عام للسينما العربية في مهرجان «كان» بالتأكيد، فمنذ الإعلان عن الأفلام المشاركة في المهرجان الأكثر انتظارًا في عالم السينما، وعن عددها الواصل 13 فيلمًا موزعين بين أقسام المهرجان المختلفة: المسابقة الرسمية وقسم نظرة ما وأسبوع النقاد ونصف شهر المخرجين وأسيد، ووصولًا إلى لا سينيف (مسابقة أفلام الطلبة)، ونحن في انتظار مشاهدة تلك الأعمال، لكن بعد مشاهدتها وحصولها أيضًا على العديد من الجوائز في المهرجان، وخاصة الأفلام المشاركة في قسم نظرة ما التي استحوذت على معظم جوائز القسم، تأكد أن هذا العام يشهد انتعاشة للسينما العربية على مستويي الكم والكيف.

تجمع اختيارات المهرجان للأفلام العربية هذا العام ظهورًا لأسماء عربية لامعة، مثل كوثر بن هنية وفوزي بن سعيدي، وأخرى صاعدة مثل محمد كوردفاني وأسماء المدير وكمال الأزرق ومراد مصطفى وجاد شاهين وزينب واكريم، مع غلبة للأسماء الصاعدة، وهو ما يؤكد مولد جيل سينمائي عربي جديد لا يهتم فقط بعرض قضايا على الشاشة بقدر ما يهتم بتناول تلك المواضيع والقضايا سينمائيًّا. 

ظهور تلك الانتعاشة مرتبط بشكل حتمي بدعم الأفلام من مؤسسات مانحة، بينها الدوحة وآفاق والمورد، وتلك الخاصة بالمهرجانات مثل القاهرة والجونة وقرطاج ومراكش والبحر الأحمر، وخاصة الأخير الذي قام بتوفير منح مالية ضخمة للأفلام في وقت قصير، ما أدى إلى إنجاز الأفلام في وقت أسرع ونتج عنه كثافة في عدد الأفلام المنتجة وجودة أفضل لها، الأمر الذي يؤكد أن المواهب العربية تستطيع الوصول وبسهولة إلى المهرجانات الكبرى والمنافسة بقوة أمام أعمال عالمية أخرى، خاصة أن معظم الحكايات الأخاذة تأتي هذا العام في المهرجان العريق من دول صاعدة في مجال السينما وبينها السودان والأردن، ومن دول الشرق والجنوب بشكل كبير، وهي الدول التي لم تتح لها الفرصة بشكل عام لحكي حكاياتها لأسباب متعلقة بالمناخ العام لها، أو لظروف الاستعمار وقلة الموارد الموجهة لدعم الفنون. 

في هذا المقال نستعرض 6 من أبرز الأفلام العربية التي شاركت في مهرجان كان هذا العام، وفازت بجوائز أقسامه المختلفة، ونرجو أن نرى تلك الأفلام قريبًا في المهرجانات العربية، وقاعات السينما أيضًا. 

1. بنات ألفة

أول فيلم في القائمة هو «بنات ألفة» لكوثر بن هنية، وهو الفيلم العربي الوحيد المشارك في المسابقة الرسمية في واقعة لا تحدث إلا نادرًا في مهرجان كان. سادس أفلام بن هنية الطويلة يؤكد أنها لا تعرف الحدود بين الروائي وغير الروائي. المتابع لمسيرة بن هنية سيعرف أنها بدأت بفيلمين وثائقيين هما «شلاط تونس» و«زينب تكره الثلج»، ثم انتقلت لصنع أفلامها الروائية «على كف عفريت» و«الرجل الذي باع ظهره»، وتخلل ذلك صناعة أفلام قصيرة أو أفلام تلفزيونية، ما يعني فهمها كمخرجة لطبيعة السينما وتحررها من قيود تنميط الصناعة فيما يتعلق بمدة الفيلم أو نوعه. 

