كارلو أنشيلوتي: يقولون إن جاتوزو بكى في وداعه
تلك هي الكلمات التي تحدث بها كارلو أنشيلوتي عن نفسه ليوضح مدى قدرته على النجاح رغم العمل في بيئة محفوفة بالمخاطر. يبدو هذا المثال رغم غرابته مناسبًا تمامًا لوصف جزء مهم من مسيرة كارلو.
لا أحد يمتلك سجلًّا تدريبيًّا يقترب حتى من الإيطالي المخضرم من حيث أهمية الأندية التي تولى قيادتها. هذا الرجل تولى أهم وأعرق أندية كرة القدم في الدوريات الخمس الكبرى. رغم كل ذلك يؤكد البعض أن أهم مقومات كارلو التي جعلته مطلوبًا داخل تلك الأندية هي قدرته على التعامل في ظل الأزمات، التي لا تختفي في أندية القمة بأوروبا.
احتلت كرة القدم عقل هذا الرجل لسنوات طويلة قدَّم خلالها أفكارًا واضحة وتعامل خلالها مع الكثير من المتغيرات التي شكلت مسيرته؛ لذا كن على يقين أن كارلو المدرب الهادئ غير المتطلب الذي تعرفه هو نتاج سنوات من متغيرات كرة القدم نفسها.
هل يبدو الكلام مبهمًا بعض الشيء؟ حسنًا، دعنا نعود إلى شمال إيطاليا حيث تبدأ القصة.
كارلو لاعبًا: أكثر من مجرد وظيفة
نشأ كارلو في ريدجولو في قلب شمال إيطاليا. وتلقى تربية ريفية تقليدية، حيث كان يعمل بشكل جاد ومنضبط في المزرعة مع والده وشقيقه منذ سن مبكرة؛ لذا تشبث كارلو بكرة القدم لأنها ببساطة تقدم له فرصة حقيقية نحو حياة أفضل.
تدرج رفقة شباب ريدجولو، وكان أهم ما يميزه الجدية الواضحة التي ذهبت به إلى صفوف بارما وهو ما زال مراهقًا. تلقى صدمة بلا شك عندما انتقل من بلدة ريفية هادئة إلى المدينة الصاخبة، لكنه لم يملك إلا حلًّا وحيدًا وهو أن يتكيف.
هكذا كانت البداية إذًا، فهذا الشاب الذي قرر ألا يعود للقرية كان عليه أن يخلص لكرة القدم كحل وحيد، وكان من المنطقي في المقابل أن تعطيه كرة القدم أكثر مما أعطت غيره.
أصبح كارلو أحد أهم لاعبي جيله. انتقل إلى روما حيث فاز بالسكوديتو وأربعة كؤوس محلية، ثم أصبح جزءًا من فريق ميلان ساكي التاريخي، وتوج ببطولتي دوري أبطال أوروبا، حتى باغتته الإصابة وأنهت مشواره مع كرة القدم في الثالثة والثلاثين.
هكذا كان أنشيلوتي لاعبًا، رجلًا اجتهد حتى أصبح الأفضل والأهم، ثم قرر ألا يترك الملعب بعد الاعتزال، حيث وجد ضالته في اتباع مسار معلمه.
كارلو مدربًا: يبدو أن الاجتهاد ليس كافيًا
بدأ كارلو مدربًا مساعدًا لساكي خلال حقبة تدريب الأخير للمنتخب الإيطالي. وكان وفيًّا لأفكار ساكي لكن دون التقيد بها. فساكي كان يرى أن الجميع أدوات في يد المخرج الأساسي للعرض، المدرب نفسه، وربما كانت تلك أحد أهم الأفكار التي جعلت عمر ساكي قصيرًا كمدرب للفرق الكبرى.
تخبرنا مسيرة أنشيلوتي أنه لم يتقيد بتلك الفكرة على الإطلاق، لكن في كل الأحوال أعده ساكي جيدًا وقرر الرجل أن يتولى مهمة الرجل الأول رفقة فريق ريجيانا، حيث ساعدهم في الصعود إلى دوري الدرجة الأولى.
وضع فريق بارما أنشيلوتي على قمة الإدارة الفنية. فريق شاب مليء بالمواهب مثل بوفون ونيستا وبقيادة كارلو قدَّم أداءً جيدًا واقترب كثيرًا من تحقيق الألقاب لكن دون أن يدرك النجاح، حيث احتل المركز الثاني خلف يوفنتوس في سباق الدوري.
