إعادة برمجة المناعة: فتح جديد في طريق قهر السرطان
أنت مصنع دوائك .. هذا هو خلاصة الأمر في هذاالفتح الطبي الجديد، حيث إن العلاج سيعتمد بشكل كامل على جهازك المناعي، خط دفاعك جسدك الأول أمام كل ما يهاجمه، حيث سيتم أخذ خلايا المناعة ( خاصة مايسترو جهاز المناعة، الخلايا الليمفاوية من النوع تي T-lymphocytes ) من دم المصاب بالسرطان، وبالأخص الأنواع المستعصية للعلاج بالطرق التقليدية المتوفرة ( الجراحة، العلاج الكيماوي، العلاج الإشعاعي .. ). تتم إعادة برمجة هذه الخلايا، وتعديلها وراثيًا، لتكون أكثر كفاءة، ودقة ضد أهدافها. ثم تتم إعادة حقن المريض بها لتقضي على الخلايا السرطانية.
سيكون هذا العلاج حصريًا من هذا المريض، وإليه. وهذا يفسر تكلفته المرتفعة للغاية. فالنسخة التي احتفل عملاق صناعة الأدوية العالمي نوفارتيس Novartis بحصولها على موافقة هيئة الغذاء والدواء الأمريكية FDA آخر شهر أغسطس الفائت، لعلاج صغار السن المصابين بأنواع مستعصية أو متكررة الانتكاس من سرطان لوكيميا الخلايا بي الحادة، ستكون تكلفتها 475 ألف دولار للمريض الواحد ! ولحسن الحظ فالمريض لا يحتاج سوى جرعة واحدة بالتنقيط الوريدي.
سباق النمر والغزال للإجهاز على السرطان مناعيًا
جديرٌ بالذكر أن شركة نوفارتيس هي أكثر مُصنِّعي الدواء إنفاقًا على البحث العلمي، فقد أنفقت العام الفائت فقط حوالي 9 بلايين دولار في هذا البند. وقد تمكنت من تطوير العلاج الجديد ( واسمه كيميريا kymriah ) بعد تعاون بحثي دام لسنواتٍ مع جامعة بنسلفانيا الأمريكية. ويعد كيميريا أول علاجٍ مطورٍ بتقنيات التعديل الجيني، تسمح هيئة الغذاء والدواء الأمريكية بتداوله طبيًا. وقد أظهرت التجارب على العلاج الجديد، تحقيقَهُ أداءُ قويًا ضد الأنواع المستعصية من هذا السرطان، بنسبة شفاء تصل إلى 83%.
وبالتزامن مع ما حققه كيميريا، وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، ينشط في بريطانيا سباق محموم مع الزمن تخوضه شركة كايت Kite pharma الواعدة في مجال الأبحاث الجينية لعلاج السرطان، والتي استحوذ عليها مؤخرًا عملاق الأدوية الأمريكي جلياد ( المنتج
لدواء السوفالدي الشهير في مصر الآن لعلاج فيروس سي ) في صفقة تاريخية قُدِّرت قيمتها بـحوالي 12 بليون دولار، والتي تحاول الحصول لأول مرة في تاريخ بريطانيا على تصريح بتداول عقار مشابه لكيميريا، تم تطويره بنفس تقنية التعديل الجيني التي استخدمت فيه. تحاول الشركة إتمام الإجراءات بأقصى سرعة، بحيث يكون الدواء متاحًا للتداول بحدٍ أقصى الصيف القادم.
يستهدف هذا العقار 3 أنواعٍ شديدة العدوانية من سرطان اللمفوما aggressive non-Hodgkin lymphoma في الأشخاص الأكبر سنًا. وهو يعطي أيضًا كجرعة واحدة بالتنقيط الوريدي. وتخوض الشركة مفاوضاتٍ شاقة مع هيئة تسعير الأدوية البريطانية NICE نظرًا لثمنه الباهظ، حتى أن بعض التسريبات تتحدث عن محاولة الهيئة الاتفاق مع الشركة على ألا يدفع المريض التكلفة إلا إذا تحسَّن فعلًا بالعلاج !
العلاج المناعي للسرطان .. فصل جديد في كتاب مفتوح
ما زال كل المتصلين بحقل علاج السرطان الشاسع من أطباءٍ وباحثين ومرضى.. الخ يشتكون من أن حالنا مع أكثر علاجاتِه المتوافرة هي كالمستجير من الرمضاء بالنار. فالآثار الجانبية الخطيرة للعلاجات الكيماوية والإشعاعية قد تقتل المريض، وتتلف أجهزته الحيوية خاصة الكلى والكبد والقلب، قبل أن يقتله السرطان نفسه. كما أن معدلات عودة السرطان للنشاط مرة أخرى relapse ما تزال مريعة. ومن هنا جاءت فكرة ابتكار علاجاتٍ أقرب لما يحدث في الطبيعة داخل الجسم، بمعنى أن نداويها بالتي كانت هي الداء. وبما أنه لا يمكن أن يحدث نشاط سرطاني، إلا في وجود اختلال ما في جهاز المناعة. فبدأت الأبحاث تركز على المناعة.
خلايا السرطان في أصلها جزء من خلايا الجسم، تقوم بوظائف معينة وفقًا للقوانين الطبيعية التي تحكم عمل الجسم. ولتتناسب مع وظيفتها، فلابد من معدل محدد من الانقسام الخلوي والتكاثر، ينظمه تقنيات طبيعية داخل الجسم للموت المبرمج للخلايا apoptosis بعد وقت محدد. إن زادت معدلات التكاثر أو نقصت، حدث اختلال في الوظيفة، و هذا ما يحدث عند الإصابة بالسرطان.