في «بنات ألفة» تحكي المخرجة قصة حقيقية مروية بأسلوب يمزج الواقع بالمتخيل، فألفة أم تونسية فقيرة لأربع بنات، انضمت اثنتان منهن إلى قوات تكفيرية في ليبيا. من أجل إعادة خلق حكاية ألفة وبناتها، تقوم بن هنية بعمل “كاستينج” لهند صبري في دور ألفة لتلك الأجزاء التي لن تستطيع ألفة الظهور فيها بسبب التأثر العاطفي، كما تختار ممثلتين للعب دور البنتين الغائبتين. نحن أمام فيلم ذي موضوع حساس وجريء، لكن الموضوع ليس وحده ما يخلق الفيلم، قدر الطريقة التي تصور بها المخرجة الحكاية، والتي تستخدم مزيجًا من أدوات الحكي السينمائي الروائي والوثائقي.  

يبدأ الفيلم بتعريف أسلوبه في البداية، منذ لحظات مقابلة ألفة وبنتيها الحقيقيات لطاقم التمثيل المشارك في الفيلم. بعدها تبدأ حكاية الفيلم بتاريخ زواج ألفة من زوجها، وتقوم هند صبري ومجد مسطورة (الذي سيلعب أدوار كل الرجال في حياة ألفة) بتمثيل مشهد ليلة الزفاف في حضور ألفة نفسها التي تقوم بالتعليق على ما حدث في ذلك اليوم وتوجيه المشهد ليبدو كما حدث في الحقيقة. 

هذا الأسلوب الفني الذي سيستمر خلال الفيلم ينعكس من ناحية على أداء الممثلين الذين يخوضون تجربة جديدة ويلعبون شخصيات ليست مكتوبة على الورق، ويجعلهم متورطين عاطفيًّا مع أبطال حكاياتهم، ومن ناحية أخرى على ألفة وبنتيها الحقيقيات اللاتي يشاهدن جزءًا من حياتهن تعاد روايته كمتفرجات أو كممثلات، والنقاشات الناتجة عن تلك العملية، فالممثلون تونسيون أيضًا، ولكن من خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة. خلال تلك الرحلة التي يصعب وصفها بالكلمات، تتعرض بن هنية لقضايا تشغل المجتمع التونسي خاصة والعربي عامة، بين الفقر والتربية وأوضاع النساء في المجتمع والعنف المنزلي، وصولًا إلى التشدد الديني والإرهاب، وتحاول خلق تفسير منطقي أو بورتريه لحالة المجتمع بأكمله.   

2. وداعًا جوليا

https://www.youtube.com/watch?v=2PjZYzop7ak

«وداعًا جوليا» لمحمد كردفاني، هو أول الأفلام التي تلفت الانتباه لها في قسم «نظرة ما»، سواء لكونه الفيلم الروائي الطويل الثامن في تاريخ السودان، أو الأول في مسيرة مخرجه أو الأول في كان أيضًا، وأخيرًا فوزه بجائزة الحرية في قسم نظرة ما. يسرد كوردفاني قصة إنسانية بين امرأتين، إحداهما من الشمال، منى، والأخرى من الجنوب، جوليا، وتسكن كلتاهما العاصمة السودانية الخرطوم عام 2005 قبل انفصال جنوب السودان. لظروف مأساوية مؤججة بالعنصرية والخوف من الآخر وشيطنته، تتسبب منى في قتل زوج جوليا، دون أن تعلم الأخيرة بذلك، ويثقلها الذنب فتقوم بتشغيل جوليا خادمة لها في المنزل من أجل أن تساعدها وابنها بشكل خفي. 

تتكون صداقة وطيدة بين المرأتين، وتدفعهما تلك الصداقة كلتيهما إلى التعرف على أنفسهما وأحلامهما المُطفأة لأسباب متعلقة بالفقر والعوز والعنصرية في حالة جوليا، أو بالمجتمع والتشدد والانغلاق في حالة منى، ورغم أن تلك الصداقة موقوتة بكشف الحقيقة، فإن منى وجوليا تبدوان مستعدتين للتصالح حتى مع وطأة الفوارق العرقية والطبقية، وحتى مع ذلك الحدث الجلل الذي تسببت فيه منى، فعلاقة الصداقة تلك قد وفرت لهما ما لم توفره أي علاقة أخرى في حياتهما، من تفهم وسماع للآخر. 

