هل يمكن لـ «بينكي» و «برين» أن يسيطرا على العالم بـ «المادة المضادة»؟
«بينكي» و «برين» فأران في مسلسل كرتوني شهير يحاولان في كل حلقة «السيطرة على العالم» من خلال عدد من النظريات العلمية الافتراضية. تخيّل معي، ماذا لو استطاع بينكي وبرين أن يصنّعا في معملهما كميّة من المادة المضادة بطريقةٍ ما، ويجهزاها لتحضير قنبلةٍ يهددان بها العالم أجمع؟. غرام واحدٌ من المادة المضادة يستطيع أن يولّد بعد تماسه مع غرامٍ من المادة طاقةً مقدارها 43 كيلو طنّ من الـ TNT، فبغرامات قليلة يستطيعان أن يفجّرا قنبلة بقوةٍ تماثل أقوى تفجيرٍ ذريّ حصل في التاريخ (القنبلة آيفي كينغ بقوة 500 كيلو طن في جزيرة رونيت). فهل يمكنهما هذا بالفعل؟ لمعرفة هذا يجب أن نفهم المادة المضادة بشكلٍ أكبر.
تتكون المادة من ذرات، والتي تُعتبر الوحدات الأساسية في المركبات الكيميائية، كالهيدروجين، الهيليوم، والأوكسجين. لكلّ مركبٍ كيميائيّ عدد معيّن من الذرات، للهيدروجين ذرة واحدة، للهيليوم اثنتان، وهلم جرّا.
كون الذرة الصغير شديد التعقيد فعلًا، فهو مليء بالجزيئات المعقدة والتي تمتلك خصائص مختلفة من شحنات واتجاه دوران وغيرها، والتي مازال العلماء بصدد دراستها والبحث عنها. ومن منظورٍ بسيطٍ جدًا، تتألف الذرة من إلكترونات، بروتونات، ونيوترونات.
الجزيئات المضادة
في قلب الذرة، المدعوّ بالنواة، توجد البروتونات (حاملة الشحنة الموجبة) والنيوترونات (عديمة الشحنة). تدور الإلكترونات -حاملة الشحنة السلبيّة- حول النواة في مداراتٍ مختلفة. يمكن للإلكترونات أن تغادر من مدار إلى آخر، حسب تحفّزها والطاقة التي تكتسبها. في حالة المادة المضادة، تنعكس الشحنات نسبيًا، أيّ أنّ مضادات الإلكترونات (البوزيترونات) تتصرف كالإلكترونات تمامًا، لكنها تحمل شحنة إيجابية مساويةً لشحنة الإلكترونات السالبة، وكذلك الأمر بالنسبة لمضادات البروتونات، فهي بروتونات بشحنة سالبة.
تمّ تصنيع جزيئات المادة المضادة (والتي تُدعى مضادات الجزيئات أيضًا) ودراستها في مسرّعات الجزيئات الكبيرة، مثل مصادم الهدرونات الكبير.
إذن، كيف نصنع المادة المضادة؟
إذا أردنا حقًا سبر أغوار أسرار المادة المضادة، فعلينا أولًا أن نمسكها بين يدينا. تلك المقولة أسهل بكثير من التطبيق العمليّ، فكيف يمكنك أن تمسك بمادة تتلاشى عند تلامسها بأي شيء؟.
تحاول تجربتان من تجارب سيرن الإجابة على هذا السؤال،ATRAP و ALPHA، بصنع ذرة مضادة للهيدروجين. للقيام بذلك نحتاج لمضاد بروتون ومضاد إلكترون معًا في مكان معزول عن المادة ليرتبطا معًا ويشكّلا ذرة المادة المضادة. إن استطعنا توفير هذين العنصرين لمدة كافية وبكمية كافية، سيكون من السهل دراسة خصائص المادة المضادة والتعمّق فيها بشكلٍ أكبر.
تحتاج التجربتان إلى فضاءٍ شبه فارغ تقريبًا للنجاح؛ لأنّ التماس مع ذرةٍ واحدةٍ من الهواء سيؤدي لضياع الجزيئات المضادة. كيف نمسكها إذن؟ الحلّ: الحقول المغناطيسية والكهربائيّة.
في 2002 استطاع العلماء عزل مضاد الهيدروجين، حيث حصلوا على مضادات البروتون من مسرّعات الجزيئات، البوزيترون (مضاد الإلكترون) من مصدر صوديوم مشع (الصوديوم 22) في مصيدةٍ مغناطيسية. للأسف هذا النجاح لا يستمر، فالمصيدة المغناطيسية تعمل على الجزيئات المشحونة، كمضادات البروتون أو البوزيترونات، لكن مضاد الهيدروجين لا يحمل أيّ شحنة، وبالتالي يمكنه النفاذ من تلك المصيدة بسهولة.
تؤدي اصطدامات المادة والمادة المضادة لإصدار كميات كبيرة من الطاقة، غرام واحدٌ من المادة المضادة يستطيع أن يوفر طاقةً مماثلة لانفجار قنبلة نووية. لكن، وللأسف، لم يستطع البشر سوى توليد كميّة شديدة الصغر من المادة المضادة. فكل مضادات البروتون التي تمّ تصنيعها في مسرّع الجزيئات تيفاترون Tevatron في مختبرات فيرمي، تصل بصعوبة إلى 15 نانوغرامًا فقط. تلك المصنوعة في سيرن وصلت إلى 1 نانوغرام. في ديسي، في ألمانيا، تمّ تصنيع 2 نانوغرام من البوزيترونات حتى الآن. كلّ ما أنتجه البشر من مادة مضادة مجتمعًا لا يستطيع أن يسخّن كوبًا من الشاي، حتى الآن.