يبدو أن هذا المدرب الشاب قادر على تحقيق النجاح، وهو ما التقطه فريق يوفنتوس على الفور. أصبح أنشيلوتي مدرب اليوفي لكن ربما كونه لاعبًا مهمًّا في تاريخ الميلان القريب، فقد خلق ذلك عداوة مسبقة بينه وبين جماهير اليوفنتوس قبل حتى أن يتولى الرجل قيادة الفريق.
رفع التراس اليوفنتوس لافتة كتب عليها «الخنازير لا يمكنها الإدارة»، في إشارة إلى نشأته الريفية. كان كارلو يحتاج الدعم فقط في بداية مشواره، وهو ما لم يتلقه قط، ولذا لم ينجح حتى في أن يحقق لقب الدوري مع اليوفنتوس، فكان الفراق المنطقي.
اكتسب الرجل سمعة كونه مدربًا جيدًا، لكنه لا يحقق ألقابًا. وهنا تحديدًا برز الرجل الأهم في حياة أنشيلوتي، الرجل الذي عرف جيدًا أنه الوحيد الذي يستطيع أن يقدم الدعم لأنشيولتي، بل إنه سيجعل منه رجل العائلة، ومن غيره: «سيلفيو بيرلسكوني».
كارلو ميلان: رجل العائلة
كانت علاقة كارلو مع بيرلسكوني هي حجر الأساس لفترة ثماني سنوات مستقرة مع الميلان. كان أنشيلوتي رجل العائلة المخلص، حيث يحظى بشعبية كبيرة بين اللاعبين، حتى إنه يقال إن جاتوزو الرجل العنيف من بين جميع اللاعبين بكى عندما أعلن أنشيلوتي أنه سيغادر الفريق.
هنا تكوَّنت شخصية كارلو المدرب الذي يجيد التعامل مع جنون كرة القدم. وكان الجنون متمثلًا في بيرلسكوني الذي كان يأتي بصفقات لا يعلم عنها كارلو شيئًا، ثم يقرر بيع لاعب ما قبل نهاية الموسم حتى إن بيكهام تواصل مع أنشيلوتي قبل مجيئه للميلان ليتأكد إذا ما كان الرجل يحتاجه في الفريق أم لا.
هل كان أنشيلوتي يحتاج لبيكهام؟ أغلب الظن لا. هل يمكن له أن يقنع بيرلسكوني أنه لا يحتاج لوجود صاحب الوجه الملائكي في صفوف الميلان؟ من المؤكد لا. فتواجد بيكهام لا علاقة له بكرة القدم.
استطاع كارلو البقاء مع بيرلسكوني لثماني سنوات، وهو أمر مثير. حيث قام الأخير بتعيين وطرد 13 مدربًا خلال فترة ليست بالكبيرة. أدرك كارلو أن كرة القدم يتحكم بها الرؤساء وأصحاب الأموال على الدوام، وما عليه سوى أن يحاول تحقيق أكبر قدر ممكن من الفوز طبقًا للظروف المتاحة.
أما عن الجانب الفني خلال الفترة التي قضاها مع الروسونيري، فبدأ بتشكيلته التقليدية 4-4-2، والتي ورثها من ساكي ثم طورها إلى 4-2-3-1 التي تحظى بشعبية كبيرة الآن. إلا أنه يدين بالفضل في قرار الاعتماد على صانع لعب لزين الدين زيدان خلال فترته مع اليوفنتوس، حتى إنه قد ندم على عدم استقدام باجيو خلال فترة بارما لكونه لا يفضل الاعتماد على صناع اللعب مفضلًا اللعب برأسي حربة.
ولأن كرة القدم عادلة وهو أعلم الناس بذلك، لم يتمكن أنشيلوتي رفقة الميلان من الفوز بالكثير من الألقاب رغم ضخامة الأسماء التي تدربت خلال فترته، لكن تدخلات بيرلسكوني وتأقلم أنشيلوتي حال دون تحقيق تلك الألقاب. لكنه حقق لقبي دوري أبطال أوروبا، وكان هذا كافيًا ليضعه كل رؤساء الأندية في مصاف الرجل الأهم على الإطلاق.
كما أنه في المقابل تخلص من سمعة الرجل الذي لا يحقق الألقاب واكتسب سمعة جديدة،المدرب الذي يستطيع التعامل مع كتيبة النجوم طبقًا لما يراه رئيس النادي محققًا بعض الألقاب المهمة.
