبّت سعر باقي عملات العالم للدولار الأمريكي. ويمكن للدول التحويل من الدولار للذهب، لكن لا يمكن التحويل من أي عمل نقدية أخرى للذهب إلا إذا حُوّلت للدولار أولًا.
البنك المركزي مرآة للوضع السياسي
لاحقًا انهار نظام بريتون وودز بسبب الحروب الأمريكية المستمرة، ففقد الدولار الثقة كعملة عالمية، فدخل العالم مرحلة تعويم العملات اللانهائي حتى يومنا هذا. ولهذا أصبح للبنوك المركزية دورًا جديدًا لم يكن موجودًا سابقًا، خلق المال من العدم. فيمكن للبنوك المركزية أن تطبع أي كمية تريدها من الأمول وتضخها في الأسواق لتسهيل عمليات التجارة، ولمواجهة الأزمات كما حدث في جائحة كورونا الحالية.
وكذلك بات البنك المركزي قادرًا على تحديد سعر الفائدة، وهو من أبرز النقاط التي يبحث عنها المستثمر وتؤثر على حياة المستهلك. لهذا بدأت الحكومات في التفكير في تحديد أو تحييد أدوار البنوك المركزية بحيث لا تتعارض مع السياسات الاقتصادية للدول.
وأصبحت البنوك المركزية مكانًا لطباعة العملة وتنظيم القطاع المصرفي. كما أنها صارت المخزن للمعادن النفيسة الاقتصادية كالذهب والألماس، ومخزن الاحتياطي النقدي من عملات الدول الأخرى، وبالطبع احتفظ البنك المركزي بقدرته على إقراض البنوك حال لزم الأمر.
لكن أحوال البنوك المركزية تختلف حسب مدى الشفافية في الدولة، وحسب قدرة الأجهزة التشريعية على مساءلة البنك المركزي ومعرفة دوافعه وراء قراراته والمعطيات التي بنى عليها قراره برفع سعر الفائدة أو خفضها، أو معرفة كمية النقود التي ضخها في السوق، وهل لها غطاء من الذهب أم لا.
في بعض الدول يكون البنك المركزي خاضعًا للحكومة ينفذ توجهاتها السياسية بالأمر المباشر، وفي بعضها يكون مستقلًا عنها لكن يخضع لها رقابيًا فحسب، وفي البعض الآخر يكون البنك المركزي، ومن خلفه من كبار أصحاب المال في الدولة، هم المتحكمون في القرارات السياسية التي تصدر فيما يتعلق بالاقتصاد.