الرجال لا يبدون على نفس القدر من الاستعداد للتصالح، بدءًا من زوج منى صاحب المصنع، الذي يعتبر وجود العنصرية بين الشماليين والجنوبيين أمرًا واقعًا لا يمكن تغييره، وحبيب جوليا الجديد المنتمي لقوات جيش التحرير الشعبي السوداني ماجير الذي يرى أن الحل الوحيد يكمن في الانفصال، بعد سنوات من القهر والتمييز عاشها الجنوبيون وقت الوحدة، وصولًا إلى ابن جوليا المراهق الغاضب الذي يرفض التفريط في حق والده. 

يقول كردفاني في حوار أجراه الناقد هوفيك حبشيان إن فكرة الفيلم بدأت وقت استفتاء الانفصال ونسبة الـ99% الذين صوتوا من أجل الانفصال. فاجأت تلك النسبة المخرج، فقرر أن يبدأ رحلة سينمائية لفهم ما يدور، ولكن كما يقول أيضًا فإن الفيلم ليس عن الانفصال بين دولتين، لكن عن انفصالات عدة بين منى وزوجها، وبينها وبين جوليا، وانفصال الأبطال عن أحلامهم. فيلم كوردفاني هو فيلم عن قلة التواصل على المستويين الإنساني والسياسي بين الأفراد في المجتمع السوداني، وهو إذ يصور تطور العلاقة بين منى وجوليا يكسر أجزاءً من النمطيات التي قد يتخيلها الطرفان بعضهما عن بعض، ويكشف أن التواصل هو الحل الوحيد لمعرفة الآخر وللتعايش معه. 

الفيلم موجه لجماهير كبيرة، إذ يمكن للمشاهد أن يتماهى مع أي من الشخصيات الموجودة في الفيلم بدءًا من منى المرأة الفنانة المثقفة والممتثلة في الوقت نفسه لقرارات زوجها والمجتمع، وجوليا المقهورة العملية التي تقبل بواقعها بأي حال، وتحاول حماية ابنها وتوفير أفضل مستقبل له، وزوج منى صاحب النزعة اليائسة تجاه المجتمع، أو ماجير والابن اللذين يحاولان تحقيق واقع أفضل حتى وإن كانت الاختيارات صعبة أو عنيفة. يتسع الفيلم لمساحة عرض لكل الآراء السياسية الممكنة لذلك الوضع، لكنه ليس بفيلم سياسي قدر ما هو فيلم إنساني خالص، تكمن السياسة في خلفيته، إذ إنه يتخيل عالمًا قد يكون تحقيقه مستحيلًا في الواقع، لكنه يترك المساحة للحلم موجودة في قاعة السينما. 

3. إنشالله ولد

من مسابقة أسبوع النقاد، يأتي عمل أول آخر هو «إنشالله ولد» لأمجد الرشيد، ليكون أول فيلم أردني يشارك بمهرجان كان. الفيلم يذكرنا بمسلسل “تحت الوصاية” لمحمد شاكر خضير من حيث الموضوع، وهو موضوع الوصاية على الأطفال وميراثهم بعد وفاة الزوج، ولكن الحبكة هنا مختلفة، إذ إن الزوج يتوفى، وتقع نوال الزوجة والأم لطفلة وحيدة تحت تهديد خسارة بيتها – الذي شاركت في دفع ثمنه لكن دون إثبات ورقي – ما لم يكن لها ولد، وهذا الولد قد يظهر في أشهر عدة زوجها المتوفى ليكون خلاصها الوحيد من عائلة زوجها التي تود بيع كل شيء لتقسيم الميراث. 