كارلو ما بعد الميلان: يقولون إن جاتوزو بكى في وداعه
خلف هذا الشعر الرمادي والنظرات الحادة مئات القصص والمواقف والخبرات التي يسردها كارلو بنفسه على لاعبيه فيكتسب ثقتهم. هذا الرجل البسيط والعميق والمباشر أيضًا يمتلك القدرة السحرية على الاندماج داخل غرفة ملابس اللاعبين دون أن يفقد قدرته كمدرب له تكتيك وأفكار.
يستطيع التحدث لساعات عن شعوره بالملل والجنون من حب ساكي للزهور، وكيف أنه شعر بالحرج عندما دعاه فيرجسون لتناول كأس من النبيذ في ملعب أولد ترافورد بعد المباراة، ثم لم يقل له كلمة واحدة، ولكنه بدلًا من ذلك جلس لمشاهدة سباق الخيل.
هو دومًا صديق الجميع، وعلى أرض الملعب يحقق نتائج جيدة، لكنها ليست مبهرة أبدًا ولا تحمل سمة المشروع الذي يمكن البناء حوله لسنوات قادمة. لكنه أصبح بمثابة ملاذ آمن للفرق الكبرى من أجل استقرار فني. وكان أول تلك الفرق التي لجأت له هي تشيلسي بعد أن رحل مورينهو تاركًا غرفة اللاعبين في انهيار تام.
حسنًا، يبدو أن قصة بكاء جاتوزو في وداع أنشيلوتي تلك لاقت رواجًا عند الجميع؛ ولذا كان أول مطالب أبراموفيتش مالك تشيلسي هو محاولة بناء علاقة متينة مع اللاعبين. لكن مع مرور الوقت وانخفاض النتائج تحول هذا المطلب للنقيض، حيث طالبه مالك النادي بمحاولة أن يكون أكثر صرامة مع اللاعبين. لم يشفع له لقب الدوري فكان الفراق الحتمي في النهاية.
ما حدث في تشيلسي حدث في مدريد، استطاع أن يأتي لمدريد بالعاشرة لكنه فشل خلال الموسم التالي في تحقيق أي لقب ورحل. إلا أن كارلو ظل يتحدث للجميع أنه لا يوجد أفضل من ريال مدريد في العالم أجمع.
أصبح الأمر أكثر وضوحًا مع الوقت، إما أن تؤمن بتجربة شابة وتحتمل تلك المخاطرة ونتائجها بنجاح مبهر أو فشل تام، وإما أن تلجأ إلى ماركو أنشيلوتي الذي سيعيد ترتيب الأوراق على الأقل.
ولأنه خيار مضمون فلم يكن غريبًا أن يترأس الإدارة الفنية لفرق باريس سان جيرمان وبايرن ميونخ، لكن مع الوقت آمن الجميع بأن العالم يتغير، وأن الجماهير أصبحت أكثر حماسة وصبرًا على المدربين الشباب والأفكار الجديدة.
يملك ماركو موقفًا فلسفيًّا تجاه هواء الملاك مثل رومان أبراموفيتش والرؤساء مثل فلورنتينو بيريز ومديري كرة القدم مثل ليوناردو، إلا أنه لا يوجد شيء يحبه أكثر من إعادة إحساس العائلة الذي كان يتمتع به مع ميلان وإشراك نفسه في مشروع طويل الأجل.
وهنا قرر الرجل أن يقبل بتدريب أندية أقل حجمًا مثل نابولي وإيفرتون، حتى إنه كان دومًا يتحدث عن نادي إيفرتون كونه نادي العائلة، لكن في المقابل لم يحتج بيريز سوى 48 ساعة منذ أن فكر في انتداب الإيطالي حتى حضر الأخير بنفسه إلى مدريد لتوقيع العقود كمدرب للريال في ولاية أخرى. يبدو أن الإيطالي هو الآخر اشتاق إلى الجنون.
ما زال الجنون هو مناخ كرة القدم المفضل وما زال هناك رئيس يبدو أقوى حتى من قناعات الجماهير؛ ولذا عاد أنشيلوتي للواجهة، حيث إن هناك زلازل قادمة نحو مدريد فيما هو قادم من أيام دون شك. ومن المؤكد أن بيريز يعرف جيدًا أن ماركو أنشيلوتي لديه من المزايا ما يؤهله لمقاومة تلك الزلازل.