ينفلت عقال بعض الخلايا، وتتمرد على تقاليد الموت المبرمج، وتبدأ في التكاثر بشكل متضاعف، يكون عبئًا على الأنسجة المتكونة منها، خاصة أن نتائج الانقسام المرضي تكون خلايا كثيرة، لكنها كغثاء السيل، لا تقوم بالوظيفة المطلوبة، بينما تُفسِدُ في مكانها، وتطغى على الأنسجة السليمة المجاورة، وتبدأ في التغلغل بها والانتشار.
أما لماذا حدث هذا الانفلات، فالنظريات عديدة ويصعب الإحاطة بها في مقال، لكن مدار معظمها على وجود اختلالاتٍ وراثية كامنة، أو ملوثات بيئية معينة، أو الإصابة بفيروسات محددة.. تقوم هذه العوامل بالعبث بالمادة الوراثية داخل أنوية الخلايا، والتي تمثل مخها، ومحرك انقسامها، فتنقسم وتتكاثر بشكل متفاقم.
ولذا ظهرت العلاجات المناعية، والتي تقوم باقتباس طريقة عمل جهاز المناعة السليم في علاج السرطان، أو تستهدف تنشيط جهاز المناعة بجسم المريض، ليقوم بالدور المنوط به في التخلص من الخلايا السرطانية. فمثلا الانترفيرونات التي يتم بها علاج بعض أنواع السرطان كسرطان الخلية الكلوية، ما هي إلا اقتباس من الانترفيرونات الطبيعية التي تفرزها خلايا الجسم المصابة بفيروسات أو اختلال سرطاني، كرسائل استغاثة وتحذير إلى الخلايا المجاورة، لحشد وتعبئة رد الفعل المناعي ضد الخلايا المريضة.
وجاءت النقلة الحقيقية في مجال العلاج المناعي للسرطان، مع تصنيع الأجسام المضادة فائقة الدقة Mono-clonal antibodies MABs، والتي يتم برمجتها لتستهدف بروتينات معينة في تركيبة الخلايا السرطانية، وبالتالي تتركز ضرباتها عليها، فإما أن تفتك بها بنفسها، أو تجعلها أكثر قابلية للوقوع في مرمى نيران خلايا المناعة. وبالتالي، يتحقق استهداف الخلايا والأنسجة الفاسدة، مع تجنب أكبر قدر ممكن من النيران الصديقة على أجهزة الجسم السليمة.
كار – تي .. الدواء الحي !
شرح مبسط لتقنية كار – تي الجديدة
على أساسٍ مشابه، تقوم التقنية التي نسلط عليها الأضواء في هذا المقال. اسمها كار- تي CAR-T وهي اختصار لجملة Chimeric antigen receptors T cells. و هي فرع من طراز جديد من العلاج المناعي، يسمى Adoptive cell transfer أي تطويع الخلايا للقيام بوظيفة أفضل وأدق، باستخدام النقل الجيني لمادة وراثية توجهها للقيام بهذه الوظيفة.
يتم استخلاص خلايا المناعة الليمفاوية من النوع تي من المريض، وإجراء اختباراتٍ معملية عليها لانتقاء أكثرها عدوانية ضد خلايا السرطان المستعصي المصاب به هذا الشخص. ويتم تطوير خصائصها باستخدام تقنية النقل الجيني.
يتم إنتاج مستقبلات مصنعة، لها القدرة على التعرف على الخلايا السرطانية لدى المريض والالتصاق بها. يتم زرع الجينات الموجِّهة لإنتاج هذه المستقبلات داخل المادة الوراثية لفيروس معملي غير ناقل للمرض، والسماح له بغزو خلايا تي المستخلصة. كعادة الفيروسات، فإنه يدمج المادة الوراثية بداخله في المادة الوراثية للخلايا التي يغزوها، وبالتالي أصبحت جينات إنتاج المستقبلات المصنعة بالفعل داخل المادة الوراثية لخلايا تي، والتي عند انقسامها وتكاثرها، يحتوي نتاجها على هذه الخاصية الجديدة. تستغرق عملية الإعداد المعملي للخلايا، من أسبوعين إلى شهرين حسب معدل تكاثرها بعد تعديلها. وعند إعادة حقن هذه الخلايا داخل المريض، فإنها تقوم بمواجهة الخلايا السرطانية بدقة أكثر وشراسة.
تحديات قائمة
قُدِّرَت قيمة سوق العلاجات المناعية الجديدة للسرطان العام الماضي بحوالي 19 بليون دولار، مرشحة للتضاعف 3 مرات إلى حوالي 54 مليارًا بحلول عام 2021، مع اكتساب هذه العلاجات أرضياتٍ جديدة في ساحة الحرب المفتوحة ضد السرطان. لكن ما يزال هناك بعض التحديات التي تواجه هذا المجال الواعد لكي يمكن تعميمه على نطاق أوسع. كالتكلفة الباهظة للغاية، والصعوبات التقنية، وكذلك اقتصار النتائج التجريبية الجيدة في أنواع محددة من السرطانات السائلة (سرطانات خلايا الدم كاللوكيميا واللمفوما)، وما زال أمامنا أشواط طويلة من البحث العلمي لاختبارها على السرطانات الصلبة ( التي تتجمع في أنسجة صلبة، كسرطانات الثدي والعظام والكلى … الخ ). وما زلنا بانتظار المزيد من الانتصار على المرض الخبيث.