تسع سنواتٍ مرّت على صدور رواية «سيدات القمر» للكاتبة العمانية جوخة الحارثي، في طبعتها العربية عن دار الآداب، وبالرغم من حصول كاتبتها على جائزة السلطان قابوس للثقافة والآداب بعد ذلك، فإنها لم تلفت الأنظار إليها حتى وصلت ترجمة روايتها بالإنجليزية إلى القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر العالمية، وكان حصولها على الجائزة الذي تم الإعلان عنه منذ أيام مفاجأة سعيدة للوسط الأدبي العربي بصفة عامة، وفرصة لتسليط الضوء على الأدب العماني بشكلٍ خاص.

لم تكن جوخة أول عربية تصل إلى القائمة القصيرة لمان بوكر العالمية، التي يبدو أنها بدأت بالتركيز على الروايات العربية المهمة التي تعكس عالمًا مغايرًا وتحمل قيمة أدبية عالية، سبقها إليها الروائي العراقي أحمد سعداوي الذي وصلت روايته «فرانكشتاين في بغداد» إلى القائمة القصيرة أيضًا في العام الماضي. واللافت للنظر أن الجائزة لا تختص بالرواية فقط، وإنما تشمل أيضًا القصص القصيرة، إذ يحدث أن تصل مجموعات قصصيّة أيضًا إلى قوائمها الطويلة والقصيرة، وقد وصلت مجموعة «نكات للمسلحين» للقاص الفلسطيني مازن معروف إلى القائمة الطويلة لمان بوكر هذا العام.

«سيدات القمر» هي الرواية الثانية للروائية جوخة الحارثي، وتدور حول قرية «العوافي» العمانية وحياة النساء والرجال فيها، مع عرضٍ سريع لتاريخ عمان الاجتماعي والسياسي من أربعينيات القرن العشرين وحتى العصر الحاضر، من خلال عائلات هذه القرية التي تختلف بين سادة ملاك أراض وتجار والعبيد الذين كان يتم شراؤهم وتربيتهم داخل بيوت السادة حتى يصبحوا جزءًا منها.

بمهارةٍ تبني جوخة عالم روايتها من خلال فصول الرواية القصيرة، وتقسمها على أصوات أبطالها، فتمنح كل شخصية من شخصياتها صوته ويحكي من خلالها طرفًا من حكايته، حتى تتجمّع الحكايات في نسيج الرواية في النهاية ليتكشّف عوالم «سيدات القمر» بشكلٍ خاص، وما بينهم من علاقات وما يدور بينهم من مواقف وحياة.

ينقسم السرد إلى سرد بضمير الغائب من خلال الراوي العليم الذي يحكي مواقف بعض شخصيات الرواية، وفصول أخرى تأتي بضمير المتكلم من خلال تقنية تيار الوعي، يسرد فيها البطل لقطات أخرى من حياة العائلة، تتغيّر فيها لغة السرد وتكون أكثر شاعرية من المقاطع الأخرى، وهو ما يمنح السرد حيوية ويدفع القارئ لمواصلة التعرف على ذلك العالم الغريب المميز.

تكمن براعة الرواية في قدرتها على التقاط تفاصيل الحياة العربية القديمة في قريةٍ من قرى عمان، إذ نجد عادات وتقاليد هذه العائلات وطرق تعاملها بدايةً مع العبيد، ثم مع النساء في مواقف مختلفة، بدءًا بالتربية والحب والزواج، وصولاً إلى طريقة تعاملهم مع الموت وكيفية استقبالهم له، ولعل ذلك كله ما منح الرواية خصوصيتها، وما أهلها بالتالي للترجمة ودفع بها لأن تكون ممثلةً للرواية العربية في جائزةٍ دولية مثل مان بوكر.

في شهادتها التي قدمتها، مؤخرًا، في ملتقى الرواية العربي المقام في القاهرة، تتحدث جوخة الحارثي عن تجربتها في كتابة سيدات القمر فتقول:

كنت في منتصف عشريناتي طالبة مغتربة، أدرس دكتوراه بلغةٍ غير التي أعشق، وأمًا لطفلةٍ تعاني الوحدة، لكن الكتابة أنقذتني. أمشي غريبة الوجه واليد واللسان، أرى آلاف الحكايا تمشي معي وأدعوها لنجلس معًا ونشرب كوب قهوة في الصقيع.. أضواء الكريسماس تلوح من النافذة والثلج يغطي إفريزها وأنا أستحضر بخيالي الصحراء وأرواح أجدادي الشهداء، الناس يهرولون بالمعاطف وأنا ألبس الطفل أحمد الراكب على كرب نخلة الدشداشة الخفيفة والحروز الحارسة من الموت، جارتي تدعوني لشاي العصر في بيتها الفاتح اللون وأنا أغوص في غرفة خالتي بصبغها القاتم وروزانها المليئة بالأواني الأثرية .. تصالحت مع غربتي وأحببت شخوصي وكتبت روايتي.

