حدود فلسطين الغربية مع مصر تمثل قطاعًا مهمًا ومؤثرًا في الأمن الإسرائيلي، لكن هذه الحدود الطويلة لا تشكل خطرًا على الدولة العبرية، بقدر ما يفرضه شريط حدودي ضئيل مع قطاع غزة.

فهذا الأخير يمثل صداعًا مزمنًا ومعضلة استراتيجية فريدة لجيش عتي التسليح والإمكانات، يقف شبه عاجز أمام قوة صغيرة في كل شيء. فمنذ تولي حماس السلطة في غزة والاشتباكات العنيفة مستمرة بين الجيش العبري والمقاومة الغزاوية الحمساوية، ولعدة مرات تطورت الاشتباكات إلى حرب ضروس انخرطت فيها كل عناصر جيش الدفاع الإسرائيلي ضد كل فصائل المقاومة الفلسطينية.

وعلى هذا الشريط الضيق من الأراضي المحتجزة بين مصر المتجهمة وإسرائيل المتنمرة، جرت ثلاث حروب كبيرة؛ أطلقت عليها إسرائيل أسماء دالة على العنف، «الرصاص المصبوب» عام 2009، و«عمود السحاب» عام 2012، و«الجرف الصامد» في عام 2014. ورغم الوحشية والدمار الذي ارتكبته القوات الإسرائيلية ضد المقاومة والسكان العزل، لم تستطع التخلص من حماس أو حتى إزاحتها عن السلطة في القطاع الضيق.

ويدعي بعض المحللين أن إسرائيل لا تريد التخلص من حماس دون أن تجد لها بديلًا أولًا، ولا تريد أيضًا أن تحكم القطاع المكتظ بالسكان بنفسها، لذلك فهي تحاول أن تكسر عظام حماس دون أن يصل الأمر إلى قتلها. ولأهمية هذا الموضوع لإسرائيل وحليفتها الأولى (أمريكا) أفردت له أكبر مؤسسة يهودية للدراسات في الولايات المتحدة، مؤسسة «راند»، مجموعة من كبار محلليها المخضرمين لكتابة تقرير للتعرف على ما حدث في تلك الحروب والدروس المستفادة منها. تحت دعوى أنها وضعت التقرير ليستفيد منه الجيش الأمريكي في حروبه المستقبلية ضد أي قوة صغيرة تعتمد حروب العصابات أو تستخدم الأنفاق.

كانت التحديات التي تواجهها إسرائيل في غزة تتضاعف بسبب عاملين مهمين، ففي حين تعتبر إسرائيل والولايات المتحدة وعدد من حلفائهما؛ حماس منظمة إرهابية، فإن الواقع على الأرض أن حماس تحكم غزة كدولة مستقلة، ما يعطيها قدرات كبرى على الحركة والتعامل مع دول كثيرة تعترف بها كمقاومة فلسطينية شرعية. والعامل الثاني أن غزة من أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكان في العالم، وحماس مكون أساسي من شعب غزة، ولا تسمح المساحة الموجودة بانفصالها عن المناطق السكانية الكثيفة، أو عدم التعامل مع السكان المدنيين، ما يعني أن أي تعامل مسلح بين الجيش الإسرائيلي وحماس سيكون المدنيون طرفًا فيه بحكم واقع المكان وطبيعة الجغرافيا السكانية له.

وعبر التقرير تتبلور مجموعة من الدروس التي تراها المؤسسة مستفادة من التحديات التي تواجهها الجيوش المتقدمة عند مواجهة خصوم ذوي إرادة ومتكيفين ومختلطين بالمكان، وخصوصًا في المناطق الحضرية. ولعل عملية الجرف الصامد تعطي المثال الأكبر، كونها استمرت واحدًا وخمسين يومًا متتالية. وكان الدرس الأول هو القيود التي واجهتها القوة الجوية للجيش العبري في العمل فوق القطاع.

كانت إسرائيل مأخوذة بما أسماه المستشار السابق بوزارة الخارجية الأمريكية «إليوت كوهين» بـ«سحر القوة الجوية»، فاستنادًا إلى التجربة الأمريكية في حرب عاصفة الصحراء 1994، أكد كوهين أن القوة الجوية تبدو وكأنها توفر حلًا سحريًا استراتيجيًا، لكن الحقيقة أن هذا وهم.

