هل يمكن لشباب الأطباء تجنب السكتة القلبية؟
القصة التالية مقتبسة من واقعةٍ حقيقية لطبيب شاب راحل:
بدأ التبرُّمُ يغزو وجهَ استشاري الجراحة، ويحتلُّ بعضَ المساحات التي يسيطر عليها الأرق والإرهاق الشديديْن، ولم تكن وجوهُ الأخصائيين المحيطين به أقل أرقًا وإرهاقًا وتبرُّمًا، فقد كانت نوبتجية مرهقة للغاية في هذا المستشفى العام، تضمَّنت 6 حالاتٍ جراحية طارئة، ولا يزال هنالك حالتيْن أخرييْن، في ليلةٍ يبدو ليلُها سرمديًّا.
هكذا قطع الاستشاريُّ الصمتَ الذي فرضه الإجهادُ على غرفة انتظار عمليات الطوارئ، بينما كانت أصابعه تعبث في شاشة هاتفه الذكي. ذكَّره أحدُ الأخصائيين بأنه استأذن للزحام إلى دورة المياه في سكن الأطباء القريب، قبل العملية التالية.
في الدقائق التالية، انهمك القابعون في الغرفة في نقاش لا يهدف إلا لحرق الوقت وتصفية الذهن، ريثما يعود طبيبُ التخدير. استمرَّ الانتظارُ لأكثر من نصف ساعة تالية، فسيطر الغضب على الاستشاري، وأصرَّ أن يصطحب معه اثنين من الأخصائيين ويذهبوا بأنفسهم إلى السكن لكي ينفجر في وجه طبيب التخدير الذي أضاع ما يقارب الساعة، متوعدًا أنه إن وجده يأكل أو نائمًا، فلن يكتفيَ بإهانته، إنما سيكتب في حقه شكوى قد تضره في العمل.
وصل الجراحون إلى السكن، وأكد لهم حارس السكن أن طبيب التخدير قد دخل بالفعل منذ ساعة، لكنه لم يخرجْ، لم يعثروا على طبيب التخدير في غرفة راحة أطباء التخدير، ولا في أي غرفة أخرى، فاتجهوا إلى آخر مكانٍ لم يبحثوا فيه، وهو دورة المياه، والتي لم يكن فيها سوى بابٍ واحدٍ مغلق، والصمت المُطبق.
نادوا بصوتٍ جهوريٍّ على طبيب التخدير، فلم يُجبْهمْ سوى صدى أصواتهم التي بدأ القلق والاضطراب يغزوانها. بعد دقائق من الحيرة، كان القلق قد سيطر عليهم بشكلٍ تام، فاستدعوا حارس السكن وأحد العمال وقرروا اقتحام الباب المغلق، وهنا كانت الصدمة المفجعة التي ستنحفر في قلوبهم وعقولهم، فقد كان طبيب التخدير ممددًا على الأرض، وينطق جسمه بكل علامات الموت التي يعرفونها جيدًا.
دفعتهم الصدمةُ وحالة الإنكار إلى بدء محاولةٍ -حتمية الفشل- للإنعاش القلبي الرئوي، استمرت لأكثر من نصف ساعة، قبل أن يذعنوا لحقيقة الموت المؤلمة.
احتمالات إصابتنا بالسكتة القلبية
ما نقصدُه بالسكتة القلبية هنا هو ما يسمَّى بتوقُّف أو موت القلب المفاجئ، حيث يتوقف القلب على حين غرة بدون مقدمات مرضية واضحة في أغلب الحالات، فتنقطع الدورة الدموية فورًا، وتصبح الوفاة حتمية خلال دقائق معدودة إذا لم يبدأ الإنعاش القلبي الرئوي فورًا بمجرد توقف القلب.
غالبًا ما يكون سبب موت القلب المفاجئ لشاب غير مصاب بأمراض مزمنة كالضغط والسكر وارتفاع الكولسترول … إلخ، هو اضطرابات كهربية خطيرة في القلب مثل الرجفان البطيني VF، حيث يتوقف الانقباض الطبيعي للبطين الأيسر للقلب والمسئول عن توزيع الدم للجسم بأكمله، ويبدأ في ارتجافات سريعة للغاية لكنها غير فعالة، فيصبح في حكم المتوقف عن العمل، وتتوقف الدورة الدموية فورًا، وتنقطع التغذية الدموية الحيوية عن كل الأجهزة الحيوية في الجسم لا سيما المخ.
تنجم تلك الاضطرابات إما عن جلطة حادة كبيرة في شرايين القلب، تقطع الدم عن أجزاء مؤثرة من عضلة القلب، وهذا هو السبب الأرجح، أو أن يكون هذا الشاب مصاب بإحدى الحالات المرضية الوراثية النادرة التي تجعل القلب غير مستقر كهربائيًّا، وينشط هذا الاختلال غير الظاهر في أوقات الضغط النفسي والعصبي والجسدي الشديد، الذي يضغط فيه على القلب إفرازات زائدة من هرمونات التوتر والضغط، والتي تنشط القلب بشكل فائض عن الحدود الطبيعية مثل الأدرينالين والنور-أدرينالين والكورتيزون … إلخ.
