في مواجهة الركود: هل ينقذنا كينز حقًا من آثار كورونا؟
ذات مساء في لندن عام 1921، كانت الموسيقى تتدفق من بين أصابع عازفي الفيولين كالماء الرائق، والراقصون يقفزون برشاقة بين جنبات المسرح على أنغام باليه تشايكوفسكي «الجمال النائم». كل شيء كان منضبطًا كالساعة، لكن الكثير من المقاعد كانت خالية.
العرض الذي لم يكن ناجح جماهيريًا، كان محل اهتمام من اقتصادي بريطاني في الثلاثينيات من عمره، وقد أصابه الإعجاب لدرجة أنه تزوج لاحقًا من إحدى بطلات العرض.
ستسمع كثيرًا هذه الأيام مصطلح «سياسات كينزية» عن السياسات المطبقة في الغرب والشرق لتجنب سيناريو ركود عالمي جديد، يُنسب هذا الاصطلاح لجون مينارد كينز، الذي تزوج من راقصة باليه وصاحب الفنانين والأدباء، وفي الوقت نفسه أحدث ثورة في الأوساط الأكاديمية برؤيته الاقتصادية الجديدة.
كينز صوت من الماضي، لكنه يعود ويفرض وجوده على الحاضر كل فترة، بالذات في الأوقات التي يلوح فيها شبح الركود.
لم يكن كينز مناضلاً اشتراكيًا مثل كارل ماركس، ويوحي مظهره الخارجي للوهلة الأولى بالطابع المحافظ، لديه شارب منمق ويتحدث بلغة أكاديمية رصينة للغاية تليق بالجامعة التي كان يُلقي فيها محاضراته (كامبريدج).
لكن سياسات الرجل تبنتها العديد من الحكومات اليسارية خلال النصف الأول من القرن العشرين، وأثارت جدلاً واسعًا في البلدان الرأسمالية العريقة عندما اتجهت هي الأخرى لتبنيها في تلك الفترة.
فقد قدم كينز قراءة نقدية عنيفة للمدارس الاقتصادية التقليدية السابقة عليه، واستجاب العالم لهذه القراءة لدرجة جعلت له بصمة واضحة في ثوابت إدارة السياسة الاقتصادية في كل البلاد حتى اللحظة الراهنة.
ما هي أوجه الخلاف بين كينز والمدارس الاقتصادية السابقة عليه؟
بداية نحتاج لأن نفهم صورة العالم المثالي كما كانت تتصوره المدارس الاقتصادية المهيمنة في عالم ما قبل كينز، لقد تصورت هذه المدارس أن السوق الحر تتطور فيه العلاقة تلقائيًا بين العرض والطلب، بمعنى أن المنتجين يحددون حجم إنتاجهم وسعر بيعه في الأسواق بناء على تقديراتهم بشأن رغبة المستهلكين في السوق.
وإذا أخطأت هذه التقديرات قد يجني بعض المنتجين الخسائر، وقد يضطرون على إثر ذلك لتسريح بعض العمال، لكن سرعان ما يستوعبون أن عليهم تقليل حجم الإنتاج أو تخفيض السعر للتماشي مع رغبة المستهلكين، ومع هذه الإجراءات التصحيحية يستطيع السوق أن ينقذ نفسه بشكل مستمر من الأزمات.
وبعد أن يصحح السوق نفسه بنفسه ويصل لأقصى درجة من المثالية، فهو يستطيع في هذه المرحلة أن يوفر فرص عمل للجميع، أو ما يعرف بحالة التوظيف الكامل.
اهتزت سمعة هذه المدرسة بقوة عندما ضرب الولايات المتحدة كساد عظيم في نهاية العشرينيات، تحول لاحقًا إلى كساد عالمي، ووقع الملايين في البطالة.
حتى كينز بدا مرتبكًا في هذه اللحظة، وكما قال في مقال له عام 1930 «لقد ورطنا أنفسنا في فوضى عنيفة، بعد أن فقدنا السيطرة على آلة دقيقة لم نفهم بعد طريقة عملها» والآلة المقصودة طبعًا هي الاقتصاد.
لكن كينز بدا في هذا الوقت أكثر المتخبطين استنارة وقدرة على قراءة الأزمة، ولخص قراءته للأزمة بقوله «إذا تراخى العامة عن شراء السلع (…) كل طبقات المنتجين سيجنون الخسائر، وحالة عامة من البطالة ستتحقق، وستنشئ دائرة مفرغة. ونتيجة لسلسلة من الأفعال وردود الأفعال ستسير الأمور إلى سيئ وأسوأ حتى يحدث شيء يوقف هذا المد».
