الأهازيح الكروية: هل يمكن أن تربح مباراة كرة قدم بالصوت؟
عقب المباراة الأخيرة بين مانشستر يونايتد وتشيلسي في الدوري الإنجليزي الممتاز الموسم الماضي، التي انتهت بخسارة الأخير في موسم كارثي تمامًا، شرعت الجماهير الزرق تغني: «لا تظنوا أنكم مميزون، نحن نخسر كل أسبوع».
تلك الأهزوجة الساخرة، التي لا تخص تشيلسي وحده، وإنما تتعاقب عليها الأندية كلما مرت بفترة سيئة، هي محاولة الجمهور للتخفيف من وطأة الخسارة، التي وإن تكررت كل أسبوع فلا يمكن اعتيادها أو التصالح معها، ولكن، ألم تخلق الأهازيج والهتافات من أجل التسلية لتجاوز لحظات كهذه؟
من هدهدة الجدّات للأحفاد قبل النوم، إلى حث الجنود على السير بهمّة نحو حتوفهم، مرورًا بمسارح كرة القدم، تبقى الأهازيج وسيلة سهلة لحقن المشاعر في الوريد مباشرةً. تذهب لحضور المباراة كما تذهب لمشاهدة فيلم أو عرض مسرحي، وما بدأ كفعل مشاهدة بسيط، تحول إلى تفاعل كامل بالصوت والحركة والوجدان، بشكل جمعي متآلف مؤثر، وكأنك فرد في جوقة موسيقية على عكس الفيلم الذي يفضل البعض الذهاب إليه مرتديًا عباءة الناقد السينمائي.
إذن، فالأهازيج جزء أصيل من كرة القدم، ولكن لأي درجة يمكن أن تؤثر على اللاعبين وعلى الجمهور الذي يطلقها، وكيف يمتد هذا التأثير خارج إطار اللعبة، إلى التاريخ واللغة والمجتمع والسياسة؟
أنا أهتف، إذن أنا موجود
يرى «نيك ميلر» الصحفي في «ذا أثليتك» أن الهتافات في كرة القدم كانت وستظل شيئًا خاصًا بالجماهير، عصيًا على التطويع أو السلب مهما كان الغرض. ليس لأنها تتجاوز الأنا إلى المجموع، وتمد جسورًا للتواصل مع الآخر الذي تجمعنا به مشتركات كثر فحسب، وإنما أيضًا لأنها تمنحنا الوسيلة للتعبير عن أنفسنا وهوياتنا بأريحية، في زمان ومكان تشخص فيه الأبصار نحو الكرة التي تُركل واللاعب الذي يُسجل والمدرب الذي ينفعل.
ومن هذا المنطلق أيضًا، يُرجع «فرانك مونغان»، البروفيسور في قسم اللغويات التطبيقية في الجامعة المفتوحة، خصوصية أهازيج كرة القدم دون كل وسائل الترفيه الأخرى، إلى أنها تمثل فرصة لأولئك الجماهير أن يرتقوا من دورهم السلبي المقتصر على المشاهدة فحسب إلى كونهم أعضاء فاعلين في اللعبة. ليس بركل الكرة تجاه مرمى الخصم ولا بالنيابة عن الحارس في إنقاذ هدف محقق، وإنما من خلال حيلة سيكولوجية بحتة أشار لها «توم بيتس» المتخصص في علم النفس الرياضي.
تهتف الجماهير للاعيبها فتشعرهم بمجموعة مشاعر من بينها الاستحقاق والأهمية والجدارة، وكلما زاد وعي أولئك اللاعبين بتلك القيمة التي يقدمها لهم الجمهور؛ زادت محاولاتهم لأن يكونوا على قدر تلك الثقة، فيبذلون جهدًا مضاعفًا، سيعود بدوره للجمهور الذي يحييه فوز فريقه، وترسله خسارته إلى بئر الكآبة.
في مباراة ليفربول ومانشستر سيتي على ملعب أنفيلد الموسم الماضي، انفرد محمد صلاح بالمرمى ليهدر فرصة محققة لإحراز هدف، فانبرى جمهور الأنفيلد يهتف باسمه ويغني أهزوجته الشهيرة: (مو صلاح..مو صلاح…مو صلاح. يجري عبر الجناح. صلاااااح، الملك المصري) بعدها بدقائق، عاد صلاح منفردًا بالمرمى يفترسه، وأمَّن الفوز للريدز.
تلك الفلسفة كانت حاضرة أيضًا في التصميم الهندسي لملعب نادي توتنهام الجديد، حيث صرح أحد المهندسين القائمين على المشروع بأن التصميم كان مكرّسًا بشكل كامل تجاه خلق أفضل الأجواء الممكنة.
الأهازيج، كحافظة للتراث واللغة
في كتاب «نحن نخسر كل أسبوع، تاريخ الأهازيج في كرة القدم»، يرى المؤلف أندرو لوان، أن أهازيج كرة القدم هي التجسيد الوحيد المتبقي للتراث الشعبي.
من وجهة نظر «لوان» فإن الأغاني القديمة والحكايات الشعبية كانت تتوارث شفهيًا قبل المحاولات الحديثة للتدوين والتسجيل، وبالطريقة ذاتها صمدت بعض الأهازيج من عصر سحيق حتى يومنا هذا، بنغماتها وألحانها وكلماتها، ولكن عبر المدرجات والحانات وتجمعات المشجعين في كل مكان.
