فتيان الكهف: قصة 18 يومًا من الظلام
يحكى أن أميرة جميلة وقعت في حب عامل بسيط داخل إسطبل الملك. غضب الملك كثيرًا خاصة بعد أن تأكد أن أميرته الجميلة تحمل داخل أحشائها طفلًا ينتسب لعامل الإسطبل الذي هرب خوفًا من بطش الملك الغاضب.
كان جنود الملك أكثر بطشًا منه، ووجدوا العامل بعد أيام قليلة فقتلوه بلا رحمة. حزنت الأميرة كثيرًا وقررت الانتحار لتنتهي تلك القصة للأبد.
أنت لا تعرف شيئًا عن تلك القصة الأسطورية بالطبع. يبدو هذا منطقيًّا، فهي أسطورة محلية للغاية تخص مدينة «ماي ساي». تلك البلدة الصغيرة التي تقع في على بعد 850 كيلومترًا من العاصمة التايلاندية الصاخبة بانكوك، والتي تبقي على الحدود بين تايلاند وميانمار.
لكن هناك عددًا قليلًا خارج تلك المدينة على علم بتلك القصة القديمة وهم مستكشفو الكهوف. حيث يوجد في المدينة جبل يعتبره السكان تجسيدًا للأميرة الجميلة، ويسمى بجبل الأميرة النائمة. ويقال إن الماء، الذي يمر عبر متاهة من الكهوف والأنفاق الصعبة داخل الجبل خلال موسم الرياح الموسمية، هو دم الأميرة.
إحدى تلك الكهوف هو كهف «ثام لوانغ». حيث تتواجد علامة التحذير بالقرب من مدخله تنصح المستكشفين المحتملين بعدم المغامرة بالدخول إلى الكهف خلال موسم الرياح الموسمية بين شهري يوليو وأكتوبر.
تصبح الكهوف في هذا الوقت عرضة للفيضانات في غضون لحظة. لكن القصة التي نحن بصدد أن نتعرف على تفاصيلها بدأت قبل شهور الخطر، لكنها لم تخلُ من خطر بالغ للغاية. لقد بدأت القصة تحديدًا في يوم السبت 23 يونيو/حزيران لعام 2018.
من هم فتيان الكهف
تبدأ القصة برغبة لاعبي أحد الفرق المحلية في المدينة، والذي يدعي «وايلد بورز» أو «الخنازير البرية» أن يطلبوا من مدربهم «أيك» صاحب الـ 25 عامًا أن يقودهم لاستكشاف كهف ثام لوانغ.
دعنا نتعرف على أعضاء الفريق أكثر. يتراوح أعمار الفتيان بين 11 و 16 عامًا. يتشارك المدرب مع ثلاثة لاعبين أنهم لا يحملون الجنسية التايلاندية، والتي لا تُعطى بمجرد الميلاد في تايلاند؛ لكثرة المتسللين من ميانمار في هذه المدينة.
يوجد لدينا لاعب هو المسيحي الوحيد في الفريق، ويسمى أدول. ولد أدول في ميانمار وتسلل رفقة عائلته داخل تايلاند، وهو يتحدث التايلاندية، البورمية، الإنجليزية، الصينية، ولغة الجماعة القبلية العرقية التي ينتمي إليها.
وافق المدرب أن يصطحب الفريق بعد ممارسة كرة القدم صباحًا إلى الكهف. كانت الفكرة هي البقاء في الكهف لمدة ساعة. لذا قرر بعض الفتيان ألا يخبروا والديهم حتى لا يخاطروا بعدم الذهاب المحتمل. فقط أرادوا أن يمارسوا تقليدًا محليًّا خاصًّا بصغار المدينة، وهو الدخول في عمق الكهف وكتابة أسمائهم على الجدران.
لم ينضم اثنان من أعضاء الفريق في الرحلة استكشاف الكهف. أطاع الأول والديه وعاد إلى المنزل بعد التدريب لإنهاء واجبه. بينما لم يرغب الآخر في استكشاف الكهف، وتم التقاطه من قبل أحد والديه بعد تمرين كرة القدم مباشرة.
داخل الكهف
بينما تعمق الفتيان داخل الكهف المظلم، بدأت الأمطار الموسمية في الخارج تهطل بشدة. لم يدرك الفتيان ما يحدث في الخارج بسبب تعمقهم داخل الكهف، لكنهم كانوا قد تم احتجازهم بالفعل. توقف الأولاد ما أن وصلوا إلى نقطة داخل الكهف تسمى بـ «Nern Nom Sao» لمناقشة ما إذا كان ينبغي عليهم الاستمرار في التعمق في الكهف.
