المُخيَّم — قصة قصيرة
جاء النداء الأخير لطائرة «لوفتهانزا» المتجهة من فرانكفورت إلى إحدى مدن الشرق الأوسط، كاد موظفو الشركة يغلقون بوابة العبور، ولكن إحدى الموظفات سمعت صوتاً قادماً من بعيد يُطالبها بالانتظار قليلاً، كان الصوت مُتوسلاً، فانتظرت رغم أنها لم ترَ صاحبة الصوت، التي ظهرت بعد ذلك وهي تهرول ناحية البوابة.
أدركت «إيلدا مسعود» مقعدها وهي لم تتخلص بعد من لهاثها، جلست فَرحة لأنها ستسافر لأول مرة إلى بلد ينتمي أبوها إلى عالمه، ورغم أنه ليس بلد أبيها، إلا أنه سيُذكِّرها به لا محالة، فمنذ رحيله وهي تشتاق إليه وإلى كل شيء يمت له بصلة ولو كانت بعيدة، وهي ما زلت تتذكر كلمات عربية علمها لها أبوها؛ فقد كانا يتحدثان بها في خلوتهما؛ إذ كانت أمها تصر أن تتحدث «إيلدا» الألمانية داخل وخارج المنزل.
كانت مهمتها في هذه المدينة بسيطة للغاية، فهي ستقابل «الآنسة ك» مندوبة نقابة الصحفيين لترافقها في جولة كي تكتب تقريراً مفصلاً عن حياة اللاجئين السياسيين في هذا البلد، وفي تلك المدينة تحديداً، وبعدها سيكون لديها يوم أو يومان تشاهد فيهما المعالم السياحية لهذه المدينة العريقة. وقد زوَّدها رئيس التحرير في صحيفة «دير شبيغل» بالعديد من المعلومات التي ستساعدها في رحلتها وتوفر عليها الوقت والجهد والمال.
هبطت الطائرة وأنهت «إيلدا» الإجراءات بعد أقل من نصف ساعة، ثم خرجت لتستقل التاكسي إلى أحد الفنادق المشهورة في قلب هذه المدينة، كان الجو حاراً خانقاً، والغبار ينتشر في العاصمة مثل شبورة الصباح. أخذت حماماً بارداً لينعشها، وارتدت الروب وخرجت لتجلس في شرفة غرفتها تشرب الشاي الأسود وتشاهد شوارع المدينة المزدحمة بالسيارات والمارة، وتستمع للأصوات المختلطة والغريبة التي تصل إلى مسامعها في الطابق العاشر. اليوم للراحة والاستجمام فقط، وغداً ستأتي إليها مندوبة النقابة لتبدأ مهمتها التي ترجو أن تُتمها بنجاح كعادتها دائماً.
حين أشرقت الشمس استيقظت «إيلدا»، كانت تريد أن تشرب قهوة الصباح، قررت أن تطلبها في غرفتها، ولكنها تراجعت ورأت أن تنزل إلى اللوبي فتشربها وهي تنتظر «الآنسة ك»، التي وعدتها أمس على الهاتف بأن تأتيها في الثامنة، تناولت «إيلدا» قهوتها وهي تتطلع في وجوه نزلاء الفندق، وهم زمرة تضم عدة ألوان من البشر، وقدَّرت أن ليس أحد منهم من أبناء هذا البلد الذين شاهدتهم من التاكسي ومن النافذة.
تجاوزت الساعة الثامنة بعشرين دقيقة، ولكن «إيلدا» لم تتعجب كثيراً؛ فقد حكى لها أبوها أن أهل تلك البلاد لا يهتمون كثيراً بالوقت إن مضى. وفي الحادية عشرة دق هاتفها، وكانت «الآنسة ك» هي من يتحدث معها، لم تتكلم «إيلدا» كثيراً حين تركت «الآنسة ك» تحكي آسفة لها كيف اضطرت أن تذهب إلى المستشفى مع أمها المُسنة التي سقطت أمس إثر جلطة دماغية.
أحسَّت «إيلدا» بالأسف لهذه المرأة المسكينة، كما أحسَّت بخيبة الأمل لضياع اليوم الأول من مهمتها. صعدت إلى غرفتها بعد أن تناولت طعام الإفطار، أرادت أن تنام قليلًا ولكنها لم تستطع، فقامت من السرير، وقررت أن تنزل بمفردها لتتجول في شوارع تلك العاصمة الشرق أوسطية، طلبت من عامل الاستقبال أن يستأجر لها سيارة، وبعد أقل من نصف ساعة كانت «إيلدا» تتجول في شوارع المدينة، أرادت أن تُجرِّب الكلمات العربية القليلة العالقة في ذاكرتها، فذكرت للسائق اسم المُخيَّم الذي يعيش فيه اللاجئون كي تتعرف على أحوالهم بنفسها، ابتسم لها السائق الودود، وهز رأسه علامة على معرفته الدقيقة بوجهتها.
