هل يمكن أن تستمر الحياة بعد جلطة القلب؟
شعر طبيب القلب بسعادةٍ غامرة عندما سمع تلك الكلمات السابقة من مريضه الأربعيني، المُصاب بارتفاع ضغط الدم، الذي أصيب قبل عامٍ بجلطة حادة بالشريان التاجي الأمامي الأيسر النازل، أهم الشرايين المغذية للقلب، لا سيَّما وقد شاهد بأم عينه هذا المريض وهو أثناء ذلك الحدث الجلل يتأرجح مصيره على حافة الحياة والموت، حيث أصيب بارتجاف بطيني خطير أوقف عضلة القلب أثناء فتح الشريان المسدود بالقسطرة القلبية، واحتاج إلى عدة صدمات كهربية قبل استعادة النبض الطبيعي.
تضاعف ابتهاج الطبيب عندما تبيّن أنَّ مريضَه خلال الشهرين اللذين مضيا بعد آخر متابعة طبية قد أتم رحلة الإقلاع التدريجي عن التدخين التي بدأها بعد إصابته بالجلطة، وأنه فقد 4 كيلوجرامات إضافية من وزنه، واقترب كثيرًا من الوصول إلى الوزن المثالي، وقد ساعده ذلك مع الانتظام المطلق على جرعات أدوية القلب على العودة شبه التامة إلى كافة أنشطة حياته في العمل والمنزل بنفس المستوى الطبيعي الذي اعتاده قبل أن يصبحَ مريضًا بالقلب، حتى إنه أحيانًا ما ينسى أنه مريضٌ بالقلب، كما حدث قبل 3 أيام عندما لعب مباراة خفيفة لكرة القدم مع ابنيه.
اقرأ: كيف تُنقذ حياة مريض بجلطةٍ في القلب؟
تحديات التعافي من جلطة القلب
الإصابة بجلطات شرايين القلب هي السبب الأشهر للوفاة عالميًا، من بين عشرات الملايين ممن يصابون بها سنويًا، حيث قدرت دراسة نُشرت حديثًا أن حوالي 3.8% من البشر الأصغر من 60 عامًا و9.5% ممن تجاوزوا الستين، أصيبوا ولو مرة واحدة على الأقل بجلطات شرايين القلب. وأدى التطور الكبير في طب القلب، لا سيما في مجال التدخل العاجل بالقسطرة القلبية، إلى تحسن معدلات نجاة المصابين بجلطات القلب، لكن يعاني نسبة ملموسة منهم من مضاعفات ذات آثارٍ قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، تحتاج إلى متابعة طبية دورية دقيقة، وعلاجات دوائية مكثفة، وتغييرات كبيرة في نمط الحياة، للسيطرة على عوامل الخطر التي أدت إلى الإصابة بجلطات شرايين القلب مثل داء السكري، وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع الكوليسترول الضار بالجسم، وتدخين السجائر… إلخ.
اقرأ: أهم ما ينبغي معرفته عن قسطرة شرايين القلب.
وهناك عوامل عديدة تتداخل في تحديد السقف الممكن من التعافي الذي يمكن أن يصل إليه المريض بعد نجاته من الموت نتيجة جلطة القلب الحادة، وبعضها عوامل لا يستطيع المريض التحكم فيها بشكل كامل مثل:
- خطورة الجلطة: كأن تكون قد حدثت في شريان تاجي رئيسي، لا سيما في مدخل الشريان، إذ يعني هذا انقطاع الدم عن أجزاء أكبر في عضلة القلب.
- مدى الإصابة في شرايين القلب قبل الجلطة: فإذا كان هناك عديد من الشرايين المتأثرة، لا سيما بضيقاتٍ شديدة، فهذا يزيد من خطورة الجلطة.
- الوقت الذي استغرقه المريض قبل الوصول إلى المستشفى وإجراء القسطرة العاجلة لفتح الشريان، والمثالي ألا يزيد الوقت على 60-90 دقيقة منذ تشخيص الحالة. كلما تأخر الوقت، زاد الضرر في عضلة القلب، وارتفعت احتمالات الإصابة بضعفٍ مزمن في عضلة القلب وفشل وظائف القلب.
