هل يمكن أن يساعد طعامنا في علاج المرض العقلي؟
منذ الطفولة تعلمنا أن المعدة هي بيت الداء، وكلما قررنا إرهاقها، بالكثير من الحميات الغذائية غير المنضبطة والمعبأة بالوجبات الجاهزة والكثير من السكر والملح، أرهقتنا بالكثير من الأمراض في المقابل، لكن هل يمكن للحميات المنضبطة، أو للطعام في العموم، أن يفعل العكس؟ هل يمكن لها أن تساعد على تحسين أعراض الأمراض أو ربما علاجها تمامًا؟ نعم، في الحقيقة، وهي تفعل ذلك إلى مدى لا يمكن تصوره.
في حديثه مع إضاءات، يقول الدكتور جيروم ساريس من جامعة ويسترن سيدني الأسترالية: «يومًا بعد يوم، يصبح دور التغذية في الأمر الخاص بالصحة النفسية معترفًا به بشكل متزايد»، وكان ساريس، مع فريق بحثي دولي من جامعات عدة، يعمل خلال السنوات الفائتة على إعطاء أدلة صلبة على هذه العلاقة بين مكونات طعامنا والمرض النفسي.
علاقة واضحة
ظهر أحد تلك الأدلة في دراسة أخيرة، صدرت بدورية «وورلد سايكايتري» فحصت نتائج عينة قوامها أكثر من 10 آلاف شخص، هذه المرة اهتم الفريق البحثي بفحص أثر مغذيات بعينها على تحسين الأعراض في بعض الأمراض العقلية، هل تعطي أثرًا محايدًا أم أنها تساعد إلى جانب الدواء؟
هنا جاءت النتائج لتقول إن بعض المغذيات، مثل زيت السمك (الأوميجا-3) كانت ذات علاقة واضحة بتحسن أعراض الاكتئاب واضطراب ضعف الانتباه وفرط الحركة، كذلك أشارت الدراسة إلى وجود دور فعال لإضافة بعض المكملات الغذائية كـ«الأسيتايل سيستايين» في علاج الفصام والاضطرابات المزاجية، لكن على الجانب الآخر لم تظهر للفيتامينات نتائج إيجابية في الأمر المتعلق بالمرض العقلي.
«هذه في الواقع نتائج جيدة» يقول ساريس في حديثه مع إضاءات، مضيفًا أن قدرة دراسة بهذا الحجم الكبير على التوصل إلى تلك العلاقة بين المغذيات والاضطراب العقلي لهي شهادة صلبة في صف التجارب السريرية التي تُجرى على الصعيد العالمي في هذا النطاق، خاصة وأن هناك نوع من الاستقطاب تجاهها، فالبعض يبالغ في تقدير الفوائد والبعض يبالغ في السخرية منها.
وكان ساريس، في دراسة سابقة صدرت قبل أشهر وقامت بفحص نتائج 46 ألف شخص، قد أشار مع رفاقه – كمؤلف مشارك – إلى وجود علاقة هامة بين أعراض الاكتئاب والحمية الغذائية، حيث ظهر أن عمل المريض على خفض وزنه وتنويع وجباته وتقليل نسبة الدهون فيها ذو أثر إيجابي على شدة تلك الأعراض.
عالم داخل معدتك
يدفع ذلك بنا إلى تساؤل مثير للاهتمام، فعلى الرغم من أننا بتنا أكثر ثقة اليوم من وجود تلك العلاقة بين حمياتنا الغذائية، أو المغذيات في العموم، والمرض العقلي، وبدأت مراجع الأطباء التي تحدد معايير التشخيص والعلاج في وضعها بالاعتبار، إلا أننا لا نفهم بعد طبيعة تلك العلاقة المبهمة، كيف يمكن أن يرتبط هذا بذاك؟
يرى ساريس، في تصريحه لإضاءات، أن أحد الاحتمالات تتعلق بميكروبات الأمعاء، فيقول إن «دورها في نطاق علاج المرض العقلي هو نطاق بحثي ناشئ لكنه يكتسب دعمًا تجريبيًا متسارعًا» إذ يمكن للغذاء أن يؤثر على صحة أدمغتنا من خلال «محور الدماغ والقناة الهضمية» gut-brain axis، هي نظرية حديثة تشير إلى أن هناك تواصلاً بيوكيميائيًا بين القناة الهضمية والجهاز العصبي المركزي.
