رسائل «كارل ساجان» للفضاء: يد ممدودة بالسلام، أم دعوة للغزو؟
أتساءل من نحن؟ نحن نعيش على كوكب ضئيل حول شمس مملة في مجرة مهملة بعيدا في ركن من أركان الكون يوجد فيه مجرات أكثر كثيرا من عدد البشر. كارل ساجان
هل اعتقدت يوما في وجود حياة خارج كوكب الأرض؟ أَجَرّبت أن تنظر للسماء وتتأمل بديع خلق الله في النجوم والسدم والمجرات البعيدة، وفكرت في استحالة خلق هذا الكون الشاسع فقط ليشمل وجودنا وحدنا في كوكب صغير في طرف مجرة؟
لسنا وحدنا، ربما راودك هذا الشعور بالفعل. لكنه بالتأكيد كان حلم الكثير من العلماء على مدار السنوات الماضية، وخصوصا منذ بداية عصر استكشاف الفضاء، حينما أدرك العلماء وجود إمكانية عملية للبحث والتواصل مع كائنات فضائية بالفعل. كارل ساجان كان أحد هؤلاء. أرسل رسائله للفضاء يقول فيها من نحن، أين نحن، وكيف نحن. رسائل تحمل دعوة بالسلام لكل سكان الفضاء، فهل سيتقبلوها بنفس الحميمية الأرضية، أم ستكون الأرض حينئذ مجرد إحداثيات جديدة لهم في خريطة الغزو.
كارل ساجان، الفلكي الحالم
كارل إدوارد ساجان (1934-1996)، وعالم الفلك والأحياء الفلكية والكاتب الأمريكي الشهير، والأستاذ بجامعة كورنل Cornell University. وكان ساجان يعمل أيضا كمستشار لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا، كما أن له الكثير من الأوراق العلمية والكتب والروايات. وهو صاحب البرنامج الأمريكي الفلكي الأشهر على الإطلاق Cosmos.
كان لساجان الكثير من التجارب محاولة لإثبات القدرة على نشأة حياة في ظروف فضائية استثنائية. ويعتبر ساجان من أكثر العلماء المتحمسين لفكرة وجود حياة غير أرضية، وله الكثير من الاسهامات محاولةً للتواصل مع أي حضارة كونية ذكية متقدمة. أهمها هو الرسائل التي أرسلها على متن مسابير الفضاء pioneer و voyager.
لوح Pioneer الذهبي
تعتبر مركبتا Pioneer 10 , 11 من أوائل المركبات اللي كان أحد أهدافها الخروج من المجموعة الشمسية بعد إتمام مهماتهما باستكشاف المشترى وزحل، وتم إطلاقهما عام 1972 و 1973 على التوالي.
كان الصحفي الانجليزي إيريك برجس Eric Burgess أول من اقترح إرسال رسائل لحضارات ذكية عليهما. تحمس ساجان للفكرة بشكل هستيري وقام بإقناع ناسا بها، والتي وافقت وأعطته مهلة ثلاثة أسابيع لكتابة رسالة يمكن لحضارة كونية ذكية أن تفهمها بشكل بسهولة، وتصميم وتصنيع تلك الرسالة. فقام ساجان وبمساعدة فرانك دريك Frank Drake – عالم الفلك المهووس أيضا بالتواصل مع حياة خارج الأرض- بتصميم رسالة، وقامت برسمها ليندا زوجة ساجان حينئذ. صنع اللوح من الذهب وتم طلاؤه بالألمونيوم.
صُممت اللوحة بحيث تحمل رسومات يسهل على حضارة عاقلة متقدمة فهم دلالاتها. فتبدأ اللوحة برسمة شديدة الدقة لفرق مداري الطاقة للإلكترون في حالتيه عالية ومنخفضة الطاقة في ذرة الهيدروجين، العنصر الأكثر انتشارا في الكون، بجانب رقم 1 باللغة الثنائية “I”. حيث اعتبر ساجان أن طول الموجة الصادرة عن انتقال الإلكترون بين مستويي الطاقة، ويبلغ 21 سم، هو وحدة الطول على اللوحة، ووحدة الزمن أيضا حيث يبلغ تردد الموجة 1420 ميجا هرتز.
تحتوي الرسمة على مخطط لرجل وامرأة رسما على غرار التماثيل اليونانية ورسومات ليونارد دافنشي. وكتب بجانب المرأة رقم 8 باللغة الثنائية، وتعني ثمان وحدات طول من المذكورة في الدليل (8*21 = 168سم) وهو متوسط طول المرأة. كما رسم الرجل رافعا يده اليمنى بالسلام، وهي الحركة التي لن يفهمها بالتأكيد كائن فضائي لم يزر الأرض من قبل.