الشيء الذي أشار له كينز في نهاية عبارته على الأرجح هو تدخل الدولة لإدارة الاقتصاد.
اشتراكية غير يسارية
«ينبوع قلمك يتحدث عن أشياء مبهجة عندما أقرأها أشعر بابتسامة من داخلي وخارجي»، أو هكذا كتبت ليديا لوبوكوفا، راقصة البالية الروسية، لمعشوقها كينز في واحدة من مكاتبات الغرام بينهما.
ربما كان كينز شعبويًا في عالم الاقتصاد مثلما كان جذابًا في نظر هذه الفتاة البسيطة، التي كان يشعر أصدقاء كينز من المثقفين بالاستغراب تجاهها.
لقد أرجع كينز أزمات الكساد بشكل رئيسي إلى حدوث خلل ما في دورة حياة الاقتصاد، فهناك الكثير من العوامل التي قد تتدخل وتمنع وصول رؤوس الأموال للمنتجين أو تكبح من رغبة المواطنين في الاستهلاك، لا تسير الأمور دائمًا بالصورة المثالية التي نتخيلها، وهكذا يجب أن تظل الدولة في موقع الرقيب لهذه الدورة وتتدخل لإصلاح أي خلل فيها.
في هذا السياق دافع كينز عن حضور الدولة الفاعل في الحياة الاستثمارية، بمعنى آخر أن لا يُترك الاقتصاد للمستثمرين وتتدخل فيها الدولة ممثلة عن مصلحة المجتمع، وذلك باستخدام أدواتها النقدية (أسعار الفائدة) وسياساتها المالية، لكي تصلح العطب الذي يصيب أيًا من أجزاء الماكينة الاقتصادية.
لقد توافقت النظرية الكينزية في هذا الوقت مع تطلعات الكثيرين، فهي التي أنقذت الرأسمالية الأمريكية من كساد الثلاثينيات، عندما ألهمت البلاد برؤية اقتصادية جديدة تُعرف بـ New deal. والتي شملت أعمالاً في البنية الأساسية ساهمت في توفير فرص العمل ومن ثم تنشيط الاقتصاد مجددًا.
كذلك قدمت الكينزية تصورًا أكثر تماسكًا من ذي قبل عن علاقة عناصر الحياة الاقتصادية ببعضها، الإنتاج الذي يوفر فرص العمل والدخول التي تستهلك والفائدة التي تتحكم في حركة رؤوس الأموال، مما مهد لتطوير الحسابات القومية التي ترصد هذه الحركة في صورتها الكلية وتخرج علينا كل عام ببيانات عن النمو الاقتصادي.
وأثرت الكينزية المدرسة الليبرالية برؤية جديدة تنتقد شرور السوق وتهذب من سلوكه، فقد انتقد كينز بعنف سلوك أسواق المال الذي يعتمد على المضاربات قصيرة الأجل، ولفت الانتباه لضرورة الاهتمام بالاقتصاد الحقيقي في مواقع الإنتاج.
وفي الوقت نفسه اعتبر البعض أن الطرح الكينزي نوع من الماركسية المخففة .. كينز لم يدعُ الدولة للاستيلاء على أصول المستثمرين وإلغاء الملكية الخاصة، ويُنسب إليه القول بأنه إذا ما كان هناك صراع طبقي فأنا في صف البرجوازية المثقفة، ولكن دعوته لأن تقوم الدولة بالدور الموجه والمكمل للاستثمار هو الذي منحه هذه الصبغة اليسارية في أذهان الكثيرين.
وقد ترجم اقتصاديون مصريون مصطلح كينز عن socialize investment بـ «اشتراكية الاستثمار»، على عكس قراءات أخرى لكينز كانت ليبرالية للغاية.
استخدم هذه الترجمة الاشتراكية جمال محمد سعيد، أستاذ اقتصاديات المالية العامة بجامعة عين شمس، في كتاب أصدره عن كينز سنة 1962، بالرغم من تأكيده على أن كينز لم يقصد بهذا الاصطلاح ملكية الدولة للأصول ولكن فقط الاستفادة من الرؤية بعيدة المدى للدولة في توجيه الحياة الاقتصادية، لكن الأستاذ المصري اعتبر أن هذا التوجيه لا يمكن تحقيقه بدون استحواذ الدولة على الأصول.
لذا قال سعيد إن كينز «كان في اعتقادي اشتراكيًا في قلبه وفكره وإن كان يؤمن بالتطور لا بالطفرة».
وقد انعكست تأثيرات المدرسة الكينزية على مصر بشكل واضح خلال الحقبة الناصرية، حيث نشأت وزارة التخطيط في مصر بعد نحو عشرين عامًا من ظهور النظرية الكينزية، لتعبر عن رغبة الدولة في وجود رؤية اقتصادية شاملة لتوجيه قوى السوق.