فتأثيرات سلاح الجو محدودة، ولا يمكن أن تكون بديلًا للحروب الفوضوية والمتوحشة. وهذا ما اكتشفته إسرائيل جليًا في حرب عمود السحاب عام 2012. فثمانية أيام من الضربات الجوية العنيفة، بدا وكأنها قضت على قدرة حماس على إطلاق الصواريخ أو حتى إضعفاها بشدة.

لكن هذا الاستنتاج تبين خطؤه حسبما أكد تقرير راند، فبينما استهدف الطيران الإسرائيلي بنجاح كبار قادة حماس ومواقع الإمداد، لم يشكل ذلك أي سبب في قصر مدة الحرب أو في الهدوء الهش الذي أعقبها. فوقف إطلاق النار وقتها كان مرتبطًا أكثر بنجاح الدبلوماسية المصرية في عهد الرئيس السابق محمد مرسي. لذلك عندما تغيرت الظروف السياسية في مصر في العامين التاليين، اندلعت حرب أخرى في غزة، ولم تشكل الضربة الجوية السابقة أي تغيير يذكر لدى حماس.

وفي عام 2014 أجهزت عملية أو حرب الجرف الصامد على ما تبقى من وهم القوة المطلقة لسلاح الطيران، فخلال المرحلة الأولى من الحملة حاولت القوات الجوية ولمدة تسعة أيام القضاء على التهديد الصاروخي المنطلق من غزة، لكنها منيت بفشل ذريع، رغم قيامها بحوالي 1700 غارة وضربة جوية.

كما فشلت في مواجهة التكتيكات الجديدة التي اتبعتها حماس، مثل حفر الأنفاق إلى البلدات الإسرائيلية المتاخمة للقطاع، لأن الأنفاق داخل الأرض وفتحاتها كانت مخفية عن عيون الطيران فلم تكتشف من الجو. وفي النهاية أخفقت القوة الجوية الكبيرة في حسم الصراع، وتعلم الجيش الإسرائيلي بطريقة صعبة، أنه يحتاج إلى تدمير بعض الأهداف على الأرض بريًا بالحرب التقليدية الملتحمة.

تتوالى الدروس من حروب غزة، فالعمليات البرية في المناطق الحضرية الفلسطينية تكون دائمًا دموية للجانبين، مع تأكيد التقرير أن استخدام المركبات المدرعة المزودة بحماية فعالة سمحت للقوات البرية بالمناورة داخل غزة دون تكبد خسائر كبيرة، والعسكريون لا يستطيعون الفرار بجرائمهم ضد المدنيين بسبب انفضاح ما يحدث إعلاميًا، وانزلاق المناطق الحضرية داخل إسرائيل في الحرب لا يمكن تجنبه؛ فنظام القبة الحديدية للدفاع ضد الصواريخ لم يتمكن حتى الآن من تحقيق النتائج المرجوة، والدرس الأخير أن النجاح في المعركة لا يعني النصر الدائم؛ فالواقع أن الحروب الإسرائيلية على غزة لم تستطع سوى شراء بعض الهدوء النسبي بثمن باهظ، لكن الحل الدائم بعيد المنال.

كانت تلك الدروس لها ما يماثلها من أمثلة في الذاكرة الاستراتيجية الأمريكية، فالعمليات في العراق وأفغانستان وليبيا، وقبلها في الصومال وكثير من العمليات المحدودة التي خاضتها الولايات المتحدة، كانت حاضرة عند كل استدلال. بينما التوصيات لا تختلف كثيرًا عن نتائج الدروس، فيجب على الجيش الأمريكي الاستثمار في أنظمة الحماية الفعالة والعربات الكثيفة التدريع لحماية الجنود في المناطق الحضرية، كما يجب عليه أن يوسع تدريباته على مواجهة عدو يبرز من الأنفاق، كما يجب على الجيش تطوير قدراته الصاروخية والدفاعية ضد الصواريخ الميدانية. وأخيرًا تعلم كيفية التغلب على القوانين التي تعوق تنفيذ الحملات الموسعة داخل المناطق المدنية.

ويرسل الخبراء في النهاية رسالتهم الحقيقية، ومفادها أن الولايات المتحدة في سعيها الدائم لتغيير الأنظمة المناهضة لها حول العالم، خاصة في الشرق الأوسط، يجب أن تتعلم من الدروس الإسرائيلية في غزة. لتستطيع كسر العظام دون أن تمتلئ المشافي بالضحايا المدنيين، أو تثير عليها ردود فعل من المجتمع المدني الغربي ومنظمات حقوق الإنسان، وهو التحدي الذي يجب عليها معرفته.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.