هل يمكن لكأس العالم أن تساعد في التعافي النفسي؟
إذا كنت سأجيب على سؤال العنوان على الفور، ودون انتظار لاستطلاع أدلة العلم والبحث المتاحة، فستكون الإجابة البدهية هي: نعم بالطبع، بشرط أن يكون الفريق الذي أشجعه في كأس العالم هو الفائز بالكأس في نهاية المطاف، وألّا يتلاعب بأعصابي كثيرًا في الأوقات الحرجة لا سيَّما أثناء الأدوار الإقصائية.
لكن غنيٌّ عن الذكر أن احتمالات وقوع مثل هذا الحدث السعيد هي محدودة للغاية، خصوصًا بالنسبة إلى منْ يميل فطريًا إلى تشجيع الفرق الأضعف نسبيًا، مثل المنتخبات العربية والإفريقية التي عادةً ما تقتصر أقصى إنجازاتها على بلوغ الدور ربع النهائي (كان هذا قبل الإنجاز المغربي الاستثنائي في قطر 2022 بالصعود إلى المربع الذهبي). إذًا فهل الإجابة الأكثر منطقية على سؤال العنوان هي (لا)؟
لحسن الحظ، لن تكون الإجابة دائمًا هي (لا)، فلدينا الآن أدلة علمية متنوعة عن أن متابعة فاعلية رياضية استثنائية كبرى مثل كأس العالم يمكن بالوعي، وبالالتزام ببعض الشروط، أن تسهم بشكلٍ ملموس في تحسين الصحة النفسية، وتسريع التعافي من بعض الاضطرابات النفسية الشائعة مثل القلق والاكتئاب.
من البدهيات، أن الكثير من أفعالنا وانفعالاتنا يمكن أن تكون إضافة مهمة في مسار التعافي النفسي، ويمكن للأسف أن تُعرِّضنا للنقيض التام الذي لا نريده. وتسري تلك القاعدة على مشاهدة حدث رياضي ساخن ومشحون بالأحداث والمفاجآت التي لن تكون كلُّها من النوع السار، وهذا يفسر ما نراه من تضارب في نتائج الدراسات العلمية التي تناولت العلاقة بين مشاهدة الأحداث الكروية الكبرى، والحالة النفسية، فقد أظهر بعضها دورًا إيجابيًا، وحذر البعض الآخر من أدوارٍ سلبية.
وكذلك يلعب اختلاف سمات الشخصية دورًا كبيرًا في مدى إيجابية أو سلبية متابعة المناسبات الكبرى ككأس العالم، فمنْ ينفعلون بشدة لأصغر الأخطاء، أو لهدفٍ دخل في مرمى فريقهم المفضل، فالأولى ألّا يتابعوا من الأساس. أمّا نظراؤهم الأكثر سيطرة على الانفعالات السلبية، فيمكن للمشاهدة أن تحقق الأثر الإيجابي لهم.
والآن، عبر نقاطٍ موجزة، سنعرف كيف يمكن أن نأخذ مشاهدة كأس العالم إلى صفنا، لتكون دفعةً ملموسة في مسار التعافي من القلق والاكتئاب.
1. السيطرة على العادات غير الصحية
ترتبط مشاهدة مباريات كرة القدم في المناسبات الكبرى ككأس العالم، لدى عديد من المشاهدين ببعض العادات غير الصحية، التي تنعكس سلبًا على الصحتيْن الجسدية والنفسية، اللتيْن تعتبران مُتصَّلًا واحدًا لا ينفصل.
من أخطر تلك العادات شرب الكحوليات، لا سيّما إلى حد السُكر، والإسراف في تناول الأطعمة السريعة عالية السعرات، بخاصة تلك الغنية بالكربوهيدرات والدهون المشبعة، التي تزيد التوتر، وتُفاقم اضطرابات القلق. فإذا استطعنا في متابعتنا للأحداث الرياضية السيطرة على مثل تلك العادات، فإننا سنستمتع دون ثمنٍ باهظ، ونحافظ على سلامتنا نفسيًا وجسديًا.