كما تم رسم خريطة توضح موضع مجموعتنا الشمسية نسبة لـ 14 نجما نيوترونيا نابضا، باللغة الثنائية أيضا، وكذلك موضعها نسبة لمركز مجرة درب التبانة. وهذا بجانب مخطط للمجموعة الشمسية مع توضيح المسافات بين الكواكب والشمس، وأيضا المسار المفترض للمركبة Pioneer، وهو المسار الذي التزمت به pioneer 10 بينما خالفته pioneer 11 حيث تم إعادة توجيهها لاستكشاف زحل بدلا من المشترى كسابقتها. وتم إضافة رسمة توضيحية للمركبة Pioneer في خلفية اللوحة بمقاسات متناسبة مع حجم الإنسان.
انتهت مهمة المسبار Pioneer 10 عام 1997، على الرغم من استمرار التواصل معها واستقبال إشاراتها حتى العام 2002. بينما انتهت مهمة Pioneer 11 قبل ذلك في عام 1995.
لقد سئلت مرات عديدة، هل تؤمن بوجود حياة خارج كوكب الأرض؟ وأجيب دائما بالحجج المعتادة. يوجد الكثير من الأماكن هناك، وجزئيات الحياة موجودة وبكثرة، بالمليارات. ولهذا، سيكون من المدهش بالنسبة لي ألا توجد حياة ذكية خارج الأرض، وذلك رغم انعدام أي دليل على ذلك.
غالبًا ما أسأل بعدها عما أعتقده حقا وأشعر به؟ أقول، أنا لا أفكر عن طريق إحساسي الداخلي! لو كنت جادا فعليا في محاولة فهمي للعالم، فأي محاولة للتفكير بعيدا عن العقل، على الرغم من إغرائها، ستوقعني في مشاكل، ولذلك لن أجيب عن هذا السؤال حتى أجد دليلا حقيقيا. كارل ساجان
أسطوانة voyager الذهبية
تعتبر مركبتا مشروع Voyager المركبات الأكثر بعدا عن كوكب الأرض حتى الآن بعد أن تأكد خروجهما من المجموعة الشمسية واختراقهما للغلاف الشمسي الخارجي، وذلك بعد أن أتمتا مهمتهما باسكتشاف الكواكب الخارجية للمجموعة الشمسية بنجاح. وفي 2012 خرجت Voyager 2 من نطاق المجموعة الشمسية لتصبح المركبة الأولى التي تحقق ذلك بشكل مؤكد.
لم يسلم مشروع Voyager من أحلام ساجان والذي طور من رسالته هذه المرة وجعلها مسموعة ومرئية أيضا، حيث قامت لجنة تحت إشرافه باختيار 116 صورة مع مجموعة من الأصوات الطبيعية كصوت الرعد وخرير المياه وغناء العديد من الحيوانات، كما تم اختيار مقطوعات موسيقية من حقب وحضارات متنوعة، بالإضافة للتحية الرسمية لـ 55 لغة.
تم اختيار الصور بحيث تضم معلومات علمية ومخططات لمجموعة الشمسية وللـ DNA وبعض الحيوانات والحشرات والنباتات ووجوه البشر والأنشطة البشرية اليومية. كما تم ضم مقطوعات لباخ وموزارت وبيتهوفين وبعض موسيقى الروك. تم تحويل الصور لبيانات تناظرية وتم تسجيلها مع الموسيقى على أسطاونة جرامافونية ذهبية بعنوان “همهمة الأرض Murmurs of Earth” صنعت خصيصا لحمل الرسالة. كما تم طبع المخططات المفتاحية للوحة Pioneer أيضا على الأسطوانة.
تحتوي الأسطوانة على رسالة مطبوعة للرئيس الأمريكي جيمي كارتر يقول فيها: «هذه هي هديتنا من عالمنا البعيد الصغير، مجموعة من أصواتنا، وعلومنا، وصورنا، وموسيقانا. أفكارنا ومشاعرنا. وسنحاول البقاء على قيد الحياة والاستمرار لنعيش وقتكم القادم»، حيث يتعبر كارتر الرسالة كرسالة مستقبلية أيضا للأجيال القادمة، حيث ربما يجدها بشري مستقبلي أثناء تجول أبناء البشرية في أعماق الفضاء السحيق.
قامت ناسا برفع الأصوات المسجلة على الأسطوانة على الموقع الشهير Soundcloud في يوليو 2015 ليستطيع البشر في أنحاء العالم الإنصات لما أرسل باسم البشرية قاطبة كدعوة سلام ومحبة وتواصل مع أهل فضاء الخارجي. ويمكنك سماع السلام باللغة العربية.
لكن، لم يمهل الالتهاب الرئوي ساجان الوقت الكافي ليرى نتيجة أبحاثه ورسائله الفضائية، وتوفي قبل أن يستطيع البشر أن يتواصلوا مع أي حضارة كونية ذكية، وهو الذي لم يحدث قط حتى الآن.