- هل أدت الجلطة في أي مرحلة إلى توقف في عضلة القلب وإجراء الإنعاش القلبي الرئوي CPR؟ وهل أجري هذا الإنعاش بفاعلية لتجنب تضرر المخ نتيجة انقطاع الدم عن المخ؟
- هل التزم المريض تعاطي الأدوية الموصوفة والتعليمات الطبية المختلفة منذ اليوم الأول بعد الإصابة بالجلطة أم لا؟
اقرأ: كيف تُنقذ حياة مريض بجلطةٍ في القلب؟
وهنا قد يبرز في ذهن قارئ هذه السطور سؤال مركزي: هل يمكن أن نصل إلى الوضع المتقدم الذي وصل إليه المريض الذي صدّرنا المقال بقصته المشجعة؟
والإجابة هي نعم في حالات عديدة، أمّا في حالات أخرى فيمكن الحصول على حد أدنى من التعافي تستمر به الحياة بشكلٍ جيد، ولكن يحتاج الأمر إلى بعض الجدية والعزيمة في الالتزام بالتعليمات الطبية والدوائية، ومن أجل بناء العادات الإيجابية في الأسابيع والشهور الأولى بعد النجاة من جلطة القلب.
اقرأ: دليلك الشامل للتعامل مع حالات الطواريء الطبية الحرجة.
خطة موجزة للتعافي بعد جلطات القلب
سنلخّص أبرز جوانب تلك الخطة في بضعة عناوين، يجب السير فيها أو في معظمها على الأقل على التوازي، ولو تدريجيًا، لتحقيق أفضل النتائج.
اقرأ: كيف أحافظ على صحة قلبي في زمن كورونا؟
1. الوقاية خير من مزيد من الجلطات!
تقول القاعدة الشرعية «دفع الضرر أولًا». ولذا، فأهم ما يمكن أن يفعله المصاب بجلطة في القلب، أن يحاول بكل جهده أن يتجنَّب الإصابة بلجطة أخرى. تُلخّص جمعية القلب الأوروبية أبرز جهود الوقاية من الجلطة الثانية في 5 نقاط هي:
- الالتزام الدقيق بأدوية القلب، لا سيّما مضادات التجلط مثل الأسبرين والتيكاجريلور، ومضادات ارتفاع الكولسترول مثل مجموعة الستاتين (لا تشغل بالك بتلك الأسماء العلمية، سيشرح لك طبيبك فائدة كل علاج).
- المتابعة الدورية المستمرة مع الطبيب في المواعيد التي يحددها، والالتزام بذلك حتى في حالة الشعور بالتحسن وبأننا لا نعاني من أعراض جديدة.
- الاشتراك في أحد برامج (إعادة تأهيل القلب Cardiac Rehab) إن وجدت في منطقتك. في هذه البرامج يُقيَّم حالةالمريض جيدًا، ويُحدد له برنامج قصير وطويل الأمد للتمارين الرياضية يتصاعد تدريجيًا لإعادة تحسين كفاءة القلب واللياقة البدنية بشكل علمي ومنهجي، وكذلك للتوعية الطبية بتفاصيل حالته، وأيضًا للحفاظ على السلامة النفسية وتجنب اضطرابات القلق والاكتئاب الشائعة لدى مرضى القلب.
- الدعم الأسري، والتواصل الاجتماعي المباشر مع الأهل والأصدقاء، وذلك لتحسين الحالة النفسية وتقليل الضغوط العصبية.
- السيطرة القوية على عوامل الخطر التي تؤثر على القلب وتزيد فرص الإصابة بجلطات القلب، مثل ارتفاع ضغط الدم، وسكر الدم، وكوليسترول الدم… إلخ.