من حكايات الجدات، ومن تجارب السفر والغربة إلى الواقع الراهن، وما تعانيه المرأة في المجتمع العماني والعربي بشكلٍ عام، تأتي رواية «سيدات القمر»، التي تستلهم تلك القصص وتعيد صياغتها بشكلٍ أدبي وسردٍ محكم ولغةٍ شاعرية متقنة تكون خير سفيرٍ ودليل ينقل هؤلاء الأبطال البسطاء ومعاناتهم الإنسانية الواقعية إلى شتى بقاع العالم.

لعل أكثر ما سيلاحظه القارئ في «سيدات القمر» هو أنها رواية تحكي حال البلد والناس فيه، أكثر من كونها رواية شخصيات أو أحداث ومواقف أساسية، وحتى رغم تركيز السرد على وصف حال النساء فيها بدءًا من العنوان مرورًا على التركيز على حكايات «ميا»، و«خولة»، و«نجية القمر»، و«ظريفة العبدة»، وغيرهن من شخصيات تم رسمهن وتصوير تفاصيل حياتهن بعناية، إلا أن حضور الرجال كان واضحًا أيضًا، لا سيما في سرد «عبد الله» لحكايته وطريقة بناء بعض شخصيات الرواية من خلاله، كما يحضر والده «التاجر سليمان»، و«سنجر» العبد الذي يسعى للحصول على حريته وغيرهم.

تجدر الإشارة إلى أن الأدب العماني يزخر بشكلٍ عام بهذا الاحتفاء بالبلد التي ربما لا يعرف عنها الكثيرون شيئًا ولا عما دار فيها من صراعات سياسية منذ أيام الاستعمار، وهو ما رصدت الروائية العمانية بشرى خلفان طرفًا منه في روايتها المتميزة «الباغ».

اقرأ أيضًا: رواية «الباغ»: رحلة في تاريخ سلطنة عمان المجهول

تجدر الإشارة كذلك إلى أن رواية «سيدات القمر» لفتت أنظار عدد من القراء والنقاد العرب قبل حصولها على الجائزة الدولية، وأشاد الكثيرون بكتابة جوخة الحارثي وتميز روايتها، إذ أورد منير عتيبة في كتابه المهم «في النقد التطبيقي» الصادر عام 2015 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة فصلاً عن رواية «سيدات القمر» جاء فيه:

ينهار تدريجيًا عالم كامل من العلاقات الاجتماعية والعادات والتقاليد، وتصبح شخصيات العمل الروائى على الحافة بين عالمين أحدهما خانق جامد منهار، والآخر غامض مليء بالتوتر والترقب والخوف من الآتي، ولا شيء تعتصم به الشخصيات فى مواجهتها لمصائرها المختلفة سوى ما تؤمن به يقينا، قد يكون الحب مثلما فعلت ميا وخولة ولندن ونجية؛ مع اختلاف ظلال حكاية حب كل منهن، وقد يكون التاريخ المجيد مثلما تعلق به عيسى المهاجر، أو التاريخ الشخصي بما يحمل من آلام وانكسارات مثلما نرى فى حياة عبد الله.
كما أشار محمد بدوي إلى الرواية في صفحته على فيس بوك:
وضعت الصدفة رواية «سيدات القمر» أمامي عام 2011، أحببت أصالة هذا العالم وطزاجته ولغة الكاتبة وطقسيتها وتدفق السرد وسلاسته وإعادة الحياة إلى واقع لم يكتب بعد بعيدًا عن الأيديولوجيا السياسية أو الجمالية أو إغواء التجريب الشكلي. ثمة عالم يتخلق أمام عيني القارئ في يسر فيستسلم له دون عناء واثقًا في أصالته الإنسانية. بعد ذلك عرفت أن الكاتبة أستاذة أدب في الجامعة. وبرغم معرفتها المفترضة بتطور الرواية العربية والغربية، فإنها كانت ثابتة الجنان وهي تخلق عالمها وتنطلق من محليته إلى الأدب الإنساني بمعناه العميق.

جوخة الحارثي روائية وأكاديمية عمانية، حصلت على الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة أدنبرة، كتبت الرواية والقصة القصيرة، صدر لها منامات ورشحت روايتها «سيدات القمر» لجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2011، وشاركت في ورشة الخيال العربي التي تنظمها جائزة البوكر العربية عام 2011. حصلت على جائزة السلطان قابوس للثقافة والآداب عام 2016 عن روايتها «نارنجه». وهي أول روائية عربية تحصل على جائزة مان بوكر الدولية.