لم يبد أن حياتها ستعد بالكثير. فعلى النقيض من عائلة هابارد التي حاولت توفير حياة طبيعية نسبيًا لابنتهم التي أصابتها الحمى بالصمم، حكمت «أنا – Anna» على ابنتها بحياة خادمة بعد أن تبين أن مشاكل طفولتها –التي لم يكن لها أي دخل بها- لن تسمح لها بحياة الفتيات الطبيعية آنذاك، والتي يجب أن تنتهي بالزواج.

كانت تلك هي البداية غير المبشرة لحياة السيدة التي ستعيش لتصبح من مؤسسي علم الفلك. في الـ16 من مارس/ آذار من عام 1750، ولدت أول امرأة تحصل على الميدالية الذهبية من الجمعية الفلكية الملكية، وهي أعلى أوسمتها، وأول امرأة تحصل على راتب لقاء أبحاثها العلمية في المملكة المتحدة، والثانية في تاريخ العالم.

نتحدث اليوم عن حياة كارولين هيرشيل في ذكرى ميلادها. المرأة التي لم تعرف فقط بأنها الأخت الأصغر للفلكي الشهير «ويليام هيرشل» مكتشف كوكب أورانوس (بمساعدتها)، بل كأحد أهم فلكيي عصرها وأكثرهم تفانيًا وتحديًا للتهميش الذي حكم عليها به من سن الثالثة.


طفولة متعثرة

لم تقتنع الأم بمحاولات زوجها لتوفير تعليم متقدم لأبنائه وبناته. وفي حالة كارولين خاصة، كان التعليم شبه ممنوع. كانت اللحظات التي اقتنصها الأب وابنته لمراقبة الشهب والنجوم كفيلة بأن تظهر أن بداخل الفتاة حبًا عميقًا للسماء وأجرامها. ذلك الحب الذي لم يتبلور حقيقة إلا في كنف أخيها ويليام.

كان الأب بستانيًا قبل أن ينضم كموسيقي –عازف أوبوا على وجه الخصوص- إلى الجيش. رزق «إيزاك هيرشل» وزوجته أنا بعشرة أبناء، توفي منهم أربعة صغارًا، وعاش ستة لعمر الشباب. كانت الثامنة في الترتيب العام طفلة لم يتوقع لها أن تصمد على قيد الحياة. كانت تلك الطفلة تدعى كارولين، ولكن اعتاد الجميع مناداتها باسم «لينا».

https://youtu.be/xIL7BdJk3Uk

أصيبت كارولين في سن الثالثة بالجدري، مما تسبب في تشويه بسيط لعينها اليسرى. في العاشرة، منيت كارولين بالتيفود ليتسبب في قصر قامتها لبقية حياتها، حيث لم يتعد طولها 140 سنتيمترًا. بدا الأمر واضحًا أن كارولين لن تسير مسار الفتيات التقليدي، حيث تجد زيجة مناسبة وتعيش كزوجة وأم[1].

هكذا تقرر أن تصبح الفتاة ذات الحظ العثر خادمة العائلة، عائلة ترأسها أم متسلطة لا تسمح للفتاة بممارسة أي نشاط، ولو ذهني، قد يشغلها عن أعمال المنزل، وأخ أكبر تولى قيادة الأسرة بعد وفاة الأب وقرر أن يذيق الفتاة المزيد من التسلط والإرهاب.

أخ آخر كان قد قرر أن ينفصل عن العائلة ليؤسس حياة مختلفة، اكتشف كوكب أورانوس لاحقًا في طياتها. هرب ويليام من حرب السبع السنوات، التي أدت لاستيلاء الفرنسيين على مدينة هانوفر، حيث عاشت عائلة هيرشيل، متوجهًا نحو إنجلترا. هناك بدأ ويليام مسيرة مهنية ناجحة في الموسيقى، سوف تنضم إليه فيها أخته كارولين لاحقًا.


الحياة تبتسم

عندما بلغت الفتاة سن الـ22، التحقت بأخيها في إنجلترا على الرغم من معارضة أمها الصارمة. كان ويليام بحاجة إلى مساعدة كارولين في أمور منزله، بالإضافة إلى رغبة عميقة في إنقاذها من الأم. ستتطور المساعدة التي ستقدمها كارولين إلى ويليام من مجرد أعمال المنزل إلى الحسابات المعقدة. ذلك بعد أن تنضم إليه في العمل الموسيقي –كسوبرانو ناجحة- ثم يتركانه سويًا من أجل الفلك.

