كاسيني: ارقدي بسلام في أجواء زحل
لكل بدايةٍ نهاية.. هذه هي سنة الكون والحياة. وها قد آن للرحلة الفضائية المميزة ( كاسيني )، والتي تعلَّقت بها أنظار الكثير من علماء الفضاء، والشغوفين به، على مدى ما يقارب العشرين عامًا، آن لها أن تصل إلى محطتها الأخيرة، فتذوب في أجواء عملاق المجموعة الشمسية، زحل، الذي جابت فضاءَه، وأقمارَه المثيرة لأكثر من 13 عامًا.
سجل حافل بالإنجازات
حياة عملية حافلة خاضتها كاسيني، لتستحق عليها تلك الراحة الأبدية. فمنذ انطلاقها في 15 أكتوبر 1997 من ولاية فلوريدا الأمريكية، قطعت حوالي 8 بلايين كيلومتر في فضاء مجموعتنا الشمسية. نفذت خلالها 2.5 مليون أمر وصلها، والتقطت ما يقارب نصف مليون صورة للفضاء، وأرسلت إلى الأرض أكثر من 600 جيجابايت من البيانات. هذه الخامات المعلوماتية الفضائية الثمينة التي أهدتْها كاسيني إلى العلماء والباحثين أثمرت ما يقارب الـ 4 آلاف ورقة علمية منشورة. ومن بين حوالي 300 دورة فضائية خاضتها الرحلة على مدى عمرها، فإنها اختصَّت أقمار زحل بأكثر من نصفها، خاصة أكبرها ( تيتان ) الذي سبرت أغواره القدرات الاستثنائية لمسبار الفضاء الأوروبي هيوجينز Huygens، الذي حملته كاسيني، لكي يدخل تاريخ الإنجازات الفضائية من أوسع أبوابه، بهبوطه الناجح في 14 يناير 2005 على سطح هذا القمر العملاق، لتنجح البشرية للمرة الأولى – فيما تعرف من تاريخها – في إيصال مسبارٍ فضائي إلى أحد أجرام الجزء الأقصى من المجموعة الشمسية.
وخلال 72 دقيقة استمر فيها الاتصال بين المسبار هويجينز، والمركبة كاسيني، استطاع مدَّنا بالكثير من المعلومات الحيوية عن تيتان، بدءًا بمحتويات غلافه الجوي الذي أثبتت تحليلاته غلبة النيتروجين والميثان عليه، ورجحت وجود كميات من الميثان متجمدة تحت سطحه. وقياس ضغطه الجوي، والذي يقارب مرة ونصف الضغط الجوى في الأرض. ومرورًا بقياس حرارة الجو فيه، والتي تراوحت بين 87 و 203 درجات سيليزية تحت الصفر. وليس انتهاءً – أثناء رحلة هبوطه إلى تيتان التي امتدت لساعتين ونصف – بتصوير ما يُعتقد أنه آثارٌ لأنهار وبحيراتٍ جافة، على سطحه.
27 دولة، وأكثر من 5 آلاف مساهم:
رغم أن لوكالة الفضاء الأمريكية ( ناسا ) الدور الأبرز في مشروع كاسيني، فإنه ما كان لها أن تتم لولا المساهمة الفعالة من وكالة الفضاء الأوروبية، ووكالة الفضاء الإيطالية، تمويلًا، ومشاركةً تقنيةً.
وقد قُدِّر عدد من ساهموا بأدوارٍ في مسار هذه الرحلة بأكثر من 5 آلاف فرد، من 27 دولة. وقد بلغ إجمالي تكلفتها حوالي 4 مليارات دولار أمريكي، منها حوالي 2.5 مليار دولار لإعداد الأجهزة والمركبات المستخدمة، وكذلك تكلفة الإطلاق الفضائي. والباقي – حوالي 1.5 مليار دولار- كان تكلفة متابعة الرحلة، والتحكم فيها، واستقبال وإرسال البيانات، على مدى عشرين عامًا.
أهم أحداث الرحلة:
بدأت رحلة الأعوام السبعة للوصول إلى زحل، بالإطلاق الفضائي الناجح في 15 أكتوبر 1997، من قاعدة كيب كانافرال الفضائية في ولاية فلوريدا الأمريكية، لتندفع المركبة كاسيني Cassini orbiter مقترنًا بها المسبار هيوجينز العبقري نحو هدفها عبر فضاء المجموعة الشمسية، وعلى متنها 12 جهازًا علميًا صممت على أحدث تقنيات زمنها، لتلائم المهمة البعيدة. وتنوَّعت مهامها بين تحليل الغازات، والجزيئات العالقة، والمجالات المغناطيسية والكهرو-مغناطيسية، وجمع وتحليل وإرسال البيانات المتنوعة… إلخ.
في 25 أبريل 1998، وصلت كاسيني إلى أقرب نقطة من كوكب الزهرة (على بعد أقل من 300 كيلومتر فقط من سطحه) لتستفيد من الجاذبية في اكتساب المزيد من السرعة، لتساعدها في استكمال الرحلة الطويلة إلى زحل. وبعد دورة كاملة حول الشمس، عادت لتقترب مجددًا من الزهرة في يونيو 1999، للاستفادة مجددًا من دفعة الجاذبية.
بعدها بشهرين (أغسطس 1999) دارت كاسيني قريبًا من قمرنا بحوالي ألف كيلومتر، لتكون في أدنى نقطة لها من كوكب الأرض. وهنا اكتسبت دفعةً جديدة من الجاذبية، زادت سرعتها بأكثر من 5 كم في الثانية.
