مهرجان كان 2022: أفلام عربية وأخرى تنظر إلى العالم العربي
في دورته هذا العام، اختار مهرجان كان في أقسامه المختلفة 6 أفلام عربية، ثلاثة منها في قسم (نظرة ما) هم (حرقة) للطفي ناثان و(حُمى البحر المتوسط) لمها الحاج وأزرق القفطان لمريم توزاني، بينما اختيرت ثلاثة أفلام أخرى في نصف شهر المخرجين، واحد من أقسام المهرجان الموازية، هم (السد) لعلي شري و(أشكال) ليوسف الشابي و(تحت الشجرة) لأريج سحيري.
إضافة إلى تلك الأفلام، هناك وجود لأفلام غير عربية تتخذ من العالم العربي مكانًا لها مثل (الحركيون) لفيليب فوكون و(إخوتنا) لرشيد بوشارب و(ولد من الجنة) لطارق صالح و(متمرد) لعادل العربي وبلال فلاح، إضافة إلى فيلم (نوستالجيا) للمخرج الإيطالي ماريو مارتوني الذي يمتلك بطلًا يتحدث العربية ويستمع إلى أغانٍ مصرية بعد معيشته في مصر لمدة طويلة.
ولد من الجنة: ضجة كبيرة وفيلم عادي
فلنبدأ بالحديث عن الأفلام غير العربية التي تتناول العالم العربي بشكل ما، بداية من المخرج السويدي مصري الأصل طارق صالح، الذي أثار الجدل بفيلمه السابق (حادثة النيل هيلتون)، وهذه المرة يثيره أيضًا بشكل فني عن علاقة مؤسسة الأزهر بالسلطة، وبشكل غير فني بحديثه الدائم عن تصويره للفيلم في تركيا وعدم قدرته على التصوير في مصر، وكلام متعلق بالسياسة يحاول منح الفيلم قيمة تأتي من خارج عالمه الفني المتواضع. فيلم صالح إنتاج ضخم، تصميم الأزياء والإنتاج مذهل، لكن المشكلة لا تكمن في مدى جودة الصورة، بل النظرة.
للفيلم مستويان من السرد أحدهما يفسد الآخر، الأول متعلق بحكاية قديمة قدم الأزل عن صراع بين سلطات، والثاني متعلق بواقع متخيل لا يعرف عنه المخرج أي شيء. الإشكالية في الفيلم تتمثل في مدى دقة التفاصيل، التي يبدو معظمها غربيًا، عملية الاقتراع التي تحدث على الطريقة الكنسية على سبيل المثال، شخصيات الفيلم الشريرة تتحدث بشكل كاريكاتوري مبالغ به، وأحداث الفيلم لا تبدو مستندة إلى أي فهم للوضع المصري الحالي، مجرد خيالات يمتلكها المخرج، ربما لو ذهب الفيلم في اتجاه أكثر تجريدًا وترك الواقع وراءه لصنع حكاية أفضل بكل تأكيد، لكن بالطبع بالنسبة لمشاهد غير عربي يبدو هذا الفيلم ذكيًا للغاية، الأمر الذي يتأكد بحصول الفيلم على تقييمات نقدية ممتازة من العالم غير العربي، وأخرى سيئة من النقاد العرب.
زيارة للتاريخ الفرنسي-العربي وبطل يقطن القاهرة
الفيلم الثاني الذي يتخذ من الجزائر موقعًا له، هو (الحركيون) لفيليب فوكون، وتدور أحداثه قبل تحرير الجزائر عن مجموعة الحركيين – وهم الجزائريون الذين انضموا إلى الجيش الفرنسي مقابل وعود بتجنيس وسفر إلى فرنسا – وعن علاقة ضابط فرنسي بمجموعته من الحركيين أو “الحركة”. يذكرنا الفيلم إلى حد ما بفيلم شاهين وداعًا بونابرت إذ يصور ضابطًا فرنسيًا يرفض التخلي عن مجموعته بعد تحرير الجزائر، ويصور مدى تساؤلاته المتعلقة بالآخر، وكيف أن كل طرف له منطقه، لكن تبقى النظرة مثالية أو خارجية بعض الشيء.
