فيلم «قضية رقم 23»: التعرية والسباب قبل المصالحة
قد تفكر في البداية أنك تشاهد فيلما عن مشاجرة اعتيادية بين رجلين، ولكنك وبمرور الدقائق ستشعر بما هو أكبر من ذلك. هذه المشاجرة البسيطة تكفي لبدء حرب أهلية، كما تكفي لطرح أسئلة عن المصالحة وطي الصفحة، مشاجرة بسيطة تكفي لتعرية مجتمع بأكمله، كما تكفي لصنع فيلم ممتع ومؤثر، هذا درس سينمائي/إنساني قادم من لبنان.
تعرفت على «زياد دويري» من خلال فيلمه الأول «بيروت الغربية»، الذي كتبه وأخرجه عام 1998 عقب عمله كمساعد تصوير لبضع سنين في الأفلام الأولى للمخرج الأمريكي «كوينتن تارانتينو»، كان «بيروت الغربية» فيلما شخصيا للغاية عن زياد، فقد روى من خلاله حكايته كطفل نشأ وسط أجواء الحرب الأهلية اللبنانية، حيث يسود الانقسام شوارع بيروت، ويجتمع الجميع في بيت «أم وليد» بين فتيات الهوى.
بهذه البداية الدرامية الشخصية ذات اللمحة الساخرة صنع زياد لنفسه طريقاً وطريقة، كان فيلما شخصيا، ولكنه كان إنسانيا ومؤثرا لدرجة أنه ظل عالقاً بذهني طوال كل هذه السنين، وخصوصا عقب مرورنا في مصر بلحظات استقطاب شعبي وكراهية دفينة مشابهة، والآن وبعد ما يقرب من العشرين عاما يعود زياد دويري مرة أخرى لسرد حكاية الحرب الأهلية التي انتهت دون أن تنتهي.
سياق إنساني: كراهية تحت الرماد
أن تشعر أنك متصل بما تشاهده، أن تتفهم ما يمر به أبطال الحكاية، وأن تشعر في بعض الأحيان أنك متورط فيما هم فيه من صراع، هذا هو النجاح الأكبر لفيلم سينمائي. هذا ما يميز كل الأفلام التي تظل عالقة بذاكرتنا، أنها تدور عن مشاعر وتجارب إنسانية يمكن لأي شخص أن يفهمها ويتصل بها، بغض النظر عن جنسية صناعها، لهذا السبب مثلا تنجح حكايات الإيرانيين في الوصول للأوسكار، لهذا السبب أحببنا «بيروت الغربية»، ولهذا السبب كان ترشيح لبنان لفيلم «قضية رقم 23» موفقا لتمثيلها في مسابقة الأوسكار القادمة في فئة أفضل فيلم أجنبي.
اقرأ أيضا:«The Salesman»: كيف تصل حكايات الإيرانيين للأوسكار؟
تدور حكاية فيلم دويري الجديد عن مشاجرة اعتيادية للغاية يمكن أن تحدث كل يوم بين رجلين، ولكنها لا تمر نتيجة رواسب كثيرة ظلت مشتعلة تحت رماد مجتمع تظاهر بأن حربه الأهلية قد انتهت، الفيلم بالأساس كان من الممكن ألا يحدث لو أن البشر يعاملون بعضهم البعض بصفتهم بشرا، لا أكثر ولا أقل، ولكن هذين الرجلين قد حُملا بتصنيفات عدة جعلت من مشاجرتهما البسيطة حادثة وطنية ودينية، فأحدهما لبناني والآخر فلسطيني، أحدهما مسيحي والآخر مسلم، أحدهما منتمٍ لحزب القوات اللبنانية والآخر يحيا في مخيم لاجئين.
قد يختلف وقع هذه التصنيفات على أذنك تبعاً لقدر معرفتك عن تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية، ولكن الخبر الجيد أنك من الممكن أن تشاهد الفيلم دون أن تعرف حرفا واحدا عن هذا البلد وأهله، ولن ينتقص هذا من إحساسك بالتجربة الإنسانية التي يعرضها الفيلم. تستمر المشاجرة في التطور، تستمر الإهانات، تستمر التعرية، ومعها نصل لأنه لا مصالحة قبل المصارحة، ولا سلام اجتماعيا دون أن يسترجع الجميع حقوقهم في التعبير عن معاناتهم.
من منا لن يشعر بتورطه في معضلة تصنيف البشر بديانتهم وجنسياتهم وانتماءاتهم السياسية، زفرات المصريين في قاعات عرض مهرجان الجونة السينمائي أثناء بعض المشاهد الصادمة كانت دليلا على التأثر، بكاء جمهور مهرجان فينسيا كان دليلا آخر.
السباب الحقيقي والإهانات التي تعبر عن كراهيتها دون خجل سقطت كأمطار باردة على مخيلة جمهور الجونة الذي اعتاد على سينما مصرية مصطنعة مخففة وباردة، هؤلاء البشر لا يخفون مشاكلهم بقبلة منسوخة بين رجلي دين، ولا بخطابات شوفينية عن وطن يمنح صكوكه للجنرالات ومن والاهم ويخوّن كل من يخالفهم، هؤلاء بشر لا يخفون مشاعرهم، وهذا فيلم لا يخفي أن أزمة بلاده تكمن في أن من يحكمونها هم في الأساس أمراء الحرب الأهلية.