اقرأ: هل يمكن لشباب الأطباء تجنب السكتة القلبية؟
2. العودة التدريجية لأنشطة الحياة اليومية
لكي يتعافى القلب من الآثار الحادة للجلطة بشكل تام، فإنه على الأقل يحتاج إلى شهر أو شهر ونصف. ويُنصح بالآتي في تلك الفترة الحرجة:
- تأخير العودة إلى العمل وضغوطاته الجسدية والنفسية على الأقل لأسبوعين، ويُنصَح بالأكثر إن أمكن.
- العودة التدريجية لطاقة العمل القصوى بمرور الأسابيع، بدلًا من العودة المفاجئة بشكل كامل.
- الاعتياد على النوم الصحي ليلًا وتجنب السهر، فهذا يقلل من فرط نشاط الجهاز العصبي السمبثاوي المضر بالقلب.
- التعود في تلك الفترة على جدول مواعيد الأدوية وعلى نمط الطعام الصحي، ليمكن تطبيقه بسهولة في الفترات التالية.
- عدم الاستسلام لملازمة السرير طوال اليوم، فهذا مضر جدًا بالصحة. في الأيام الأولى بعد الخروج من المستشفى، يمكن أن تتحرك في نطاق المنزل ومحيطه (المسجد، البقالة القريبة، زيارة صديق… إلخ) ثم تدريجيًا في الأيام التالية زيادة المجهود البدني رويدًا رويدًا، وخير المجهود أدومه وإن قل، ولو مجرد المشي 5-10 دقائق يوميًا. وفي حالة الشعور بالإرهاق الشديد لدرجة عدم القدرة على القيادة بمجهود بدني، فعلى الأقل الحركة في نطاق المنزل، وتغيير الوضعية رقادًا وجلوسًا وقيامًا وقعودًا.
3. شرب السوائل بوفرة
نقص الوسائل والجفاف قد يؤديان إلى الإصابة بجلطات في الدم في شرايين القلب أو غيرها، لأنها تزيد لزوجة الدم. في المقابل، فإن شرب السوائل بوفرة، يحسن سريان الدم، ويساعد في تحسين أعراض القلب وتجنب الإصابة بالجلطات. ولذا، فالأصل في معظم مرضى ما بعد جلطة القلب التوصية بشرب السوائل بكثافة، مع الحذر من العصائر المحلّاة.
أمّا مرضى الضعف الشديد في عضلة القلب، أو مرضى الكلى، فيُنصَحون بكميات معتدلة من السوائل (في المتوسط 1.5-2 لتر يوميًا) ليست بالقليلة فتسبب الجفاف، ولا بالكثيرة بتسبب اختزان السوائل في الرئتين أو تورم الساقين… إلخ.
4. الطعام الصحي
لا يعني الإصابة بجلطة القلب الحرمان التام من كافة أنواع الأطعمة المحببة. المنع التام قاصر على الأطعمة عالية الملوحة (المخلل – الفسيخ – الجبن القديم شديد الملوحة… إلخ) أو كثيفة الدهون. لكن استخدام بعض الملح الخفيف، أو كمية صغيرة من الزبدة الطبيعية لتحافظ على جودة الطعم، أو كمية صغيرة من الحلويات بشكلٍ غير يومي، لن يسبب ضررًا. ومن المسموحات كذلك اللحوم الحمراء قليلة الدهن أو اللحوم البيضاء، مسلوقة أو مشوية. ويمكن للقلايات الهوائية Air fryer أن تساعد إيجابيًا في إغنائنا عن التحمير غير المسموح طبيًا.
لكن هناك بعض الأطعمة المفيدة لصحة القلب، التي يُنصح بالمواظبة عليها، ولا تمثل مشكلة في حالة الإكثار منها، مثل الخضروات بكافة أنواعها، والفواكه (مع الاعتدال في الكميات لمرضى السكر) والأسماك، وزيت الزيتون، والبقوليات، والألبان خالية أو قليلة الدسم.