المشكلة الأساسية حتى الآن هي التكلفة الباهظة لإنتاج المادة المضادة وتخزينها، فصنع غرامٍ واحد من المادة المضادة يكلف 25 مليون مليار كيلو واط من الطاقة، بالإضافة إلى حوالي مليون مليار دولار أمريكي.
هناك شيء يُدعى بالفعل «مصيدة المادة المضادة»
لدراسة المادة المضادة، تحتاج أنّ تمنعها من الاصطدام مع المادة والفناء. وقام العلماء بابتكار عدّة طرقٍ لحجز المادة المضادة. يمكننا أن نحجز المادة المضادة التي تحمل شحنات معيّنة، مثل البوزيترون ومضاد البروتون، في أجهزة تُدعى مصيدة بينينغ. تعدّ هذه المصيدة مسرعات جزيئات صغيرة الحجم، تدور الجزيئات في داخلها بسبب الحقول الكهربائية والمغناطيسية التي تمنعها من الاصطدام بجدران الفخ (المصنوع من المادة!).
للأسف، لا تستطيع مصيدة بينينغ أن تحتجز الجزيئات عديمة الشحنة، كمضاد الهيدروجين على سبيل المثال. بسبب عدم حمل هذه الجزيئات لشحنة معينة، لا نستطيع حجزها بواسطة الحقول الكهربائية، لذلك قام العلماء باستخدام مصيدة لوفي، وهي تعمل عن طريق إنتاج منطقة من الفضاء محاطة بحقلٍ مغناطيسي يكبر في جميع الاتجاهات. تلتصق هذه الجزيئات في أضعف نقط الحقل المغناطيسي، مثل كرات صغيرة تدور في وعاء مقعر.
تعمل الحقول المغناطيسية الأرضية كمصيدة للمادة المضادة أيضًا، فقد تمّ إيجاد بعض مضادات البروتونات في مناطق من الأرض تُسمّى أحزمة أشعة فان آلين.
تُدرس المادة المضادة في مبطئات الجزيئات
هل سمعت عن مسرعات الجزيئات؟ هل تعرف بوجود شيء آخر مختلف تمامًا يُسمى مبطئات الجزيئات؟ تحتوي سيرن على آلة تُدعى مبطئة مضادة البروتونanti proton decelerator، وهي حلقة تخزين مغناطيسيّة تُبقي مضادات البروتون في نفس المسار، بينما تقوم حقول كهربائيّة بإبطاء هذه الجزيئات. عند مرور مضادات البروتونات في سحب من الإلكترونات، فيما يُعرف باسم (التبريد)، تخسر الجزيئات حركتها الجانبيّة. في النهاية تصل سرعة هذه الجزيئات إلى 10% من سرعة الضوء، وتُصبح جاهزةً للإطلاق. بذلك تنتهي دورة إبطاء واحدة، وهي تستمر حوالي دقيقة واحدة فقط.
في مسرّعات الجزيئات مثل مصادم الهدرونات الكبير، تكتسب الجزيئات طاقةً كلما أكملت دورةً واحدة. في مبطئات الجزيئات، يكون العمل عكسيًا، بدلًا من اكتساب الطاقة، تخسر الجزيئات جزءًا من سرعتها.
هل تسقط المادة المضادة إلى الأعلى؟
تقوم تجربة AEGIS بمحاولة الإجابة على ذلك السؤال. نسبيًا، الجاذبية قوة ضعيفة، لذلك فإن الاختبارات ستستخدم جزيئات لا تحمل شحنة معيّنة، لمنع تأثير القوى الكهربائية والمغناطيسية عليها.
في البداية ستبني هذه التجربة أزواجًا من البوزيترونات والإلكترونات، ويُعرف هذا الزوج بـ(البروزيترونيوم) ومن ثم تقوم بتنشيطها عن طريق الليزر لمنعها من الاصطدام وإبادة أحدهما الآخر. تقوم فيما بعد مضادات البروتونات بفصل هذين الاثنين وسرقة البوزيترونات لتشكّل ذرة مضاد الهيدروجين عديم الشحنة.
تنتشر ذبذبات مضادات المادة هذه بشكل أفقي بين شبكتين من الشقوق، لتنتج نمطًا من الاصطدام والظل على الشاشة الكاشفة. بقياس تغيير مكان النمط وتحركه، القوة والاتجاه، يمكننا قياس تأثير قوة الجاذبية على المادة المضادة.
لكن لا أحد استطاع السيطرة على البوزيترونيوم بتلك الطريقة، لا أحد استطاع إثارة البوزيترونيوم وتشكيل نبضة مضاد هيدروجين بعد.
فهل تؤثر الجاذبية على المادة المضادة بشكل مختلف؟ سيغير ذلك إن كان صحيحًا معايير الفيزياء التقليدية بالإضافة لتغيير فهمنا للمادة المضادة نفسها. حتى الآن تقول النظريات المعروفة أنّ الجاذبية تقوم بالعمل نفسه على أيّ نوع من أنواع المادة، وبما أنّ المادة المضادة مماثلة للمادة في كلّ خصائصها -عدا الشحنة- فهي أيضًا تخضع للجاذبية، نحو الأسفل.
هل من الممكن أن يحدث ذلك فعلًا؟، نتحدث في المقال القادم عن قنبلة المادة المضادة، والاستخدامات الأخرى لهذا اللغز المحيّر.
- فيزياء المستحيل: ميشيو كاكو
- does antimatter fall up or down
- antiproton decelerator