وبدأت الدولة المصرية في التوسع في الاستثمارات العامة منذ الخمسينيات، ثم أممت الصناعات الكبيرة في مطلع الستينيات، بدعوى أن القطاع الخاص لا يقوم بالدور الكافي لتطوير الحياة الاقتصادية وتوفير فرص العمل.
عودة الأستاذ
لكن الكينزية تعرضت لانتقادات عنيفة في الغرب منذ السبعينيات، وذلك لأسباب عدة، فهناك المؤمنون بفكرة تساقط ثمار النمو، والذين يدعون لأن تتوجه سياسات الدولة لدعم النشاط الاقتصادي عن طريق إجراءات مثل تخفيض الضرائب وعندما يتحقق النمو ستتوفر فرص العمل وتتحسن حياة المواطنين تلقائيًا دون تدخل الدولة.
وهناك من انتقدوا الطريقة التي اقترحها كينز لمواجهة مخاطر الركود عبر تمويل الاستثمارات العامة بالاستدانة، فيما يُعرف بالتمويل بالعجز، محذرين من أن ترتفع تكاليف الديون على الدولة وتصبح عبئًا كبيرًا، كذلك فإن عجز الموازنة الناتج عن الدين قد يتسبب في تقويض النمو الاقتصادي.
وفي إطار هذه الرؤى علت الأصوات المنادية بتراجع الدولة عن التدخل في الاقتصاد وتبنيها لسياسة مالية متقشفة، وقابلتها الأصوات التي تنتقد تخفيض الضرائب على المستثمرين مع التقشف في الإنفاق الاجتماعي.
وظلت وجهات النظر تلك محل نقاش واسع من الاقتصاديين، حتى اصطدم العالم بأزمة الأسواق في 2008 والتي اضطرت الدول الرأسمالية الكبرى للإنفاق على المؤسسات المالية الخاسرة، في صورة أشبه بعملية تأميم للقطاع المالي.
وهو ما دعى مؤرخًا متخصصًا في كينز، روبرت سكلدسكي، لإصدار كتاب عنه يعبر عن عودة الاهتمام بأفكاره تحت عنوان «عودة الأستاذ».
وبعد تفشي وباء كورونا، وتعطل الملايين بسبب إجراءات حظر التجوال، أطلقت العديد من حكومات البلدان المتقدمة، والنامية أيضًا، خططًا اقتصادية ضخمة للغاية لاستيعاب آثار هذا الوباء.
وتركزت الخطط على توفير المساندة الاجتماعية للفئات المتعطلة من جهة، ومساندة الشركات المتضررة أيضًا من الجهة الأخرى.
هذا الإنفاق العام الواسع النطاق دعا الكثيرين لاستحضار ذكرى كينز، وكان الأمر مثيرًا للسخرية في بلد كينز (بريطانيا)، فقد عانت البلاد من سياسات تقشفية عنيفة قام بها وزير الخزانة السابق من الحزب المحافظ جورج أوزبورن، وقد طبق هذه السياسات تحت دعوى الضرورة الاقتصادية، والآن يأتي وزير خزانة من نفس الحزب ريتشي سونك ليطبق سياسة توسعية لإنقاذ الاقتصاد من الركود.
لكن الملفت للنظر أن طبيعة الأزمة التي سينتجها وباء كورونا لا تزال غير قابلة للتوقع بدقة، هل ستكون أزمة في ضعف الطلب الناتج عن تعطل الكثيرين، أم في ضعف العرض الناتج عن توقف الإنتاج، أم الاثنين؟ وما الذي يمكن أن يقوله كينز إزاء هذه الأزمة؟
سكلدسكي، أبرز مؤرخي كينز، رأى أن الأزمة ستكون أزمة عرض بالأساس، وأنها ستجعل اقتصاد بلد مثل بريطانيا أشبه باقتصاد الحرب، حيث يوجد طلب قوي على السلع من المواطنين لكن المعروض في الأسواق لا يكافئ هذا الطلب، فتكون النتيجة ارتفاع التضخم.
ويقول سكلدسكي إن كينز حذر من الطلب الزائد مثلما حذر من ضعف الطلب، وأنه رأى أن علاج مشكلة الطلب الفائض يكون بتطبيق ضرائب مرتفعة على الشرائح العليا من الدخل لامتصاص هذه القوة الشرائية.
أما الاقتصادي الأمريكي الحائز على نوبل، جوزيف ستيجلتز، فيقول «إن المشكلة أن هذا الفيروس أدى إلى التباعد الاجتماعي الذي يقوض من كل من العرض والطلب».