تتوالى العقبات أمامها بدءًا من إدارة بيتها ورعاية ابنتها بعد وفاة الزوج، والتعامل في مسألة الميراث، وتفادي مشاكل عيشها كأم وحيدة مع نظرات المجتمع، إضافة إلى تحكمات سيدة المنزل الذي تعمل فيه ممرضة. في ذلك المنزل نقابل ابنة تلك السيدة، لورين التي تأتي من طبقة اجتماعية وديانة مختلفة. تعاني لورين من مشكلة أخرى مختلفة يقف القانون والمجتمع أمام حقها فيها أيضًا، وتنشأ بين نوال ولورين علاقة تضامن ناتجة عن إحساسهما بالقهر أمام المجتمع الذكوري، رغم اختلافات معتقداتهما وأفكارهما جذريًّا. من جراء تلك الصداقة والعقبات الكثيرة الظالمة، تبدأ شخصية نوال في التغير وتصمم على أخذ حقها بأي حال من الأحوال حتى وإن كانت الطريقة لا ترضي المجتمع. 

القضية ليست فقط ما يشغل الرشيد، رغم ظهورها بالطبع وتحريكها للأحداث، لكن الأسلوب السينمائي ينقل لنا إحساس البطلة في فيلم أقرب لفيلم نوار «الفيلم الأسود» بأسلوب بصري قاتم، وشريط صوت ومواقع تصوير تجعل من تجربة الفيلم مشابهة لتجربة رهاب الأماكن المغلقة، وكأن بطلة الفيلم تجري في متاهة كابوسية كبيرة تحاول الفرار منها.  

4. عصابات

فيلم نوار آخر لكن من المغرب، هو «عصابات» لكمال الأزرق، الذي شارك في قسم «نظرة ما» وفاز بجائزة لجنة التحكيم. يستغل الأزرق عوالم الدار البيضاء السفلية ليحكي حكاية أب وابنه، مهمشين ككلاب الصيد (وهو اسم الفيلم بالإنجليزية)، مخلصين بشكل ما لكنهما قليلا الحيلة، ينفذان الأمور كما هي دون تفكير خاصة الأب، يرتكبا جريمة غير مقصودة نظرًا لكونهما هواة، فيقتلان رجلًا بالخطأ، وتبدأ رحلتهما معًا للتخلص من الجثة على مدار ليلة واحدة في أطراف الدار البيضاء.

خلال تلك الرحلة نشاهد العلاقة الإنسانية بين الأب والابن المختلفين. الأب ينتمي لعالم قديم، وتبدو تصرفاته متعلقة بالعادات والعلاقات الاجتماعية، يستطيع التعامل مع شخصيات مختلفة لكن معظم تصرفاته تفشل في حل المشكلة، أما الابن فيبدو معترضًا متذمرًا على قرارات الأب طوال الوقت ويقترح حلولًا تبدو أكثر راديكالية من الأب، لكنها لا تؤدي إلى نتائج أفضل بأي حال.  

إلى جانب تلك الرحلة العائلية، ننتقل إلى مواقع تصوير مختلفة ومجتمعات مهمشة أخرى، تخبرنا بشكل غير مباشر عن حالة المغرب بأسلوب بصري يعتمد على الألوان الحمراء والبرتقالية وأضواء الليل والنيون بشكل كبير وهو تصور بصري ملائم لحالة الأبطال والفيلم، ورغم أن عواقب فشل المهمة وخيمة والعوائق التي تواجه الثنائي كثيرة، فإن الفيلم أيضًا يمتلك لحظات كوميديا سوداء أو رعب أو أخرى عبثية تمامًا ناتجة عن تفاعل الأبطال مع من وما يقابلونه في رحلتهم، وأخيرًا تجدر الإشارة إلى موسيقى الفيلم التي توحي بالـ”ميلانخوليا” والكآبة، والتي تعطي انطباعًا بأنه سواء نجا الأبطال أو هلكوا في تلك الرحلة، فإنهم محكومون بالشقاء مدى الحياة. 