أخبرهم المدرب أن الساعة المخصصة داخل الكهف قد انقضت وحان الوقت للعودة. لكنهم اكتشفوا أن مستويات المياه في عمق جبل الأميرة النائمة تزداد. كانت مياه الفيضانات ترتفع من حولهم وبدأ الذعر ينتاب الجميع. لقد أصبح الأمر واضحًا الآن، لقد تم احتجازهم وانغلق طريق الخروج تمامًا.
قرر المدرب أن يصارح فتيانه بضرورة إيجاد مكان للنوم؛ لأن العودة الآن أصبحت مستحيلة. كان الأولاد بلا طعام أو ماء داخل كهف مظلم مطلوب منهم أن يناموا للصباح. لكن ما كان يثير خوفهم أكثر أن المياه من حولهم بدأت في الارتفاع.
أخبرهم المدرب أنه من الآمن أن يكونوا بالقرب من الماء وأن هذا الارتفاع في الماء مؤقت تمامًا ونتج عن هطول أمطار مبكرة قليلًا، وما أن تتوقف الأمطار فسيقل منسوب الماء ويتمكنون من الذهاب للبيت في الصباح.
خارج الكهف
بحلول السادسة بدأ أهالي الفتيان في القلق. ومن حسن الحظ أن الولد الذي أطاع والديه وعاد إلى المنزل قرر إفشاء سر أصدقائه وبلغ الجميع بشأن الرحلة نحو الكهف.
قرر ثلاثة من الآباء أن يتوجهوا للكهف مباشرة رفقة بعض الجنود التايلانديين. ما أن وصلوا لمدخل الكهف حتى وجدوا قوات حراس الغابات بالفعل وبحوزتهم الحقائب والدراجات التي تركها الأولاد. لم يكن هناك شك لدى الآباء بعد الآن. فأولادهم في ثام لوانغ إما فقدوا أو عالقون في الداخل.
تكوَّن أول فريق للبحث عن الفتيان من اثنين من المسئولين المحليين واثنين من حراس الغابات وجنديين. حاول فريق البحث البسيط هذا التغول داخل ثام لوانغ إلا أن الفيضان منعهم من الذهاب أبعد من تقاطع داخل الكهف يسمي بتقاطع تي.
أصبح المشهد حزينًا قلقًا للغاية، انضمت أسر الأطفال تباعًا رفقة الموجودين خارج الكهف وهم يبكون ويتوسلون للمسئولين من أجل إنقاذ أطفالهم. بعد عدة ساعات تم إرسال فريق إنقاذ محترف لكن مستويات المياه كانت ترتفع بسرعة كبيرة حتى أن فريق الإنقاذ عاد بعد 80 دقيقة دون حتى أن يتمكن من الوصول للتقاطع تي.
توقفت أسر هؤلاء الفتيان عن العمل وبقوا خارج الكهف دون أن يمتلكوا موردًا ماليًّا يمدهم بالطعام والشراب. لكن فيما أهمية الطعام وأولادهم داخل الكهف محرومين منه. خلال الأيام القليلة التالية كان المطر يأبى ألا يتساقط رغم دعوات الأهالي. كانت جهود الإنقاذ تكثف، لكن لم يكن يتوقع أحد الكثير إلا أن ملحمة فريق كرة القدم التايلاندي استطاعت أن تجذب الانتباه العالمي حينئذ.
العالم ينتفض
اهتزت المدينة بشدة وأصبح القلق المتزايد حول مصير الفتيان هو الهواء الذي يتنفسه الناس هناك. تستطيع أن ترى المدرسة التي تضم ستة من الفتيان وهي تدعو كل صباح دعوات جماعية حتى يتمكنوا من رؤية أصدقائهم مرة أخرى. ولم يكن الأمر مختلفًا حول العالم كله، كان الجميع يدعو بلغته ومعتقداته وأفكاره فقط من أجل سلامة الفتيان.
بفضل اثنين من خبراء الكهوف في المنطقة وهما السيد «لاك» والسيد «أنسورث» تفهمت الحكومة أن هناك حاجة ماسة إلى غواصين متخصصين لهذه المهمة بالذات. وقد كان، وتمكنت أخيرًا فرق الإنقاذ من تجاوز تقاطع تي والعثور على حبل السلامة الذي استخدمه لحسن الحظ المدرب «أيك» أثناء محاولته إيجاد طريقة للخروج من الكهف.
حسنًا لقد تأكدوا أن الفتيان عند نقطة «Nern Nom Sao» لكن لم يكن لديهم معدات الغوص اللازمة للمضي قدمًا أكثر من حوالي 200 متر بعد تقاطع تي. لم تكن المعدات هي الأزمة فقط، بل إن الظلام الدامس والأمطار التي لا تنتهي كانت تقف لهم بالمرصاد، فكلما حاولوا التقدم كانت المياه تدفعهم للوراء.
