هل يمكن أن ننتقد مؤلفات التصوف ونفاضل بين الترجمات اليوم؟
قبل أيام قرأت أسئلة امتحان الفرقة الرابعة – قسم الفلسفة بكلية الآداب اندهشت أولاً من المقرر الدراسي وهو كتاب لرائد من رواد الثورة الروحية في العصر الحديث، أقدّره جدًّا وأقدر كتاباته نظرًا لإخلاصه في درس واعترافه بالتقصير ومحاولة تطوير نفسه وخبراته في هذا الفن على عكس ما نراه اليوم من دعاوى عريضة وتبجح كبير في الإلمام بكل الفنون!
عرفت من صديق عراقي يدرّس طلبة الفلسفة أيضًا أن نفس الكتاب مقرر على طلاب الآداب في العراق. (التصوف الثورة الروحية في الإسلام) لأبي العلا عفيفي كتاب مدخلي مفيد جدًا لدرس التصوف، ويمكن أن نضم إليه (مدخل للتصوف الإسلامي) لأبي الوفا التفتازاني، وكذلك (الحياة الروحية في الإسلام) لمحمد مصطفى حلمي، و(التصوف طريقًا ومذهبًا وتجربة) لمحمد كمال جعفر، مثل هذه الكتب رغم تطور المعارف اليوم وحركة نشر الكتب والمخطوطات لم يُكتب مثلها عربيًا.
وسبب دهشتي أن أغلب المشتغلين بالتصوف اليوم أو القراء الهواة لا شغل لهم إلا الانتقاد والمفاضلة بين هذا وذاك، ولا يعجبهم ما كُتب قديمًا أو حديثًا ومن العجيب أن من بين هؤلاء من يُدرّس طلابه ويقرر عليهم هذه الكتب! انتقاد هذه المؤلفات أمر محمود لا مذموم لكن كثرة الكلام ولا عمل هو ما يُذمّ، ولا أعرف كاتبًا عربيًا حتى اليوم قدّم نقدًا علميًا لهذه المؤلفات أو تحدث عنها وهو على دراية بمنبعثها أو كيف خرجت ولماذا كثرت مثل هذه المصنفات والتحقيقات لكتب التصوف في هذا الوقت في مصر وازدهرت حركة التأليف في التصوف بعدها في العالم العربي؟
لكن باحثًا تعلّم في الأزهر وأتقن لغة التصوف الفارسية والعربية، وهو من أصول هندية، كتب كتابًا صغير الحجم عظيم الفائدة في الانتباه إلى هذا الكم الكبير من مؤلفات التصوف العربية هو (دين محمد ميرا)، وهو عالم مطالع يذكّرني بالشيخ الخالدي الذي صحبه عبد الوهاب عزّام وروى عنه من المعارف ما يمكن اعتباره نواة لتاريخ الأدب العربي الذي كتبه فيما بعد بروكلمان.
طالع دين محمد ميرا مؤلفات التصوف العلمية والطُرقية والكتابات المضادة، وكتب عنها بإيجاز وتركيز ما يحسن اعتباره تقييمًا حقيقيًا لهذه المؤلفات، وحرص على أن يصدر هذا الكتاب في بلد الأزهر ويقدّمه شيخ الأزهر، ويمكن وصف دراسة دين محمد بالرائدة في حقل (التصوف المقارن)، فلم تقم على مجرد التقليد في الدفاع عن التصوف الإسلامي، أو اجترار ما كُتب في هذا الحقل على كثرته وتراكمه، وإنما جاء الكتاب ثمرة دراسة مقارنة بين مصطلح التصوف بحسبانه مصطلحًا مصكوكًا باللغة العربية، ومحمّلاً بدلالات وتجارب روحية شديدة الارتباط بدين له خصائصه.
جدير بالذكر أن دين محمد حصل في عام 1988 على درجة الدكتوراه من جامعة الأزهر عن أطروحته (الحب الإلهي في التصوف بين الإسلام والمسيحية)، فلم تكن هذه الدراسة هي الأولى له في هذا الحقل.. هنا يمكن أن نقبل ما يقال من انتقادات وجّهت إلى الجيل الأول الذي حمل همّ التأسيس للدراسات العربية، أما دون ذلك فنعتبره مجرد ادعاء ولغو، وشبيه به ما يفعله بعض الكتبة من الانتقاد اللاذع دون أسباب لجهود السابقين، مثلما فعل محقق الأعمال الكاملة للبسطامي مع النصوص التي حققها عبد الرحمن بدوي ونشرها في كتابه (شطحات الصوفية)، وهو العمل الأول في العصر الحديث حسب مطالعتي عن البسطامي، فمن كان يعرف من الدارسين العرب الحلاج أو البسطامي أو رابعة قبل أن ينشر عنهم بدوي كلمة أو قبل أن تخصص مجلة المورد مواد مترجمة وتنشر أخبار التراث المحقق بفضل عمل المستشرقين؟!
فمن العبث أن نظل أسارى الهذر ونحن لا نقدّم شيئًا يذكر، وإن قدّمنا فنحن عالة على السابقين، ومما يُخجل أن بعض من يتحدثون عن هذه الأعمال لم يتموا قراءتها أصلاً!