5. كذب أبيض

https://www.youtube.com/watch?v=9EeG7CPOqAI

الفيلم الوثائقي الطويل الثاني لأسماء المدير – الفائز بجائزة أفضل إخراج في قسم «نظرة ما» – يعتمد على المجسمات الصغيرة لتصوير حكاية تبدو مرتبطة بحارة وسكانها لكنه يكشف تراتبية بلد بأكمله، تعتمد فيه المخرجة على خلق عالمها بالكامل في هيئة ماكيت مصغر تستطيع التحكم فيه، وتخلق من شخصيات بيتها وحارتها عرائس صغيرة لتضعهم في ذلك الماكيت، لتحكي بهم حكاية عن انتفاضة الخبز في المغرب في ثمانينيات القرن الماضي، «ميكروكوزم» أو عالم مُصغر لبلد ضخم تُحكى حكايته بطريقة التأريخ من الأسفل. 

نرى المدير وهي تهندس بناء الحارة التي تسكنها وتضع تفاصيل العرائس الصغيرة والأضواء والغرف في كل بيت، هنا تُمنح المدير الحق لحكي حكاية لم تجرؤ أبدًا على حكيها في البيت نظرًا لوجود جدتها ذات الشخصية القوية المتسلطة التي تمنع أي شخص في محيط الحارة من الكلام في هذا الموضوع. 

تقدم المدير شخصيات فيلمها في المجسمات المصغرة وبشكل فعلي في الاستوديو، إذ تقوم بخلق مزيج بين إعادة التمثيل بشخصيات فيلمها الحقيقية وعرائسهم المصغرة، ما ينتج عنه خلق لحظات حميمية مؤثرة أو مضحكة، كما ينتج عنه إظهار طبائع الشخصيات، وأولهم الجدة الديكتاتورية التي تستمر في انتقاد العروسة الصغيرة التي تصورها قائلة بأنهم قد شوهوها. إلى جانب الحدث السياسي في الفيلم، تحكي أسماء أيضًا عن طفولتها وتسللها لأخذ صورة ورأي جدتها في عملها كمخرجة سينمائية. 

تنجح المدير في خلق عالم صغير متمثل في بيت تشبه تراتبية طوابقه طبقات المجتمع المغربي، لتحكي لنا حكايات تمزج بين الشخصي والعام بأسلوب فني فريد يشبه الحكايات الخيالية، ما يساعد في تلقي تلك الحكايات خاصة المؤلمة منها، وتستطيع خلق نسختها من التاريخ باستخدام مهنتها وشغفها السينما، رغم كل السلطات العائلية والرسمية المحيطة بها.  

6. عيسى 

بعد ثلاثة أفلام قصيرة عن ثلاث أمهات صنعت اسم المخرج مراد مصطفى في عالم الأفلام القصيرة، يعود مصطفى بفيلمه القصير الرابع «عيسى» أو «أعدك بالفردوس»، المشارك في المسابقة الرسمية لأسبوع النقاد، ليسرد حكاية أسرة صغيرة لا يوافق المجتمع على لم شملها، هذه المرة يبدو مصطفى متمكنًا من الجمع بين الأسلوب وسرد حكاية مكتملة، جامعًا خبراته وتجاربه السابقة ليقدم فيلمًا سينمائيًّا ذا موضوع وقضية متشابهين مع حكاياته السابقة.  

أول ما يلفت الانتباه في الفيلم هو الإضاءة والألوان، فالإضاءة في المشاهد الأولى تميل للون البرتقالي، وهو لون يعبر بشكل ما عن درجة الحرارة المرتفعة وتلوث الهواء، ما يجعل المكان أشبه بالجحيم السينمائي، صورة خانقة مليئة بالألوان الترابية، وهي ذات الألوان التي تظهر في معظم الفيلم، والتي توحي بحالة الأبطال النفسية. الملاحظة الثانية هي مواقع التصوير، وخاصة أن معظم الأفلام القصيرة المصرية، عدا بعض الاستثناءات، تميل أكثر لموقع تصوير واحد داخلي أو خارجي مغلق كمستشفى أو مدرسة على سبيل المثال، وذلك نظرًا للظروف الإنتاجية بالطبع، لكن في حالة “عيسى” فمواقع التصوير متنوعة ومختلفة وتصور المدينة وتعد بطلًا من أبطال الفيلم. 