في فيلم رشيد بوشارب (إخوتنا) الحكاية تبدو أكثر منطقية، إذ إن المخرج الفرنسي جزائري الأصل، يستند إلى حكاية مهاجرين عرب فرنسيين، مبنية على قصة حقيقية لاحتجاجات ضخمة حدثت في فرنسا إثر مقتل المهاجر الجزائري مالك أوسكين عام 1986 على يد عناصر من الشرطة. يستخدم بو شارب في الفيلم مزجًا بصريًا بين لقطات أرشيفية ولقطات روائية تمثيلية، وبرغم أن تلك الأحداث قد مر عليها أعوام، إلا أن تصاعد أصوات مؤيدي اليمين الفرنسي وماري لوبان، تقول إن تلك القصة القديمة لا تزال مناسبة تمامًا لوقتنا الحالي
أخيرًا يستخدم ماريو مارتوني في فيلمه (نوستالجيا) مصر كمكان عاش به البطل لمدة 40 عامًا قبل أن يعود مجددًا إلى بلده نابولي، كما يستخدم أغنية لفرقة كايروكي في الفيلم، لكن تلك الاختيارات التي كان من الممكن أن تكون في أي مكان آخر، تبدو مكملة للحكاية وليست أساسها، الأمر الذي يجعلها غير مزعجة في إطار سرد الفيلم.
ثلاثة أفلام تونسية: حرائق وأشجار
فيلم يوسف الشابي (أشكال) يبقى اللغز الأكبر ضمن الاختيارات العربية. رغم أن فيلم يوسف السابق “تسمع ما كان الريح” كان تجربة ناجحة إلى حد معقول، إلا أن عمله الأحدث هنا ما هو إلا مجرد فيلم شكلاني بحت، يعتمد نفس أسلوب التصوير الخاص بفيلمه السابق، ونفس أجواء الفيلم الأسود “النوار”، يسرد سلسلة من حوادث حرق الذات ويربطها بجرائم غامضة ومحققين في منطقة مهجورة تدعى حدائق قرطاج، وهي تشبه لمدينة غير مكتملة البناء، دون التفات إلى رداءة السيناريو وتفككه للنهاية، فيلم ملفق في كل تفاصيله للوصول إلى نهاية شكلانية بحتة منفذة بشكل سيئ تقنيًا، الأمر الذي يثير التساؤلات حول اختياره للعرض في نصف شهر المخرجين، خاصة مع وجود فيلم تونسي آخر في ذات القسم!
يستخدم (حرقة) للطفي ناثان –المشارك في قسم نظرة ما- أيضًا ذات الرمزية المتعلقة بحرق الذات، ليحمل عنوانه معنى مزدوجًا بين كلمة (حرقة) التي تعني بالعامية التونسية الهجرة غير الشرعية وبين المعنى المباشر. (حرقة) فيلم سياسي أيضًا، لكنه يتمسك بحكاية واضحة، عن بطل صعلوك يحاول بشتى الطرق التأقلم وكسب عيشه للخروج من وضعه المتأزم ومساعدة إخوته، لكنه لا يستطيع الهرب معظم الوقت من نظرة المجتمع أو السلطة إليه. الفيلم مصور بشكل جيد، وبه استخدام بصري جيد لعوالم الصحراء والمدينة، إضافة إلى أداء ممتاز لآدم بيسا بطل الفيلم.
الفيلم التونسي الثالث هو (تحت الشجر) لأريج سحيري، المشارك في قسم نصف شهر المخرجين، وهو فيلم يبتعد عن السياسة ويقترب أكثر إلى تصويره لبورتريه لعاملات وعمال في بستان تين، حكايا وحبكات صغيرة تمتلكها شخصيات الفيلم، كأن الفيلم بمثابة قضاء يوم في ذلك البستان. مع اختلاف شخصيات الفيلم، بين التفتح والانغلاق وبين الخير والشر، يبدو البستان كميكروكوزم للمجتمع التونسي بشكل ما، واعتمادًا على الحوارات والأحداث الصغيرة التي تحدث لبطلة هنا أو بطل هناك، يتعرض الفيلم لقضايا معاصرة يعيشها المجتمع التونسي من الحرية الشخصية والتحرش في أماكن العمل والأوضاع الاقتصادية البائسة وغيرها، لكن دون إشارات صريحة إلا في بعض المشاهد التي تتحدث فيها البطلة وكأنها تتحدث على لسان المخرجة وليس الشخصية، لكن الفيلم إجمالًا هو الأفضل بين الثلاثة أفلام التونسية المشاركة.