ويضيف:
هذه المخاطر سلطت الضوء على أهمية الإنفاق التوسعي الذي قامت به إدارة ترامب، والذي أحيا الروح الكينزية في البلاد، وكما يقول ستيجلتز فإن «مما يرجوه المرء أن يكون هناك ضوء في الأفق وراء هذا الوباء. هو أن نكون تجاوزنا هاجس الدين (العام)، ولكنني قلق من أنه قد يعود مجددًا».
ما يقلق ستجلتز هو أنه بعد تجاوز الوباء وارتفاع الدين العام نتيجة الإنفاق التوسعي على احتواء آثاره، فقد تتخذ السلطات من ارتفاع الدين مبررًا للتقشف في الإنفاق الاجتماعي، ويقول: «يجب أن نعد أنفسنا للمعارك القادمة».
قراءة العرض والطلب في مصر
إذا نظرنا للسياسات المصرية منذ نشأة دولة يوليو إلى الوقت الراهن سنجد أنها مع سياسات كينز، وضدها في نفس الوقت.
لقد أدرك النظام الناصري أن تطوير الاقتصاد لا يتطلب فقط تحديث الصناعة ولكن أيضًا بناء قاعدة من الطبقة الوسطى، فـ الإنتاج الحديث واسع النطاق mass production يحتاج لاستهلاك واسع النطاق أيضًا mass consumption.
لذا كان من المنطقي أن يفكر النظام في اتباع سياسة تشغيل كل الخريجين حتى لو اقتضى الأمر توظيفهم في وظائف إدارية تكاد تكون منعدمة القيمة، فهي طريقة لتوفير الدخول لهم لكي يقوموا بالاستهلاك.
لكن المشكلة أن سياسات التوظيف الحكومية أدت أيضًا لاحتواء جزء كبير من قوتنا العاملة في أنشطة منخفضة الإنتاجية، هذا بجانب مشكلة الاضطرار المستمر للاستدانة لتمويل هذه الأجور.
ومع التحول إلى التحرر الاقتصادي في التسعينيات لم ينجح القطاع الخاص في تعظيم طاقات مصر الاستثمارية بالشكل المأمول، فنسبة الاستثمار إلى الناتج الإجمالي ظلت تدور حول الـ 20%، وهو ما يمثل عاملاً يحد من فرص تنمية رؤوس الأموال ومن توفير الوظائف أيضًا.
بل إن الطبقة الوسطى التي كونها النظام الناصري من خلال توفير فرص عمل مستقرة في الجهاز الحكومي كانت تتآكل منذ التسعينيات مع سياسة الدولة للتراجع عن تشغيل العمالة، وحل محلها طبقة جديدة من العاملين وظائف غير رسمية، لا تتمتع بحياة مستقرة أو حماية تأمينية وأكثر عرضة للسقوط في الفقر.
بحسب دراسة للدكتور راجي أسعد، فإن نموذج النمو الاقتصادي في مصر خلال العقود الأخيرة أنتج ارتفاعًا حادًا في معدلات التوظيف غير الرسمي، وقد زاد نصيب قطاعي الإنشاءات والنقل والتخزين، في مجمل التشغيل بأعلى وتيرة وذلك خلال عقدين، بين 1998 و2018.
ويمثل وباء كورونا تهديدًا جديدًا لتعطل نموذجنا الاستثماري الذي كان يعاني من الكثير من الخلل قبل هذه الأزمة، مع ما يفرضه الحظر من صعوبات بشأن تدفق العمال بسلاسة لمواقع الإنتاج، أي أن العرض في مشكلة.
والطلب أيضًا في مشكلة إذ إننا أمام مستهلك منهك من إجراءات التقشف التي طبقتها مصر منذ 2016 تحت وصاية الصندوق، وهو ما جعل معدلات نمو الطلب الاستهلاكي الخاص في مصر خلال الفترة الأخيرة أقل من معدل نمو السكان.
الإجراءات العاجلة التي أعلنت عنها الدولة لمواجهة تداعيات الوباء شملت سياسات مالية ونقدية قصيرة الأجل لدعم العرض والطلب، قد لا يتسع المجال هنا لمناقشة جدواها أمام هذه الأزمة، لكن الأهم هو أننا بحاجة لسياسات أطول مدى لتعزيز كل من الاستثمار الذي يخلق فرص عمل كثيفة ومستدامة وينقل اقتصادنا لمنطقة أكثر تطورًا، وفي نفس الوقت سياسات اجتماعية تعزز من طلب فئات واسعة أنهكها التقشف.