اقرأ: أكتئب فآكل أكثر فأكتئب وآكل مجددًا: ما حل هذه الدوامة؟
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فالتخلص من السِّمنة، والوصول إلى وزنٍ مثالي، أو على الأقل الاقتراب منه، من أفضل ما يساعد على تعافي مريض جلطة القلب من الأعراض المرضية لا سيّما ضيق التنفس وانخفاض القدرة على أداء المجهود البدني. ومن المعلوم من الطب بالضرورة وبالدليل، أنه يساعد كثيرًا في السيطرة على ارتفاع سكر وضغط وكوليسترول الدم. ويمكن الاستعانة بطبيبٍ متخصص في التغذية لوضع برنامج تدريجي جيد للمساعدة في إنقاص الوزن بفاعلية ومن دون مضاعفات. وهناك بعض الأدوية الجديدة لا سيما لمرضى السكر والقلب معًا، التي تحافظ على صحة القلب وتساعد في إنقاص الوزن مثل مجموعة SGLT2 inhibitors، يمكن مناقشة الطبيب المعالج في كيفية إضافتها للعلاجات القائمة.
اقرأ: أدوية إنقاص الوزن: سؤال وجواب.
5. الإقلاع عن التدخين
التقصير في التخلص من تدخين السجائر -وأخواتها- الذي يعتبر من أبرز عوامل الخطر المسببة لجلطات القلب لا سيّما في الشباب كفيل بإفساد كامل خطتنا كليًا أو جزئيًا على الأقل، بل إننا في مجال طب القلب أحيانًا نُفاجَأ ببعض المرضى لا يلتزمون بشراء أدوية القلب من أجل توفير المال اللازم لشراء السجائر التي يرتفع ثمنها.
لكننا في المقابل، شاهدون على المئات من المرضى الذين نجحوا في الإقلاع التام عن التدخين، أو على الأقل تقليل معدلات التدخين بشكلٍ ملموس، ولمس هؤلاء – لاسيما الممتنعين بشكلٍ تام- الآثار الإيجابية التي لا تُعد ولا تُحصى لهذا، مثل تجنب الإصابة بمزيد من المضاعفات كالجلطات وسواها، مرورًا بعدم الحاجة لشهور طويلة للحجز بالمشافي، وليس انتهاء بتحسن اللياقة البدنية، وتوفير نفقات التدخين المباشرة، وكلفة مضاعفاته الصحية. وقد توافرت عيادات متخصصة (من أطباء الأمراض العصبية أو أمراض الصدر) في المساعدة في الإقلاع عن التدخين بإشراف طبي باستخدام بدائل النيكوتين أو أدوية أخرى مثل تساعد في الإقلاع مثل البوبروبيون… إلخ.
اقرأ: التدخين والصحة: لا داعي للمبالغة.
اقرأ: 6 خطوات للإقلاع عن التدخين: الإرادة ليست منها.
6. ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك جلُّه ولا بعضه
لا يمكن التعامل مع تلك الأمراض ذات النتائج المزمنة بمنطق إما تحقيق كل شيء والوصول إلى التعافي التام كأنَّ لم يحدث جلطة في القلب من الأساس، وإما القنوط التام وترك الالتزام بكافة التعليمات والعلاجات. غالبًا ما ينشأ هذا الميل إلى الإحباط من عدم استيعاب تفاصيل ما حدث ومدى خطورته وتعقيده، وكذلك المقارنة بالغير ممن مرُّوا بتجارب مشابهة، مما يرفع سقف التوقعات، وبالتالي مدى الإحباط.
كما أشرنا في الفقرات السابقة، فهناك عوامل كثيرة تتدخل في تحديد الضرر الذي تسببه جلطة القلب، ويختلف المرضى كثيرًا في مدى هذا الضرر، وبالتالي، فلكل حالةٍ ظروفها وتفاصيلُها. فابذل جهدك للوصول إلى أفضل نتيجة ممكنة تسمح لك بالقيام ولو بالحد الأدنى من الأنشطة التي كنت تقوم بها سابقُا قبل الإصابة بالجلطة، وتذكر جيدًا أن مجرد النجاة من الموت بجلطة القلب وعبور الفترة الأصعب في الأيام الأولى بعدها هو هبة عظيمة لم يحظَ بها الملايين من البشر من كافة أنحاء العالم ممن يذهبون ضحية تلك الجلطات سنويًا.