عن الصداقة والحب والمقاومة
من لبنان، يشارك علي شري، الفنان البصري الشهير، بفيلمه (السد) المعروض في قسم نصف شهر المخرجين، الذي يحكي حكاية ماهر، عامل صناعة الطوب والبناء في السودان. الفيلم لا يمتلك حكاية واضحة، رغم أننا قد نخمن ما يدور الفيلم حوله من خلال مواقع التصوير، الجمل المعارضة للنظام المكتوبة على الحوائط، صوت الفيديوهات التي يستمع إليها العمال، هي حكاية عن رجل يحاول بناء وطنه، لكن تلك الحكاية محكية بشكل بصري به الكثير من التجريب والمخلوقات الخيالية، هي حكاية عن المقاومة والتعلق بالأرض، لكن الفيلم الممتاز بصريًا، يمتلك في معظم الأحيان غموضًا فجًا، ما قد يخلق انطباعات متفاوتة عند مشاهدته!
الفيلمان الأخيران في القائمة هما (حمى البحر المتوسط) للمخرجة الفلسطينية مها الحاج و(أزرق القفطان) للمخرجة المغربية مريم توزاني، وهما الفيلمان الأكثر اكتمالًا ضمن الأفلام العربية المعروضة. “حمى البحر المتوسط” يحكي قصة روائي مكتئب يتحدث دائمًا عن رغبته في الانتحار، تبدو حياته اعتيادية حتى وصول جاره المزعج إلى بيته الجديد، تبدأ علاقة صداقة ممتدة بينهما يطلب فيها الروائي من جاره –المرتبط بعالم الإجرام– أن يفرجه ذلك العالم لأن روايته مرتبطة به، لتبدأ علاقة صداقة يكتشف كلا منهما فيها الآخر وذاته أيضًا. الفيلم مدفوع بشخصياته أكثر من وجود قصة واضحة، لكن جودة كتابة شخصياته وصيرورة أحداثه كانت من الأسباب التي منحته جائزة أفضل سيناريو في قسم (نظرة ما) بلا شك.
الفيلم الأخير هو أحدث أعمال المخرجة المغربية مريم توزاني، صاحبة فيلم (آدم)، ويدور حول خياط وزوجته يصران على استخدام الطريقة التقليدية في صناعة الملابس المغربية، ويخيطان أفضل الملابس مهما استغرفت صناعتها، يبدوان من زمن بعيد يحتفي بالجمال، ويقعان في مساحة خارج الزمن. ينضم إليهما متدرب جديد شاب في محل الخياطة، ورغم ترك معظم المتدربين العمل معهما بسرعة شديدة، فإن هذا الشاب يقلب الأمور رأسًا على عقب، فالزوج، المحب لزوجته على المستوى العاطفي، مثلي الهوية الجنسية لكنه يحاول قمع ذلك الأمر حتى وصول ذلك الشاب. تصور المخرجة علاقات الزوج، الجنسية فقط، بشكل متوارٍ وبه إحساس بالخزي نوعًا ما، لكن مع تقبله للأمر، يأخذ تصوير علاقة الحب اتجاهًا صوفيًا. الفيلم لا يصور العلاقات بشكل واضح، وأعتقد أن هذا نوع من قرارات المخرجة، التي تركز على علاقات الحب، والتي تسعى لعرض فيلمها في العالم العربي. حياكة القفطان هي كغزل نسيج متلاحم من عناصر كثيرة متفرقة، وهكذا هو الفيلم عن الحب والتقبل لأي شكل من أشكال هذا الحب. إضافة إلى ذلك، يحتفظ الفيلم بأجواء بصرية تركز على التفاصيل وتخلق عالمًا شديد الحسية، وهي ذات الأجواء البصرية لفيلمها السابق، لكن هذه المرة تجعل جودة السيناريو من “أزرق القفطان” فيلمًا متكاملًا للغاية يصعب نسيانه!
إجمالاً، تعد المشاركة العربية هذا العام في مهرجان كان ناجحة ومؤثرة، إذ حصلت تلك الأفلام على تقييمات نقدية عديدة، وحققت نجاحات كبيرة على مستوى الجوائز، إذ فاز فيلم (ولد من الجنة) بجائزتي أفضل سيناريو وفرانسو شاليه في المسابقة الرسمية للمهرجان، وفي قسم (نظرة ما) فاز فيلم حمى البحر المتوسط بجائزة أفضل سيناريو وحصل (أزرق القفطان) على جائزة الفيبريسي –الاتحاد الدولي لجمعيات نقاد السينما– ونال آدم بيسا بطل فيلم (حرقة) جائزة أفضل ممثل. إضافة إلى ذلك، فاز فيلم (تحت الشجرة) بجائزة إيكو برود المتوجهة للإنتاج الأخضر، وتُمنح من أحد شركاء قسم نصف شهر المخرجين غير التنافسي بالأساس.