ومن يظن أن عنوان المقال يحمل بعض المبالغة أو التشاؤمية الزائدة من كاتبه، فما عليه سوى أن يزور الصفحة الرسمية لنقابة أطباء مصر على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك، وسيجد العشرات من منشورات النعي لأطباء شباب تحت الأربعين عامًا، توفي أكثرهم فجأة أثناء نوبة عمل ضاغطة في المستشفى، وآخرهم قبل كتابة هذه الأسطر د. محمود عبد الوارث، طبيب أمراض الجهاز الهضمي والمناظير، الذي أصيب بجلطة حادة كبيرة في القلب أثناء نوبتجية عمله في مستشفى منشية البكري بالقاهرة، ولم تنجح جهود إسعافه.
اقرأ: دليلك الشامل للتعامل مع حالات الطوارئ الطبية الحرجة.
سبل الوقاية
لأن كاتب هذه السطور يُعتبَر رقميًّا من الأطباء الشباب، فقد استخدمتُ في العنوان الفرعي السابق ضمير الجمع (نا)، لأُذكِّر نفسي مع أقراني بما ينبغي علينا فعله لمحاولة تقليل احتمالات إصابتنا بهذا الموت الخاطف الذي يقصف الأعمار، ويفجع قلوب الأهل والأحباب. وغني عن الذكر أن كلامي هنا وإن كان موجَّهًا للأطباء بشكل خاص، فيمكن تعميم أكثره على كل الشباب الواقع تحت ضغوط حياتية ونفسية وجسدية مماثلة.
1. لا تنهَ عن إهمال المتابعة الطبية.. وتأتيَ مثلَها
للأسف الشديد، ودعونا نكون صرحاء مع أنفسنا، الأطباء -ولا سيَّما الشباب منهم- هم أكثر أصناف المرضى إهمالًا فيما يتعلق بالحفاظ على صحتهم، ويتكاسل أكثرهم عن الكشف الطبي المبكر في حالة الشعور بأعراض مرضية، ويكتفون بتعاطي العقاقير المسكنة، وعلاج الأعراض، وأحيانًا محض التجاهل.
هناك أعراض مهمة لا ينبغي أبدًا تجاهلها مثل الصداع الشديد المتكرر، والذي قد يكون من أعراض ارتفاع ضغط الدم، وآلام الصدر مع المجهود، والتي قد تعني وجود ضيق في الشرايين التاجية للقلب قد يتطور في أي لحظة إلى انسداد تام للشريان بجلطة حادة، قد تؤدي إلى السكتة القلبية. والإغماء القصير المفاجئ قد يكون اضطرابًا كهربيًّا خطيرًا في القلب أدى إلى توقف القلب مؤقتًا.
2. تخفيف الضغوط النفسية
كما ذكرنا آنفًا، يزيدُ الضغطُ النفسي والعصبي إفرازَ هرمونات الضغط والتوتر كالأدرينالين، والتي ترفع ضغط الدم، وتحفز الاضطرابات الكهربية للقلب، وترفع احتمالات الإصابة بالسكتة القلبية.
ويسير تخفيف الضغوط النفسية في مساريْن رئيسيْن. خارجي إن أمكن؛ بمحاولة جعل نمط الحياة، وجدول المهام، أكثر إنسانية وتنظيمًا، وأقل ضغطًا. وداخلي؛ في تقوية السلامة النفسية وتعلُّم مهارات السيطرة على الضغط النفسي، ويمكن في هذا الاستعانة بالمعالجين النفسيين المحترفين، والقادرين بالحديث المتكرر مع الشخص تبيُّن نقاط الضعف التي تفاقم الشعور بالضغط النفسي، واقتراح تدريبات نفسية لتخفيف الشعور بالضغط النفسي، والتأقلم الإيجابي معه.
ويمكن الولوج إلى تخفيف الضغط النفسي عبر بوابة الصحة الجسمانية، عبر ممارسة الرياضة المعتدلة عدة أيام أسبوعيًّا، ولو مجرد المشي لنصف ساعة يوميًّا، وممارسة الألعاب الجماعية برفقة الأصدقاء مثل كرة القدم مرةً أو اثنتيْن أسبوعيًّا، كما يساهم الطعام الصحي مثل الخضراوات والفواكه والأسماك في تخفيف التوتر والضغط النفسي، لا سيَّما إن صاحبَه تقليل من الأطعمة السكرية والدهنية عالية السعرات. وهذا النمط الغذائي الصحي له دور مباشر في الحفاظ على صحة القلب بوجه عام.
ومن أوجب الواجبات، الحفاظ على وقت مقدس لأداء العبادات وتجديد الطاقة الإيمانية، ولزيارة الأقارب والأصدقاء، ولممارسة الهوايات كالقراءة … إلخ.