بعد إحياء آخر حفل للأخ والأخت هيرشيل في كنيسة القديسة مارجريت عام 1782، بدأ ويليام العمل بشكل متصل على أبحاثه الفلكية من مراقبة وتصنيع أدوات وإتمام حسابات، ولأن الوقت والجهد لم يسعاه، فقد لجأ للأخت التي طالما عاونته في كل أنشطته.

السير ويليام هيرشل، وكارولين هيرشل. طباعة حجرية ملونة صنعها «A. Diethe»

كان لكارولين تليسكوب خاص أهداه ويليام إليها لتقوم بالمراقبة والتسجيل بنفسها، إلا أن هذا النشاط كان ذا أولوية ثانية بعد مساعدة أخيها في مسحه للسماء بحثًا عن السدم[2].

لم يتوقف الأمر على تسجيلها لوصفه للتكوينات السماوية بتفاصيلها من شكل وموقع وغيره، كان على كارولين أيضًا إتمام عمليات رياضية طويلة جدًا على هذه المعلومات في عالم لم يكن الكمبيوتر فيه يؤدي تلك المهام. رغم تعقيدها واسترسالها، لم تخطئ كارولين مرة في نتائجها.


نضج علمي

كارولين هيرشيل, طباعة حجرية, صور أرشيفية

استمرت حياة كارولين على هذا المنوال تعمل في الظل إلى أن استطاعت اكتشاف أول مذنباتها. كان ذلك بداية شعورها بالنضج كفلكية لا كمجرد مساعدة تقوم بالعمل المعقد المتواري. بلغت كارولين آنذاك الـ36 من العمر، وكان اكتشاف الفلكي لمذنب وقتها بمثابة «طقس عبور» إلى النضج والاستقلال. وفي الواقع كانت كارولين هيرشيل أول امرأة تحقق هذا الطقس.

بناء على ذلك النشاط جذبت كارولين الانتباه لنفسها بشكل أكثر جدية. بدأت كارولين بتقاضي مرتب ثابت من الملك جورج الثالث نظير أعمالها الفلكية كمساعدة لأخيها. رغم البداية المتواضعة ووصمة «المساعدة»، فإن هذا الحدث يسجل في التاريخ كأول سابقة تتقاضى فيه امرأة أجرًا لقاء بحثها العلمي في إنجلترا، والثانية في العالم. كان الحدث جللًا في تاريخ الاعتراف بإسهامات المرأة.

رغم الصعوبات التي واجهتها كارولين بزواج أخيها ثم صدمتها بوفاته بعد سنوات وعودتها إلى هانوفر، فإن الأمر وفر لها الوقت الكافي لتبدأ في الالتفات إلى بحثها الفلكي الخاص بمزيد من التركيز. بشكل عام اكتشفت كارولين بنفسها 14 سديمًا وثمانية مذنبات، ووضعت عدة كاتالوجات للسماء ومحتوياتها من أجرام ونجوم، أضافت فيها حوالي 550 نجمًا لم يكن معروفًا من قبل.

عاشت كارولين حياة تتقاذفها الظروف. ليس للمرء أن يتصور أنها كان بإمكانها تحقيق ما رمت إليه دون بعض الدعم المستتر من والدها في طفولتها والدعم الواضح من أخيها الذي انتشلها من حياة وضعت مقاديرها الأم المستبدة. لم تكن كارولين المساعدة فقط، وإن كان ذلك ليس بالعمل السهل أبدًا، ولم يكن حتى الاعتراف به أمرًا طبيعيًا وقتها بالنسبة لامرأة.

مع ذلك، فإن الأمور التي سجل الزمن لكارولين تحقيقها لأول مرة تشهد كلها بأن الطفلة التي وصمت طوال طفولتها وشبابها كانت فقط تنتظر. كانت تنتظر الفرصة والأداة لتلعب الدور المقدر للتاريخ أن يتذكره لها، المرأة ذات العيون التي تطلعت للسماء.

المراجع
  1. Discoverers of the Universe: William and Caroline Herschel -Michael Hoskin. Chapter 1-4
  2. The Unforgotten Sisters: Female Astronomers and Scientists before Caroline Herschel-Gabriella Bernardi. Chapter 21