بدأت الاتصالات الرسمية بالفعل حيث وصل فريق بحث وإنقاذ أمريكي بناء على طلب من الحكومة التايلاندية. كما وصلت أيضًا معدات الكشف عن الناجين رفقة عدد من الفرق دولية مثل فرقة من الأسترالية الفيدرالية ومجموعة من الغواصين الصينيين وغيرها.
وبناء على توصية أنسورث طلبت الحكومة التايلاندية مساعدة ثلاثة من أفضل غواصي الكهوف في العالم، وهم «جون فولانثين» و«ريك ستانتون» و«روبرت هاربر». لم يكن هؤلاء الثلاثة مجرد أشخاص عاديين بل هم خبراء ينسب لهم العديد من البطولات في إنقاذ المحتجزين في الكهوف حول العالم.
داخل الكهف مرة أخرى: المعلم والراهب والفتيان
استسلم الفتيان للبقاء فوق المنحدر الرملي في «Nern Nom Sao». كان الظلام لا ينتهي داخل الكهف رغمًا عن الكشافات التي كانت بحوزتهم، إلا أنهم كانوا حريصين على الحفاظ على البطاريات بشكل كبير لدرجة أنهم أبقوا معظمها مغلقًا. على الرغم من أنهم تابعوا الوقت عبر ساعة اليد إلا أن الفرق بين النهار والليل قد فقد معناه تمامًا.
لم يمتلك الفتيان أي شيء للأكل أو حتى الكثير للقيام به لتشتيت انتباههم عن آلام الجوع. انشغل الفتيان في لعب الداما وبذلوا قصارى جهدهم لعدم التفكير في الطعام، لكن في الأخير استسلم الجميع للبكاء إلا المدرب «أيك» لم يبكِ. فهو قد بكى في طفولته بالفعل إلى أن عرف كيف يتوقف البكاء.
في عمر العاشرة اجتاح المرض عائلة أيك حيث مرض شقيقه البالغ من العمر 7 سنوات وتوفي، ثم أخوه وأمه وأخيراً والده. تلك التجربة أثرت في طفولة أيك الذي وجد ملاذه كراهب مبتدئ في الدير البوذي.
قاد أيك الأولاد نحو صلاة أمضى سنوات في تعلمها. تلك الصلاة التي تعتمد على التأمل ساعدت في الحفاظ على هدوء المجموعة وتركيزها بدلًا من مشاعر الذعر والفزع مع مرور كل ساعة وانتفاء وجود أي علامة نحو النجاة.
أخبر المدرب فريقه أنه بدلًا من مجرد الجلوس بشكل سلبي على المنحدر، سيقومون بالحفر داخل الكهف لمحاولة العثور على طريق الهروب.
استحسن الفتيان الفكرة أو بمعنى آخر أصبح للوقت قيمة وأمل. في النهاية، كان لديهم نفق طوله 3 إلى 4 أمتار. مع توالي الأيام أصبح الحفر أكثر إرهاقًا لأن الأولاد لم يكن لديهم طعام، وفي اليوم الثاني أو الثالث داخل الكهف تحول الفتيان إلى أقصى مراحل الضعف؛ لأن الحفر يستهلك طاقة كبيرة لا يتم تجديدها.
لم يكن الماء وحده هو العدو داخل الكهف فالهواء أيضًا حيث بدأ مستوى الأكسجين في الكهف في الانخفاض، في حين أن كمية ثاني أكسيد الكربون قد بدأت في الارتفاع. هذا العامل تحديدًا هدد حياتهم في النهاية.
لم يكن يعرف أحد في الخارج ما إذا كان الأولاد أحياء أم لا، لكن هناك رجلًا وحيدًا تحدث وكأنه يعلم. إنه راهب بوذي بدرجة معلم ذائع الصيت يقال إنه قضى ثلاثة أشهر داخل الكهوف دون أن يكلم أحدًا، ويؤكد البعض أنه التناسخ الروحي لعامل الإسطبل الفقير حبيب الأميرة النائمة ولذا هو يعلم ثنايا جبل حبيبته جيدًا.
أتي الراهب المعلم إلى الكهف دون طلب من أحد، وصلى من أجل الأطفال، وأكد أنهم جميعًا بخير وسيخرجون في القريب العاجل.
إنهم أحياء ولكن كيف سيخرجون
في الساعات الأولى من الخميس، 28 يونيو، بدأت مضخات المياه في الوصول إلى الموقع وكانت الفكرة هي ضخ المياه، لجعلها أسهل للغواصين للدخول والبحث عن الفتيان. لكن تحولت الفكرة نحو إفراغ الكهف من الماء.