تبدأ الحكاية في القاهرة، المدينة الضخمة التي تحمل قرابة 22 مليون نسمة، المُسجلين رسميًّا بالطبع، في أحيائها وشوارعها وأزقتها، ننتقل إلى مواقع كحي الزبالين ودير سمعان الخراز ونفق الجلاء وغيرها من مناطق القاهرة الشهيرة، هذه المناطق الكبيرة يقابلها في الفيلم مواقع تصوير صغيرة للغاية كسيارة في جراج مهجور أو غرفة ضيقة في حي شعبي أو حارة غير واضحة المعالم. 

هذا التقابل بين مواقع التصوير يظهر شيئًا من الحكاية، هذه حكاية غير رسمية عن المدينة، عن بطن المدينة وأحشائها ومهمشيها الذين لا يظهرون أبدًا على السطح ويبقون في الخفاء حتى ذوبانهم في المدينة أو إيجادهم طريقة للهروب من وحشيتها. الملاحظة الثالثة تتعلق بحركة الكاميرا، إذ إن الكاميرا تتحرك في اللحظات التي يحاول فيها أبطال الفيلم الهروب من ذلك الواقع وتغييره، وتبقى ثابتة في المواقع الضخمة، وهي تلك المواقع التي تعبر عن مؤسسات لا يمكن للأبطال فيها إلا أن يكونوا مهمشين مغلوبين على أمرهم. 

أخيرًا، تجدر الإشارة أيضًا إلى زمن اللقطات في الفيلم الذي يختلف بشكل ما عن زمنها في الأفلام السابقة للمخرج، إذ يسمح المخرج هنا بلقطات أطول تركز على حالة الغضب الصامت الذي تعيشه الشخصيات، وبرغم غلبتهم على أمرهم، فإنك لا تشعر بالشفقة على الأبطال قدر ما تشعر بإحساسهم الداخلي، وهو ما نجح مراد وفريقه في تنفيذه في الفيلم بأسلوب بصري متلائم مع الحكاية. 

يجمع “عيسى” بين حكاية محكمة وبين جودة سينمائية عالية نادرًا ما نراها حتى في الأفلام القصيرة الأخرى المعروضة في أكبر المهرجانات السينمائية العالمية، ويكفي القول بأن وقت حضور برنامج العروض المكون من خمسة أفلام قصيرة في برنامج أسبوع النقاد، كان فيلم مراد هو الأخير في الترتيب لكنه كان الفيلم الأكثر تفاعلًا من همسات الجمهور في نهاية العرض مقابل أفلام أخرى في الاختيار الرسمي للمسابقة، الأمر الذي أكده فوزه بجائزتين يمنحان بالتصويت هما الرايل دور وهي جائزة يمنحها 100 ناقد سينمائي وجائزة الجمهور. 

تلخيصًا، يمكن القول بأن مشاركة السينما العربية هذا العام في مهرجان «كان» حققت نجاحًا استثنائيًّا من حيث الكم والكيف، ونجحت في تقديم مواضيع آنية تؤرق المجتمعات العربية بأساليب سينمائية فنية لتخلق حالة تثبت أن العقول السينمائية في المنطقة لا تشهد أي أزمات إبداعية بل إنتاجية وتوزيعية، إذ إنه من الصعب أن يضع منتج تقليدي أمواله لصناعة فيلم سينمائي فني، ويعد توزيع تلك الأفلام في الوطن العربي أزمة سواء لقلة قاعات العرض الخاصة بتلك الأفلام وطغيان الأفلام التجارية على القاعات الكبرى أو نمطيات عن الجمهور الذي «لا يحب تلك الأفلام».

إذن يتطلب الأمر دعم تلك الأعمال حتى بعد مشاركاتها في مهرجانات سينمائية كبرى، ومحاولة نقلها إلى جمهور أكبر من خلال بعض الجرأة لدى مالكي صالات العرض والموزعين، وتغيير النمطيات حول أفلام «السوق» وأفلام “«المهرجانات».