اقرأ: أكتئب فآكل أكثر فأكتئب وآكل مجددًا: ما حل هذه الدوامة؟
2. تحرير حالتنا المزاجية من نتائج المباريات
يجب بمساعدة المُعالج النفسي أن نتدرب على ألّا تتأثر حالتنا المزاجية على المدى الأطول بنتائج مباريات الفرق التي نشجعها، فالاعتلال المزاجي يفاقم اضطرابات القلق والاكتئاب، وله انعكاسات جسمانية سلبية. أظهرت دراسة حديثة أن المشجعين لفريقٍ فائز، يكونون أفضل في حالتهم المزاجية، وبالتالي أقدر على اتباع نمطٍ غذائي أكثر صحية، بينما يكون نظراؤهم من مشجعي الفريق الخاسر على النقيض من ذلك، ويتناولون كمياتٍ أكبر من الأغذية غير الصحية الغنية بالدهون المشبعة والكربوهيدرات.
3. الهروب الإيجابي المؤقت من الضغوط
نحتاج جميعًا إلى كسر الحلقات المفرغة من الإحباط والقلق والضغوط التي ندور فيها، لإعطاء أعصابنا ونفوسنا هدنة إيجابية نواصل بعدَها الخوض في المُعتَرَك. يمكن لمنافسة استثنائية مثل كأس العالم أن تمنحنا تلك التذكرة للهروب المؤقت من المنغّصات، ومن الروتين اليومي المُرهق والقاتل للأعصاب وللسلامة النفسية، فنلتقط أنفاسَنا قليلًا، ونشحن البطارية النفسية.
والهروب الذي نريده هنا يختلف جذريًا عن الهروب السلبي الذي يتضمن ترك المشاكل العويصة تتفاقم دون حل، والاكتفاء بتجاهلها، مما يزيدها اشتعالًا، ويفاقم الضغوط علينا في نهاية المطاف.
4. الخروج من العزلة الفردية والاندماج في مجتمعٍ أكبر
الإنسان بطبعه يميل إلى الاجتماعية والتماهي مع كياناتٍ أكبر، والشعور بالانتماء الإيجابي لها، الذي يُضاعف المناعة النفسية، ويزيد القدرة على تحمل الضغوط. في المقابل، فإن العزلة الطويلة، والشعور بالوحدة، يفاقم أعراض القلق والاكتئاب، ويضعف الدفاعات النفسية أمامهما.
تتيح مشاهدة مباريات كأس العالم، وتشجيع فريقنا المفضل مع الكثيرين، أن نشعر بالتجمع الإيجابي، ونستمتع بالمشاركة الوجدانية الجماعية، فإذا انتصرنا، يكون للفوز مذاق مضاعف، وإن انهزم الفريق، يواسينا مشاركة كثيرين لنا في هذا.
ونحن نرى في هذه الكأس نموذجًا عمليًا للمشاعر الإيجابية العامة التي يستشعرها الملايين من المشجعين العرب والأفارقة وغيرهم نتيجة الأداء الاستثنائي، والنتائج المذهلة للفريق المغربي المتأهل إلى المربع الذهبي، وكيف تتضاعف تلك المشاعر الإيجابية، وتتوارى السلبية ولو مؤقتًا، مع كل انتصارٍ مغربي جديد.
اقرأ: كيف أحمي طفلي من الاضطرابات النفسية؟
5. تنمية الشعور الإيجابي بالذات
أظهرت دراسة نشرت عام 2019، أن مشجعي الفرق الفائزة، لا سيَّما الأكثر حماسة منهم، يشعرون بمشاعرَ إيجابية تجاه أنفسهم لأيامٍ بعد الفوز. مثل تلك الدفقات -ولو كانت مؤقتة- من الشعور الإيجابي تجاه الذات، يكون مرضى الاكتئاب بشكلٍ خاص في حاجة ماسة ولو إلى قطراتٍ منها، فالاكتئاب وجلد الذات لفترات طويلة، يجعل الشخص يرى نفسه وما حوله بنظَّارة سلبية معتمة للغاية بشكلٍ مستمر، وقد يصل بالبعض منهم في الحالات الأشد إلى احتقار الذات، واليأس من تحقيق أي شيءٍ إيجابي.
لذا، فالمنافسات الكبرى التي تتضمن مفاجآتٍ سارة غير متوقعة لبعض الفرق (التي نسميها اصطلاحًا بالأحصنة السوداء) تُنمِّي تلك الحالة الإيجابية، حيث تكسر النظرة المستمرة إلى أن السيئ المتوقع سيقع حتمًا، وتنقلنا إلى مربع أن الجيد غير المتوقع يحدث أحيانًا.
6. الأجواء العائلية
يمكن لتجمع العائلة، أو الأصدقاء المقربين، لمتابعة كأس العالم، أن يمثل دفعةً كبيرة للطاقة الإيجابية، وكسرًا للدوران الذي لا ينتهي في الروتين اليومي الفردي، وتجديدًا لأواصر العلاقة المتينة بين المقرَّبين، لا سيَّما إذا كانوا جميعًا يتشاطرون تشجيع نفس القريق، ويفرحون جميعًا فرحةً مضاعفة، والسعادة في تلك التجمعات تكون عدوى حقيقية، فيمكن لمن يصارع القلق والاكتئاب أن يجد في التجمع مع أحبابه حول نفس الهدف بعض الفائدة في التعافي النفسي ولو مؤقتًا مما يعانيه.
7. الاندماج التام في الحاضر، وتجاهل هواجس ما فات وما هو آت
عندما يندمج المشجع المتحمس في ثنايا المباراة الحماسية، فإن تشجيع فريقه يمتصه امتصاصًا ولو إلى حين من كل ما اعتاده من منغصات، ومن التفكير الزائد عن الحد في الإحباطات الماضية، وفي المخاوف من المستقبل المجهول. وأعصابنا البشرية تحتاج إلى مثل تلك الفواصل التي نُنتَزَع فيها انتزاعًا من همومنا ولو لمدة 90 دقيقة هي عمر المباراة، فالانغماس المتواصل في الهواجس والضغوط هو الطريق المُعبَّد السريع للوصول إلى القلق المرضي والاكتئاب الشديد. لا تترك «فيشة انفعالاتك» في المقبس دائمًا، حتى لا يتلف جهازك النفسي والشعوري الثمين.
مثل هذا التركيز على الحاضر وتفاصيله، ينصح به كثير من المعالجين النفسيين، ويعتبرونه من أهم مظاهر اليقظة العقلية الإيجابية mindfulness، التي ينبني عليها وعلى تدريباتها النفسية (مثل العلاج الجدلي السلوكي DPT) كثير من برامج التعافي النفسي من القلق والاكتئاب.
8. العودة الشعورية إلى فترات كنّا فيها أفضل
يحتفظ عديدون منا، لا سيَّما الشباب، بذكرياتٍ تتعلق بكأس العالم، نشعر تجاهها بذلك الحنين الدافق، لا سيَّما الكأس الأول الذي تفاعلنا مع أحداثه بعد أن أصبحنا نمتلك الحد الكافي من الوعي للمتابعة ولتسجيل الذكريات. وعندما نتابع أحداث الكأس الحالي، فإننا بشكلٍ غير واعٍ نستعيد بعضًا من مشاعرنا الإيجابية السالفة التي كنا نهنأ بها في الزمن الفائت، ونتمثَّل بعض تلك الذكريات الجميلة، وهذا يساهم ولو مؤقتًا في تخفيف أعراض الاكتئاب والقلق.
9. من الشاشات إلى الملاعب
من أفضل الانعكاسات الإيجابية لحُمّى المنافسات الرياضية الكبرى مثل كأس العالم، تذكيرُنا جميعًا بأهمية الرياضة من أجل الصحتيْن النفسية والجسدية، التي ذكرنا كيف أنهما وجهان لعملةٍ واحدة. ويمكن للحماسة الكروية، والغيرة الإيجابية من قوة أجساد ولياقة لاعبينا المفضَّلين، أن تدفعنا إلى التجمع مع أصدقائنا، ومشاطرة ممارسة كرة القدم، وغيرها من الرياضات المعتدلة والممتعة بشكلٍ منتظم، إلى جانب المشاركة في المشاهدة والتشجيع، وهذا يجعل المكسب من متابعة كأس العالم مضاعَفًا، وأكثر استدامة.