تم جلب جيولوجيين أيضًا من قبل الحكومة التايلاندية لمعرفة كيف كان الماء يدخل ويخرج من الكهف. ثم بدا للجميع أهمية دراسة المداخل المحتملة للوصول للفتيان بخلاف المدخل الرئيسي للكهف. هنا ظهر مجموعة من جامعي عش الطيور الذين يبحثون عن أعشاش الطيور الصالحة للأكل ويبيعونها بعد ذلك للحصول على الربح. استخدم هؤلاء مهاراتهم في التسلق لدراسة الكهف من كل جوانبه.
بفضل ثلاث مضخات كبيرة أحضرتها شركة «Panom» والتي كانت تعمل على مدى اليوم دون انقطاع تم الحفاظ على منسوب المياه داخل الكهف. لكن كان قد مر تسعة أيام بالفعل على احتجاز الفتيان. أصبح الوقت هامًّا للغاية.
وصل أخيرًا الغواصانن ستانتون وفولانثين إلى «Nern Nom Sao» بعد ساعات من الغوص. صاح فولانثين في عمق الكهف: «كم منكم؟». رد الفتى أدول بإنجليزيته المتفردة: «ثلاثة عشر».
تتبع الغواصان الصوت وظهرا بالفعل أخيرًا أمام الفتيان. عرف الفتيان أنهم أبطال قاوموا الجوع لمدة عشرة أيام. كانت صيحات الجوع منطقية وتعامل معها الغواصان بأنهم فقط يحتاجون للوقت للخروج من هناك.
عرف الغواصان البريطانيان أفضل من أي شخص آخر ما مدى صعوبة إخراج هؤلاء الأولاد. كانت الطبيعة ضدهم، فقد بدأ موسم الأمطار ومن غير المرجح أن تتحسن تلك الظروف الخطيرة. كانت الإصابات الخطرة هي النتيجة الحتمية التي سيتعرض لها الفتيان ومدربهم إذا كان عليهم أن يخرجوا عبر تلك الممرات المغمورة داخل الكهوف. كما أنه لم يكن الفتيان على ما يرام. حيث بدأ البعض يصاب بأمراض الرئة من البرد والرطوبة داخل الكهف.
بدأ العالم في الاحتفال بعد انتشار الخبر، لكن كان السؤال الأكثر وضوحًا كيف يخرج الأولاد.
على الرغم من أن المضخات لم تتوقف عن العمل ومستوى المياه في الكهف أصبح ثابتًا إلا أنه لا زال مغمورًا بالمياه. كانت الخيارات الرئيسية للإنقاذ هي أن يقوم الأولاد بالسباحة وهو ما لم يستطع الأولاد فعله، أو انتظار توقف الأمطار وهو ما يعني الانتظار لشهور.
الخروج إلى الشمس
بعد مرور أسبوعين أعلنت أخيرًا السلطات التايلاندية أنها ستسحب الصبية الآن. حيث أخبر السكان المحليون قوات البحرية التايلاندية أنه بحلول حوالي 10 يوليو/تموز، سيتم إغراق الكهف بالكامل.
أُعطي كل صبي قناع هواء كامل الوجه للتأكد من أنه يستطيع التنفس، وتم شبك كل فتى بغواص محترف. عند المقاطع الضيقة، اضطر رجال الإنقاذ من الغواصين إلى فك خزانات الهواء الخاصة بهم. وتم تخدير الفتية وكانوا شبه مدركين فقط خلال الرحلة لضمان عدم ذعرهم ثم بدأت المرحلة الثانية من الإنقاذ.
عند نقطة محددة في الكهف تم وضع كل صبي في نقالة وحمله فريق من خمسة رجال على الأقل. في بعض المناطق الصخرية شكل فريق الإنقاذ سلسلة بشرية يمررون الأولاد يدًا بيد، بينما في مناطق أخرى قاموا بإزاحتهم فوق الأنابيب التي تضخ المياه.
واحدًا تلو الآخر تم إخراج الخنازير البرية من ظلام ثام لوانغ. تم إعطاؤهم الأكسجين قبل نقلهم بسرعة في سيارات الإسعاف إلى مستشفى في مدينة شيانغ راي لإنقاذهم جميعًا.
لم تكن قصة فتيان الكهف تلك مجرد قصة فريق من لاعبي كرة قدم تم احتجازهم في ظروف غامضة، بل هي قصة شارك خلالها العالم أجمع لحظات من تقدير قيمة الإنسان وحياته أمام لحظات الحرب والوحشية التي تسيطر على العالم أحيان كثيرة.
أحداث المقال مأخوذة عن كتاب «The Great Cave Rescue»، والذي يتناول القصة الاستثنائية لفريق كرة القدم الأولاد التايلانديين المحاصرين في كهف ثام لوانغ للكاتب «جيمس ماسولا».