وبين ديسمبر 1999 وأبريل 2000، عبرت كاسيني حزام الكويكبات الشهير في منتصف المجموعة الشمسية، لتكون سابع مركبة فضائية تنفذ من أقطاره. وقد قامت خلال مرورها بتحليل غباره الفضائي، مضبفة بياناتٍ جديدة مهمة إلى رصيدنا العلمي عنه.
وقبل نهاية عام 2000 بيومين كان الموعد مع عملاق كواكب المجموعة الشمسية.. المشتري. حيث التقت كاسيني المركبة الفضائية جاليليو أثناء دورانها حول المشتري. وحققت أدنى اقترابٍ لها من سطح المشتري على بعد حوالي 10 ملايين كيلومتر.
بعدها بعامين، في 31 أكتوبر 2002، أرسلت كاسيني أول صورة لها لكوكب زحل، بحلقاته اللطيفة المحيطة به، من مسافة حوالي 300 مليون كيلومتر من زحل.. أي ما يوازي ضعف المسافة بين الأرض والشمس. لتنجح بعدها بعامين (أبريل 2004) في تسجيل التحام عاصفتين على زحل في عاصفة واحدة ضخمة، وهذه ثاني مرة في التاريخ تُسجَّل فيها هذه الظاهرة.
في 31 مايو 2004، نجحت كاميراتها الدقيقة في اكتشاف قمرين صغيرين لزحل، تم تسميتهما ميثون وبالين، وقطرهما على التوالي 3 و5 كيلومترات. وبذلك وصل عدد أقماره المكتشفة إلى 60. وفي يونيو 2004، اقتربت جدًا من سطح القمر فيب (2000 كم)، وكان هذا فريدًا مقارنة بالرحلة فوياجر Voyager والتي لم يتجاوز اقترابها منه 2.2 مليون كم.
وفي 30 يونيو 2004، كانت كاسيني أول مركبة فضائية تدخل مدار زحل. وفي أكتوبر 2004، اقتربت بحوالي 2000 كم من القمر العملاق تيتان. لتطلق في 23 ديسمبر 2004 المسبار هيوجينز، ليبدأ رحلة الـ 3 الأسابيع للهبوط على سطح تيتان، والذي حدث كما ذكرنا في 14 يناير 2005، لينجح بعدها في إبراز الكثير من التشابهات بينه وبين الأرض.
في 2005، جالتْ كاسيني حول القمر إنكليدس، لتكتشف بعض الاكتشافات المثيرة على سطحه، كالأدلة على وجود خزانات مياه جوفية. وفي 2006، تم اكتشاف بحيرة على سطح تيتان، وفي آخر العام تم تصوير حلقات جديدة لم تكن مرئية من قبل حول زحل.
وفي عامي 2007 و2008، ركزت كاسيني على قمري زحل، لابيتوس وإنكليدس، لتحقق في أكتوبر 2008 أقصى اقتراب من الأخير بحوالي 25 كم فقط. وهو أقصى اقتراب في تاريخ البشرية من أي من أقمار زحل. ومكنها هذا من إجراء تحليلات مكثفة لأجوائه.
في مارس 2009، اكتشفت كاسيني أصغر قمر لزحل، وقطره حوالي 300 متر فقط. وفي يوليو 2009 تم اكتشاف الأمونيا بأجواء إنكليدس. وفي 2 فبراير 2010، أعلنت ناسا مدَّ برنامج كاسيني سبعة أعوام إضافية إلى 2017.
في نوفمبر 2010، اكتشفت كاسيني آثارًا للأكسجين خارج القمر ريا، لتكتشف نفس الأمر حول القمر ديون في مارس 2012. وفي 18 يوليو 2013، التقطت كاميرا كاسيني أبعد صورة لها لكوكب الأرض، وفي أكتوبر التقطت صورة عُلوية مميزة لزحل وحلقاته. وفي مارس 2014، كان الموعد مع التحليق رقم 100 بالقرب من تيتان.
وفي 31 مايو 2015، كانت اللقطة الوداعية لقمر هايبريون بندوبه الشهيرة، ثم القمر ديون في أغسطس 2015، ثم إنكليدس في ديسمبر 2015. وفي أبريل 2016، تم اكتشاف غبار فضائي حول زحل، مصدره من خارج المجموعة الشمسية، وفي نفس الشهر تم اكتشاف بحر من الميثان على سطح تيتان.
في أبريل 2017، حصلت كاسيني على صورة قريبة للقمر أطلس الشبيه بالطبق. وفي 12 أبريل، كان الموعد مع صورة جميلة للأرض بجوار حلقات زحل.. صورة ملتَقطَةٌ من مسافة مليار و400 مليون كم. وفي آخر الشهر، كان الجولة الأخيرة قرب تيتان، ثم انطلقت كاسيني لتدور قريبًا من زحل، بينه وبين أقرب حلقاته منه.
وفي 23 مايو، نجحت كاسيني في مراقبة الانقلاب الشمسي في صيف زحل، والذي يحدث كل 15 عاما أرضيا.
في 15 سبتمبر 2017..فصل الخطاب في حياة كاسيني، عندما ستحترق وتتبخر في الغلاف الجوي لزحل.
وماذا بعد؟
هناك بنك واسع للأهداف للمهمات التالية لكاسيني. فقمرا زحل تيتان وإنكليدس يحتاجان للمزيد، وكذلك الأجواء الخارجية لزحل، والتي كانت المثوى الأخير لكاسيني. وكوكبا أورانوس ونبتون واللذين لم يقترب منهما سوى المهمة فوياجر 1986- 1989، ما زالا مليئين بالأسرار.
وما زال أمامنا في الآفاق الكثير من الآيات للناظرين.