الأمر الثاني يتعلق بترجمات النصوص الصوفية عن اللغة الفارسية أو غيرها من اللغات، فمن خلال متابعتي لما تُرجم عن التصوف قديمًا وحديثًا أجد دومًا ملاحظات عن التفاوت في الترجمات من حيث الدقة والفهم والإتقان، قد يكون صحيحًا أن أخطاء وقعت في الترجمات ففهمت بعض كلمات على نحو خاطئ، أو كانت الترجمة حرفية في مواطن كثيرة، ونصوص مثل هذه تحتاج إلى معايشة بشكل أكثر، لكن لا يمكن أن نكون مجحفين في حقّ من رحلوا وقدّموا لنا هذا الكم من المعارف في الوقت الذي نكتفي فيه نحن اليوم بإعطاء ملاحظات فحسب.
قيل لي إن المثنوي المعنوي لمولانا جلال الدين الرومي لم يُترجم بعد إلى العربية! فأغلب من ترجموا النصوص المولوية ونقلوا معارف مولانا إلى العربية لم يحسنوا صنعا معها! يقول ذلك أكثر من كاتب حديث لم يقدّم شيئًا ذا بال في مجال تخصصه سوى بضع كلمات متناثرات، إن نقد الترجمات لا يكون على هذا النحو، فمن يراجع كتابات عيسى علي العاكوب، وهو اليوم من أخلص العاملين على نقل ثمار الرومي إلى العربية، سيجد فصلاً في كتابه أوراق من دفتر الروح يقارن فيه بين ترجمتين لما عُرف عربيًا وغربيًا بِـ(أغنية الناي)، معتمدًا في ذلك على مقارنة الترجمتين بالنص الفارسي، وكذلك على خبرته الطويلة في قراءة ونقل النصوص الفارسية، يمكن للقارئ أن يتقبل نتائج هذه المقارنة بشيء من الأريحية، ذلك أنها بُنيت على أصول علمية وليس محض الهوى والكلام من أجل تسفيه الآخرين وإعلان الذات.
أصاب بعض الترجمات السابقة ضعف وعدم بلوغ لجلّ المقصود، لكن للعلماء العاملين طريقة أخرى في نقد من سبقوا وأفادوا منهم، أذكر من ذلك ترجمة الأستاذ السعيد جمال الدين والشيخ الشافعي لكتاب محمد إقبال عن تطور الميتافزيقا في فارس، نقل الشيخان النصّ إلى العربية مرة أخرى في ترجمة جديدة فاقت الترجمة السابقة في وضوحها وإتقانها، فأحد المترجمين له خبرة سابقة في ترجمة أعمال إقبال واطلاع على بعض الدراسات الرصينة التي كُتبت عنه، والآخر شيخ متخصص في درس الفلسفة الإسلامية كتب وترجم وناقش من قبل تلك القضايا التي اهتم محمد إقبال بها، لذا كان النصّ المترجم في صورة أقرب إلى الوضوح من ترجمة الأستاذ الراحل حسين مجيب المصري، والمصري شيخ جدير بأن نحتفي بذكراه هذه الأيام، أتقن هذا الرجل لغات عدّة ونقل كثيرًا من الآداب التركية والفارسية والأوردية والإنجليزية والفرنسية إلى اللغة العربية، وعلى قدر إنتاجه الغزير وقع في أخطاء عديدة، لكن لا يمكن أن تحاكم أعماله أو تقارن بما وصلنا إليه اليوم، وللقارئ أن يطالع مقدمة الشيخ الشافعي لكتاب إقبال السابق الذكر ففيها من الأدب قبل النقد العلمي ما يجدر بنا أن نتعلم منه.
يقال اليوم عن ترجمة الأستاذ إبراهيم الدسوقي شتا للمثنوي أنها من أسوأ الترجمات! رغم انتشارها وكونها الترجمة النثرية الوحيدة المعروفة للمثنوي في الوطن العربي، ولا يكف بعض الأساتذة عن الإشارة إلى سطو عزّام على ترجمة أستاذه محمد عبد السلام كفافي، الذي بدأ الاهتمام بالمثنوي منذ وقت مبكر متابعة لرائد الدراسات الشرقية عبد الوهاب عزّام، وما يقال عن الأستاذ شتا فيه ظلم كبير لإنتاجه في هذا الحقل المعرفي، فما نعرفه من دراسات وترجمات له كانت سببا في تعريف الكثيرين وتثقيفهم في هذا اللون من الدراسات، فترجمته أو إن صحّ التعبير شرحه للمثنوي الذي اعتمد فيه على جهود من سبقوا يظل حتى اليوم حاكمًا على الدراسات الشرقية في البلاد العربية، فما من أستاذ يكتب دراسة أو يعطي دروسًا تلاميذه إلا ويقرر على الطلاب جزءًا من شرحه ويعود إليه، ولم نر من وقت إصداره الترجمة الكاملة حتى اليوم ترجمة عربية جديدة لهذا النصّ الخالد تفوق ترجمته وتنقدها بشكل علمي، ربما بسبب الضعف الذي أصاب الدارسين في هذا المجال، وربما بسبب انصرافهم إلى الاهتمام بالرائج من القضايا وما تعلق بالسياسة في إيران وسعيهم على أمور المعاش.