اقرأ: هل يساعد التدين المكتئبين: العلم يجيب
3. التخلص من العادات الخطرة
مع تفاقم الضغوط المادية والنفسية على شباب الأطباء، والصراع على جبهات متعددة بين السعي للرزق في العمل الخاص والحكومي وتحضير رسائل الماجستير والدكتوراة، أو الزمالة المصرية، والواجبات الأسرية والاجتماعية، والقلق النفسي وجلد الذات نتيجة العجز عن الوصول إلى أداء مُرضٍ في كل تلك الملفات … إلخ، أصبح نمط الحياة لأغلب الأطباء في مصر خطيرًا من منظور الصحة والطب الوقائي، وانتشر الكثير من العادات الخطيرة تحت لافتة تخفيف الضغوط.
تصاعدت ظاهرة التدخين بين الأطباء الشبان -بل امتدَّت إلى بعض الطبيبات- حتى منْ يعملون في تخصصاتٍ تُبرز مدى كارثية التدخين، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية، والأمراض العصبية والنفسية … إلخ. والتدخين أشد عوامل الخطر التي تسهل الإصابة بجلطات القلب الحادة، وبالسكتات القلبية. وللاطلاع على المزيد حول أخطار التدخين المثبتة، وكيفية التخلص منه، يمكن مراجعة مقاليْ: (التدخين والصحة: لا داعي للمبالغة) و(6 خطوات للإقلاع عن التدخين: الإرادة ليست منها).
أما الطعام، فحدث ولا حرج. قليلًا ما يستطيع الطبيب الشاب أن يتناول طعامًا منزليًّا صحيًّا، بنظام وقتي سليم. فالأصل لدى الكثيرين لا سيما في نوبتجيات العمل هو الوجبات السريعة مكثقة النشويات والسكريات والدهون المشبعة، وكلها خطيرة على شرايين القلب كما نعرف جميعًا، والوجبة الرئيسة في المنزل، هي وجبة عشاء ثقيلة في آخر الليل، تُختزَن، وترفع معدلات السكر والدهون، وتزيد فرص الإصابة بالسمنة.
يمكن التخفف من الكثير من هذا، بأن نصطحب معنا من المنزل حقيبة طعام صغيرة، بها بعض قطع الفواكه والخضراوات، أو اللحم والسمك المشوييْن، لتناولها أثناء العمل. ويمكن تطبيق نظام الصيام المتقطع من 12-16 ساعة، لإنقاص الوزن، مع شرب الماء بوفرة. ويجب أن تكون وجبة العشاء هي الأخف، والأقل في السعرات الحرارية، وألا تسبق النوم بأقل من 3 ساعات.
اقرأ: دليلك لحمية غذائية غير مؤلمة.
اقرأ: أكتئب فآكل أكثر فأكتئب وآكل مجددًا: ما حل هذه الدوامة؟
4. ناموا تصحوا
رابع المستحيلات لأغلب أطباء مصر -باستثناء قلة من التخصصات أو من تركوا مجال الطب واتجهوا لغيره- بعد الغول والعنقاء والخل الوفي، هو النوم الجيد غير المؤرَّق ليلًا، ويكفي أن غالبية أطباء مصر لا يملكون رفاهية إغلاق هواتفهم ليلًا، لا سيما التخصصات المتعلقة بالحالات الطارئة والحرجة مثل أمراض القلب والتخدير … إلخ.
الحدُّ الأدنى من النوم الصحي ليلًا هو 6 إلى 8 ساعات يوميًّا، والحرمان من الحصول على هذا الحق الفطري لفترات طويلة كارثيٌّ صحيًّا، حيث يرفع بشكل خطير احتمالات الإصابة بالأمراص المزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم، ومضاعفاته الخطيرة مثل جلطات القلب والمخ، والسكتات القلبية بالطبع.
بالطبع يحتاج ضمان الحصول على النوم الجيد إلى تغيير شامل في نمط الحياة، وتنظيم فعَّال لليوم، وهذا يصعب كثيرًا مع النمط المفروض على معظم الأطباء الشباب، لكن ما لا يُدرَك كلُّه، لا يُترَك جُلُّه، أو حتى بعضه، ويمكن لبعض النصائح التالية أن تحسن الأمر:
- تقليل كميات الكافيين، والامتناع عن شرب القهوة ليلًا.
- تقليل إضاءة الهاتف الذكي مساءً، وتقليل استخدامه في الساعتيْن الأخيرتيْن قبل النوم.
- تجنب أخذ قيلولة من بعد وقت العصر، حتى لا يُصعِّب هذا من النوم المبكر ليلًا.
- زيادة الاسترخاء قبل النوم مباشرة، بأخذ حمامٍ دافئ على سبيل المثال.
- النوم في غرفة يميل جوها إلى البرودة قليلًا.
- ممارسة الرياضة نهارًا (وليس متأخرًا بالليل).
- تناول بعض العقاقير الصحية مثل الميلاتونين تركيز 1.5مجم – 5 مجم، والتي تساعد على النوم العميق، عندما تُؤخذ قبل النوم بنصف ساعة، ولا تُسبِّب الإرهاق نهارًا، ولا التعود والإدمان.