سينما ممتعة: سرد تشويقي وصورة بيروتية
كتب زياد دويري برفقة زوجته «جويل توما» سيناريو الفيلم الذي اتخذ عنوانا مغايرا بالإنجليزية هو «The Insult» أو الإهانة، اعتمد الزوجان على جر المشاجرة اللفظية التي حدثت بين طوني (ميكانيكي لبناني)، وياسر (مهندس فلسطيني) إلى المحكمة، كتب زياد وجويل، اللذان تربيا بخلفيات متضادة، عما حدث في الحرب الأهلية اللبنانية دفوعات عبر فيها كلا الطرفين عن معاناته، دفوعات اختلط فيها الروائي بالتاريخي، ولكنها في النهاية نجحت في كشف متتالٍ وتدريجي لرحلتي البطلين.
تتكشف الصورة شيئا فشيئا وفي نفس الوقت لا يتركنا زياد بتقنيته الإخراجية المتميزة محاصرين داخل قاعات المحكمة، على العكس تماما فهو يضيف لحبكته ما يجعلنا في حركة دائمة بين شوارع وحارات بيروت، مع حضور دائم للحظات الغروب بأشعة شمس حمراء، يصاحبه في ذلك شريط صوت بديع يجمع بين لحظات كلاسيكية ولحظات ذات إيقاع سريع.
وهكذا بين سرد تشويقي وصورة تحمل كادرات مرتبة بعناية وألوان يغلب عليها الدفء وشريط صوت يفاجئنا طوال لحظات التواءات الحبكة يضع زياد دويري حكايته داخل إطار سينمائي بديع لا يقل بأي حال عن أي إنتاج أمريكي أو أوروبي، يمتع جمهوره في نفس اللحظة التي يطرح فيها أسئلته.
من سجون الاحتلال إلى شاشة السينما
هكذا خرجت كلمات الممثل الفلسطيني المسرحي «كامل الباشا» عقب فوزه بجائزة أفضل ممثل عن دوره في فيلم «قضية رقم 23» ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي العريق. كامل الباشا الذي أسرنا بأدائه الرزين وتجسيده المتقن كان وللمفاجأة يقدم ظهوره الأول في فيلم سينمائي حقيقي.
لم يكن بإمكان حكاية زياد وتقنيته وحدهما أن يصنعا فيلما ناجحا، ولم يكن لكل هذا أن يكتمل إلا بمجموعة من الأداءات التمثيلية المتميزة، فعلى جانب نتابع صراعا بين «عادل كرم» في دور طوني وكمال الباشا في دور ياسر، الرجلان يظهران كنقيضين في البداية، ولكننا نكتشف كم تشابهمها كلما عرفنا أكثر عن حكايتهما.
وعلى جانب آخر نتابع صراعا آخر بين محاميي الطرفين، «كميل سلامة» في دور المحامي الكبير وجدي وهبة، و«دميانة بو عبود» في دور المحامية الشابة الذكية ندين، ومن خلف كل هذا الصراع تظهر زوجتا البطلين كأكثر من يحاول طي صفحات الماضي ومعاملة البشر كبشر دون تصنيف.
يظهر الرجال إذن كذكور متناحرة أنانية، وتظهر النساء في ثوب عقلاني يحاول إيقاف عجلة الكراهية قدر الإمكان، لينتصر الفيلم لشخصياته النسائية الثانوية حتى وهن يدرن في فلك قصة الرجال.
هذا الفريق التمثيلي اللبناني المتميز كان سيفتقد عضوه الفلسطيني الوحيد «كامل الباشا» الذي قضى عامين من عمره في سجون الاحتلال، لولا أن قادته مثابرته ومجهوده وجمهوره الفلسطيني إلي عين زياد دويري، ليصبح كامل بتجسيده لشخصية ياسر سفيرا جديدا لبني وطنه على شاشة السينما، وليطرح علينا سؤالا آخر؛ هو: «يا ترى كم ممثل فلسطيني عظيم آخر لازال في سجون الاحتلال؟»
زياد دويري: الفن والفنان
قبيل عرض فيلم «قضية رقم 23» بأيام قليلة في بيروت تم إلقاء القبض على زياد دويري في لبنان، وتم التحقيق معه متهما بالتطبيع مع العدو الصهيوني، وذلك بسبب قيامه بتصوير بعض من مشاهد فيلمه السابق «الصدمة» في تل أبيب خلال عام 2012، تم إخلاء سبيل زياد عقب ذلك، وبعدها بأيام أتى لزيارة مصر وحضور مهرجان الجونة، حيث حصد جائزة جديدة في حفل الختام، وهي نجمة الجونة الفضية ليحل فيلم «قضية رقم 23» في المركز الثاني في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة بالمهرجان.
قد يكون زياد شخصا مثيرا للجدل، ظهر هذا حتى عقب عرض الفيلم هنا في مصر، تابعت ردود فعل مختلفة لدرجة أن أحد الصحفيين اتهمه بشكل مباشر بأنه منحاز لحزب القوات اللبنانية ضد اللاجئين الفلسطينيين في حكايته!
لكنني مازلت مقتنعا بضرورة فصل تقييمنا للفن عن تقييمنا الشخصي للفنان، وبعيدا عن كل هذا الجدل فقد حضرت تصفيقا مستمرا لدقائق عقب عرض الفيلم، وشاهدت دموعا أيضا، هذا فيلم إنساني مؤثر، يطرح أسئلة أكثر مما يطرح أجوبة، يحتاج لأفق متسع وخيال أكثر من احتياجه لقياس تاريخي دقيق، هذا فيلم يستحق المشاهدة، والنقاش.