ليس ذلك فحسب، لقد أصبحت تلك الأهازيج جزءًا من هوية أصحابها، بل وهوية الأندية التي ينتمون إليها، كعلامة للأصالة والعراقة، ومُخبرًا عن عشقهم لهذا النادي وتلك المدينة التي جاءوا منها. فإن مررت بمقهى مكتظ وسمعت أغنية «لن تسير وحيدًا أبدًا»؛ فتأكد أن ليفربول العريق يلعب، وإن عبرت أذنك عبارة «المجد، المجد، لمانشستر يونايتد» فإن السؤال يصبح تلقائيًا: من يواجه جانب مانشستر الأحمر؟
تلك الأهازيج ليست جميعها من ابتكار الجمهور، وإنما امتداد لأغان قديمة بتغيير طفيف في الكلمات مع الإبقاء على اللحن، وربما بالإبقاء عليها كاملة كما غنتها الفرق التي تنشط في المدينة ذاتها في علاقة تكافلية يحكي فيها أبناء المدينة شيئًا مميزًا عنها وعنهم، وتخلدهم المدينة بدورها في وجدان أبنائها ومحبيها للأبد.
على سبيل المثال، تحظى أهزوجة شيفيلد يونايتد بشهرة واسعة رغم خصوصيتها الشديدة في التغني بجمال المدينة وملذاتها وبعض معالمها:
وفي سياق متصل، أثبتت دراسة قدمت للمركز القومي للتقاليد الثقافية الإنجليزية، أن أهازيج كرة القدم أسهمت بشكل أساسي في الحفاظ على بعض الكلمات والألحان والتوصيفات والحكايات من الاندثار للأبد، وكأنها حمت موروثًا ثقافيًا ضخمًا كان قائمًا بذاته بين أفراد مجتمع تغير وجهه تمامًا وأعطت الباحثين مدخلًا للتعرف عليه لغويًا وأدبيًا.
الأهازيج: غصن زيتون وسكينة
مثل كل الأنشطة التي يتجمع حولها الناس، ويمارسونها بشكل جماعي، يمكن أن يصير فعل الهتاف والغناء أداة للتقارب والتفاهم، ويمكنه أن يتحول لوسيلة تحريض وإيذاء وعنف، بخاصة وأن سيكولوجية العداوات الكروية لا تخضع لأي بوصلة أخلاقية، مما يجعلنا نرى بعض المشجعين ينشئون هتافات تسخر من أحداث مأساوية وتجعلها مثارًا للتندر والاستهجان.
في بحث منشور على موقع BBC؛ يشرح «دانيل ريتشاردسون» المتخصص في علم النفس التجريبي كيف تتم التفاعلات داخل المخ وقت غناء الأهازيج، فتتغير على إثرها طريقة تفكير وتصرف أولئك المنخرطين فيها. يبتهج المكتئبون ويهدأ المرتبكون وتنتظم ضربات القلب ومعدلات التنفس على وقع اللحن الذي يتردد، إضافة للشعور الأساسي بالوحدة والترابط.
يمتد التأثير الإيجابي لتلك العملية، فيجعل ألسنة أولئك الجماهير –وربما قلوبهم- تتوق للسمو الوجداني واعتناق الأفكار الإيجابية، مثل الهتاف القديم لمحمد صلاح من جماهير ليفربول:
«إن سجل بعض الأهداف سأكون مسلمًا مثله/ وإن كان جالسًا في المسجد، سأحب أن أكون هناك».
لكن وبكل أسف، فإن العجلة تدور أيضًا في الاتجاه الآخر، وتلك الحالة من الترابط والوحدة، ثبت بالتجربة أنها تقلل من شعور أولئك الأفراد بالاستقلالية، مما يجعلهم أكثر تقبلًا للأفعال العدوانية والاعتداءات اللفظية والجسدية ليتحولوا لمجرد أرقامٍ في مجموع الفوضى.
الأهازيج والثورة: في بلادي ظلموني
قد تكون تلك الجملة مدخلًا كافيًا لفك اشتباك العلاقة المعقدة بين السياسة وجماهير كرة القدم، خصوصًا في المنطقة العربية. كانت مجموعات الألتراس من بين التنظيمات التي شاركت بشكل فاعل في ثورات الربيع العربي، وفي مصر بوجه خاصّ، وبالطبع كانت أهازيجهم حاضرة، محركة للثوار من جهة وموثقة للأحداث من جهة أخرى، وجامعة للاثنين في أحيان كثيرة.
في هتاف «شمس الحرية» لألتراس وايت نايتس، تجد توثيقًا لتلك المشاركة بمكونات الجمهور البسيطة في كل مكان الفِلام والصوت. «ولّع فلام، يمحي الظلام، ينشر حرية، يسقط النظام/ للكورة حياتي لكن لبلادي أموت وأفديها بعمري راح زمن السكوت».
في الكتاب الذي يضم مجموعة دراسات عن كرة القدم في الشرق الأوسط، ثمة دراسة مخصصة عن أثر الأهازيج والهتافات الكروية كتعبير سياسي في الجزائر، توضح أن الأهازيج الكروية لعبت دورًا كبيرًا في الحراك الذي أدى لاحتجاجات 2019 و2020 المناهضة للنظام الجزائري.
سعيد بنيس عالم الاجتماع المغربي، يرى أن المدرجات في المغرب صارت هي الميادين الجديدة. وفي ظل تدهور أوضاع الشباب ويأسهم من رؤية بارقة لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي؛ برزت الأهازيج كأداة مناسبة للمناداة بتحقيق ذلك الغرض، وقد نالت بعض تلك الأهازيج شهرت واسعة، لعل أبرزها «في بلادي ظلموني»، حيث يتساءل الجمهور المغربي كله: