هل يمكن الخضوع لسلطة ذات أوامر تتناقض مع ضمائرنا؟
مضت خمسة عقود على واحدة من أشهر التجارب في علم النفس الاجتماعي، وقد تم مؤخرًا إلقاء الضوء على الأسباب التي جعلت نتائج هذه التجربة بمثابة صدمة قوية لعلماء علم النفس.
أراد العالم ستانلي ملجرام دراسة مدى الانصياع للسلطة، وحقيقة الصراع القائم بين طاعة الأوامر والضمير الشخصي؛ لذلك بدأ تجربته المشهورة في شهر يوليو من عام (1961) بعد فحصه المبررات التي قدمها المتهمون بالإبادة في محاكمات نورمبرج المشهورة، مدفوعًا ببعض التساؤلات حول إمكانية استعداد البشر لإطاعة سلطة ذات أوامر تتناقض مع ضمائرهم، وهل يمكن أن يكون دور الجنود الذين قاموا بالهولوكست لم يتعدَّ مرحلة تنفيذ الأوامر؟ هل الجنود شركاء في هذه الجريمة؟
يقول ملجرام:
كانت طريقة الاختبار في تجربة ملجرام تتمثل بوجود مشرف وليكن (س) يضغط على المشارك (ص) للاستمرار في أداء دوره في الاختبار رغم ما يسببه ذلك من ألم ناتج عن صعق كهربائي يصيب الممثل (ع) الذي يتظاهر بأنه يتعرض للصعق الكهربائي، لكن في الحقيقة لا توجد أيُّ صعقات كهربائية، وكان معظم المشاركين في الاختبار يستمرون في الصعق واستمرار دورهم رغم سماعهم صرخات المشارك الآخر (الممثل).
بدأ تجميع المشاركين من خلال إعلان في الجريدة يطلب أفرادًا للمشاركة في اختبار تجريه جامعة بيل، ونص الإعلان على أن التجربة تستغرق ساعة واحدة مقابل (4.5) دولار، وتراوحت أعمار المشاركين ما بين العشرين والخمسين عامًا ينتمون لمختلف المستويات الثقافية والاجتماعية.
يقوم المشرف قبل بدء الاختبار بإخبار كل من المشارك والممثل أن هدف الاختبار هو قياس أثر العقاب في عملية التعلم، لكن واقع الأمر أن التجربة تهدف في الأساس إلى قياس مدى خضوع وانصياع المشارك لأوامر المشرف، ولضمان نجاح التجربة كان من الواجب إخفاء حقيقة وهدف الاختبار.
يُجري المشرف قرعة وهمية بين المشارك والممثل تؤدي دائمًا إلى نتيجة واحدة وهي أن يكون المشارك معلمًا، وأن يكون الممثل متعلمًا، ليتأكد المشارك أن القرعة حقيقية ليس بها أي شك، وأن الصدفة وحدها جعلته يأخذ دور المعلم، كما قادت أيضًا المشارك الآخر في التجربة؛ لكي يلعب دور المتعلم، ثم يتم وضع المشارك والممثل في غرفتين متجاورتين بحيث يتواصلان بالكلام فقط، دون أن يشاهد أحدهما الآخر.
يُجرى الاختبار كالتالي: يتم تعريض المشارك لصعقة كهربائية تمثل العقاب الذي سيوجه للمتعلم (الممثل) عندما يقوم بخطأ ما، ويجلس المشارك في غرفة أخرى وأمامه على الطاولة جهاز الصدمات الكهربائية وله عدد من المفاتيح حيث يشير كل منها إلى شدة معينة للتيار، تتراوح ما بين (15) و(450) فولتًا.
يقدم المشرف للمشارك ورقة تحتوي على مجموعة من الكلمات المتقابلة التي يجب على المتعلم أن يحفظها، ويقتضي الاختبار أن يقوم المعلم بقراءة الكلمات المتقابلة كلها، وعندما ينتهي من قراءتها، يعود المعلم لكي يقرأ الكلمة الأولى مقدمًا أربعة احتمالات للكلمة الصحيحة المقابلة لها، ثم يقوم المتعلم بضغط زر أمامه يمثل الكلمة التي اختارها، فإذا أخطأ الاختيار كان على المعلم أن يقول له إنه أخطأ، ويخبره بشدة الصعقة الكهربائية التالية التي سيتلقاها نظير خطئه، ثم يضغط على الزر الخاص بالصعقة الكهربائية التي تناسب الخطأ، أما إذا أجاب المتعلم إجابة صحيحة يقوم المعلم بالاستمرار في الاختبار، وقراءة الكلمة التالية مع إعطاء الاحتمالات الأربعة لها، ويستمر في ذلك حتى تنتهي الكلمات، ثم يرجع ليعيد الكلمات من البداية إلى أن يتمكن المتعلم من حفظ الكلمات.
يعتقد المشاركون بالفعل أنهم يوجهون صعقات كهربائية حقيقية للمتعلم، لكن في واقع الأمر لا يوجد أي صعقات كهربائية، بل كان هناك تسجيل صوتي معد مسبقًا بصوت الممثل يصدر فيه صرخات تتزامن مع صوت الصعقات الكهربائية، وبعد عدة زيادات في شدة الصعقة الكهربائية يبدأ الممثل في إبراز ألمه أكثر عن طريق الضرب على الجدار الفاصل بين غرفته وغرفة المشارك عدة مرات، ويشتكي من الوضع الصحي لقلبه.
عبّر عددٌ من المشاركين عندما وصل الاختبار لهذه المرحلة عن رغبتهم في إيقاف الاختبار للاطمئنان على الوضع الصحي للمتعلم، وتوقف كثير من المشاركين عند صعقة كهربائية بلغت شدتها (135) فولتًا مشككين في الهدف من الاختبار، لكن هناك من استمر في الاختبار بعد أن بُلِّغوا بإعفائهم من أي مسؤولية، وبعض المشاركين كانوا يضحكون بانفعال شديد عند سماعهم صرخات الألم الصادرة عن المتعلم.
عندما يبدي المشارك في أي مرحلة من مراحل الاختبار رغبته في التوقف، كان يأتي دور المشرف حيث يوجه إليه سلسلة من الجمل تشجعه على الاستمرار:
وإذا ألح المشارك، وأظهر رغبته في التوقف بعد ذلك، يتم إيقاف الاختبار في الحال، وإلا فإن البديل سيكون قيامه بضغط زر الصعقة ذات الشدة 450 فولتًا الذي يعتبر مؤشرًا لنهاية الاختبار، ومع قيام المشارك بتنفيذ الصعقة الكهربائية يتم التوقف.
هذا وتم إجراء سلسلة من الاختبارات المشابهة في مناطق مختلفة من العالم وأدت إلى نتائج مشابهة حيث تبين أن عدد المشاركين المستعدين للاستمرار في التجربة حتى بلوغ الاختبار حد الصعقة القاتلة يتراوح ما بين (61%- 66%) بغض النظر عن مكان وزمان الاختبار، وهناك ملاحظة إضافية تقول إنه لا يوجد واحد من كل المشاركين الذين رفضوا الاستمرار في الاختبار لم يصرح أو يطلب على الأقل إلغاء الاختبار ووقفه نهائيًا، كما لم يقم أي من المشاركين بمغادرة غرفة الاختبار للتحقق من سلامة الشخص الآخر دون أن يطلب الإذن بذلك، وقام ملغرام بإنتاج فيلم وثائقي حول الاختبار ونتائجه تحت عنوان الطاعة، ويصعب الآن العثور على نسخ شرعية منه.
توقفت التجربة بعد فترة رغم نتائجها المذهلة عن النفس البشرية؛ وذلك لأنها تتعارض بشدة مع الجانب الأخلاقي، ورغم الانتقادات التي تلقتها التجربة، إلا أن (84%) من المشاركين، قالوا إنهم سعداء كونهم شاركوا في الاختبار، بينما أعلن (15%) أنهم غير مستائين، وأرسل الكثيرون شكرًا لملجرام، وتقدّم آخرون بطلبات للمساعدة أو الانضمام إلى فريق عمل ملجرام، ولكن هناك ناحية إيجابية، فبعد ست سنوات من التجربة إبان حرب فيتنام أرسل أحد المشاركين السابقين في الاختبار يشرح سبب سعادته كونه شارك في الاختبار قائلًا: «عندما شاركت في الاختبار، كنت أعلم تمامًا أنني أجعل شخصًا ما يتألم، لكنني لم تكن عندي أي فكرة لماذا أفعل ذلك. القليل من الناس يجدون الفرصة، كي يدركوا الفرق بين السلوك الذي يقومون به وفق معتقداتهم، وما يقومون به من أجل طاعة سلطة معينة. الآن بتُّ أشعر بخوفٍ من نفسي أن أسمح لها من جديد بالانجراف في ارتكاب أخطاء جسيمة بحجة تنفيذ أوامر السلطة. أنا على تمام الاستعداد أن أذهب إلى السجن ما لم يتوفر لدي حق الاعتراض على القضايا التي أجدها تتعارض مع ما أشعر به، ويمليه عليّ ضميري».
لماذا قد يتصرف الناس على ذلك النحو تجاه الآخرين؟!
مدفوعًا بالإجابة على هذا السؤال بعد خمسة عقود من التجربة، قام الدكتور باتريك هاجارد من جامعة لندن باستخدام تكنولوجيا جديدة لتوفير الإجابة.
حيث صرح الدكتور هاجارد قائلًا: «غالبًا ما يدّعي الأشخاص ضعف مسؤوليتهم لأنهم فقط يطيعون الأوامر، لكن هل يقولون ذلك لخوفهم من العقاب أم أن تأدية الأوامر تغير حقًا المفهوم الأساسي للمسؤولية؟!».
اختبر هاجارد ما يسمى الشعور بالقوة أو شعور الناس بأن أفعالهم قد تسببت بأحداث خارجية، وقد أثبتت بعض التجارب السابقة أن شعورنا بالقوة قادر على تغيير إدراكنا الحسيّ للزمن.
نحن معتادون على فكرة اضغط الزر فتُضىء اللمبة أي أن الفعل ونتيجته ليس بينهما فاصل زمني لذلك؛ فإن التأخير البسيط في العمليات الإدراكية غالبًا لا نستطيع ملاحظتها، ويمكننا قياس قدر المسؤولية التى نشعر بها من خلال الشعور الفوري بين الفعل والنتيجة، وفي دراسة سابقة وجد هاجارد أن الشعور بالقوة لدى العديد من الناس يمكن قياسه بالإدراك الحسي للزمن خلال الأحداث ذات النتائج الإيجابية وهذا ليس بالأمر الغريب فالإنسان دائمًا ما يعتقد أنه مسؤول عن إنجازاته أكثر من إخفاقاته.
هذا وجاءت الدراسة الجديدة لهاجارد بمشاركين كان عليهم إعطاء صدمات كهربية للضحايا أو بدلًا من ذلك يمكنهم أخذ المال، وكانت الصدمات حقيقية لكنها أقل من نظيراتها في تجربة ملجرام، وفي بعض الأحيان أجبَر المشرفون المشاركين على الاستمرار في التجربة وأحيانًا أخرى تُرك لهم الخيار، ولكن في المرات التي تُرك لهم الخيار فيها، فإن أغلبية المشاركين لم يقرروا فقط أخذ المال، وإنما صعق الضحايا أيضًا، وكشف الدكتور هاجارد أن المشاركين الذين لم يقرروا الاستمرار لاحظوا الفارق الزمنى بين الضغط على الزر وحدوث الصدمة، أما الذين قرروا أن يكملوا على نحو ساديّ وعدوانيّ فلم يلاحظوا أيَّ شيء.
أحيت تجارب الدكتور هاجارد النقاش مرة أخرى حول تفسير تجربة ملجرم، وربما ستعزز نتائج تجاربه الإجابة على سؤال آخر حول سبب قيام الناس بالاعتراض على الأوامر اللاأخلاقية وكيف يمكن للآخرين تعلم فعل ذلك؟