للوهلة الأولى تبدو كعلاقة غريبة لا تتوقعها، لكنها على العكس من ذلك بسيطة وممكنة، فكر في الأمر كعلاقة بين نوع الوقود وطريقة عمل السيارة، فبحسب جودة الوقود تعمل السيارة بدرجة أكبر من السلاسة والجودة، وإذا كان جسدك هو السيارة فإن دماغك هو المحرك الرئيسي لكل شيء آخر بها، بالتالي فإن جودة الطعام، الذي يعطيه الطاقة، ترتبط بجودة كل شيء آخر، بما في ذلك سلوكنا.
لهذا السبب فإن تناول الأطعمة الصحية، التي تحتوي على الكثير من الفيتامينات والمعادن ومضادات الأكسدة، يغذي الدماغ ويحميه من الإجهاد التأكسدي، وفي المقابل من ذلك فإن الطعام الضار، كالوجبات الجاهزة والسكريات بشكل عام، لا يحمي الدماغ وبالتالي يضعه في حالة إرهاق دائم.
الإجهاد التأكسدي هو حالة عدم التوازن في حركية بعض المواد بالجسم، حيث تسير باتجاه إنتاج المزيد من المواد المؤكسدة الضارة التي تعطل إزالة السموم من الجسم وتعرقل تحركات إصلاح الأضرار. يشير نطاق بحثي واسع إلى علاقة بين الإجهاد التأكسدي وطيف واسع من الأمراض التي تبدأ من السرطان، مرورًا بأمراض القلب والأوعية الدموية، ووصولًا إلى اضطراب فرط الحركة والاكتئاب والتوحد وألزهايمر.
أما عن العلاقة المباشرة بين المعدة والدماغ، فيمكن أن تفهمها عبر نموذج بسيط، السريتونين على سبيل المثال، وهو الشهير بلقب «ناقل السعادة» بين العامة، وله دور في معظم الاضطرابات العقلية المعروفة، فإنه ينتج من الأساس في المعدة ثم ينتقل، عبر مائة مليون خلية عصبية إلى الدماغ، بالتالي فإنه من المعقول أن يؤثر ما يحدث في هذا الجانب، على الجانب الآخر.
«ننصح الناس دائمًا بأن يحصلوا على نظام غذائي كامل متوازن من أجل صحتهم العقلية» يقول ساريس في حديثه مع إضاءات، مضيفًا أن الأمر قد يتخطى ذلك لوصفات طبية إن استدعى الأمر من قبل الطبيب، في الواقع فإن النطاق البحثي الذي يفحص العلاقة بين الغذاء وتحسّن أعراض الاضطراب العقلي.
كل شيء
على سبيل المثال، كانت بعض الدراسات قد قارنت بين نظام غذائي بدائي، مثل النظام الغذائي للبحر الأبيض المتوسط والنظام الغذائي الياباني، بالنظام الغذائي العادي (المعاصر)، وجاءت النتائج لتقول إن مخاطر الإصابة بالاكتئاب تنخفض بمقدار 35% لدى أولئك الذين يتناولون نظامًا غذائيًا بدائيًا، يُرجع الباحثون ذلك إلى احتواء الوجبة البدائية على كميات أكبر من الخضراوات والفواكه والحبوب والأسماك مقارنة بكميات أكبر من الملح والسكر والدهون والكربوهيدرات البسيطة.
بل ويمتد الأمر لما هو أعمق من ذلك، إذ أشارت بعض الدراسات إلى أن تحسين نمط الحياة الغذائي للأطفال، بداية من لحظة الحمل نفسها عن طريق الحمية الغذائية للأم، ووصولًا إلى نوع الطعام الذي يتلقاه الطفل في عامه الخامس، يؤثر بقوة على الصحة العقلية للأطفال، كلما كانت الوجبات متنوعة وغنية بالمغذيات الصحية كانت احتمالات إصابة الطفل مستقبلًا بالاضطراب العقلي أقل.
«يحتاج الدماغ إلى طيف دقيق من المغذيات» يقول ساريس في تصريحه لـ إضاءات، مضيفًا أن النظام الغذائي الجيد يوفر تلك الخدمة الثمينة للغاية، والأمر لا يتعلق فقط بالصحة العقلية، هناك مجال بحثي كامل يطالب مواطن العالم المعاصر بإعادة النظر في نمط حياته، فالحمية الغذائية السيئة وإهمال التريّض قد يؤثر في كل شيء، بداية من الصحة العقلية، ومرورًا بصحة القلب والأوعية الدموية، وصولًا إلى جودة العمل والدخل والعلاقات كالحب والصداقة، هذا يعني – ببساطة – كل شيء!