سار بها في شارع كبير تصطف على جانبيه المباني الشاهقة مزهوة بواجهاتها الزجاجية، وألوانها الجميلة، رأت سيارات حديثة وبعض سيارات قديمة الطراز، لكن السيارة ما لبثت أن فارقت ذلك الشارع، ولاحظت أن شوارع المدينة أخذت تضيق شيئاً فشيئاً، كما لاحظت أن السيارات الحديثة أخذت تقل، وبدأت ترى سيارات عتيقة، كما رأت مركبات صغيرة سوداء تسير على عجلات ثلاث؛ واحدة في الأمام وعجلتان في الخلف، وسمعت موسيقى عنيفة صاخبة تنبعث من تلك المركبات.
لم تعد الطريق مُمهدة، ورأت سيارات خشبية تجرها الدواب. أخذت السيارة تضطرب من تحتها وتهتز، وكأنها تسير في صحراء، رغم ازدحام الشارع بأناس بدا أنهم هم اللاجئون حقاً.
توقفت السيارة أخيراً بعد أن أحست «إيلدا» بدوار وكادت أن تفرغ ما قرَّ في بطنها من طعام الإفطار. أعطت السائق أجرته بعد أن طلبت منه العودة إليها بعد ساعتين فقط في نفس المكان، وزيادة في الأمان أخذت منه رقم هاتفه لتتصل به إن ضلت طريقها. أراد السائق الشهم أن يبقى معها، لكنها صرفته في رقة وحزم.
ترجَّلت من السيارة وبدأت جولتها في شوارع المُخيَّم الضيقة التي تزدحم باللاجئين، أخذت تتجول في صمت شديد والناس يرقبونها في حذر. طافت بالشوارع. أرادت أن تتحدث مع الناس لكن كلماتها القليلة لم تُسعفها. التقطت بعض الصور. وبعد أن انقضت الساعتان هاتفت السائق الذي أخبرها أنه ينتظرها في نفس المكان، عادت إليه بعد جهد. ركبت السيارة لتخرج من المخيم، وتعود بها إلى فندقها النظيف في قلب المدينة.
عادت «إيلدا» إلى غرفتها فَرِحة لأنها استطاعت أن تُكوِّن وجهة نظر مبدئية عن أحوال اللاجئين في المُخيَّم، وكيف يعيش الناس هناك. بعد أن تناولت غداءها دق هاتفها، وكانت «الآنسة ك» التي اعتذرت لها بشدة عن عدم مجيئها وتعطيل جولتها. راحت «إيلدا» – بعد أن استفسرت عن حالة أمها الصحية – تقص عليها في نشوة المنتصر، كيف قامت بجولة اليوم بمفردها، وكيف تعرَّفت جيداً على أحوال المخيم، ولكن «الآنسة ك» أخبرتها أن اللاجئين لا يعيشون في هذا البلد في مخيمات، ثم قالت لها لعله خطأ بسيط في الترجمة.
في الثامنة صباحاً من اليوم الثاني لـ «إيلدا» في هذه المدينة الشرق أوسطية كانت تجلس في لوبي «فندق ش»، تتناول قهوتها الصباحية، حين رأت فتاة في العقد الثالث من عمرها تتقدم إليها وعلى شفتيها ابتسامة تبدو – رغم جمالها – حزينة، تصافحت الفتاتان.
كرَّرت «الآنسة ك» أسفها الشديد، لكن «إيلدا» أخذت تحكي لها عما رأته في المخيم، حكت لها عن المنازل الفقيرة شبه المتهدمة، وعن الأطفال المهزولين، الذين لا يرتدون سراويل تقيهم الحر، ووجوههم التي لم تعرف النظافة.
حكت لها عن الشوارع المليئة بالحفر وبرك المياه الآسنة، وعن أسراب الذباب التي تملأ الجو حول أكوام من الأتربة والقمامة والنفايات، وصفت لها كيف رأت الناس يتجمعون حول إحدى السيارات التي أخذ راكبها يلقي إليهم بأكياس صغيرة من النافذة، تبيَّن لها لاحقاً أنه طعام. حكت لها عن امرأتين اقتتلتا أمام تلك السيارة وأخذت كل منهما تصرخ في وجه الأخرى، وكيف انتهى الأمر بتمزيق ملابس إحداهما.
قالت لها كيف تجولت في المخيم ورأت الكلاب والقطط الضالة وبعض الصبية يأكلون من صندوق القمامة الكبير، وحدَّثتها عن الطوابير التي رأتها لأشخاص ينتظرون حصولهم على أرغفة من الخبز. قالت «إيلدا» يبدو أن تقريري لن يكون جيداً عن أوضاع اللاجئين في بلدكم.
كانت «الآنسة ك» تستمع إليها شبه مخرسة، مفتوحة العينين، مندهشة مما تقوله لها «إيلدا». ظنت «إيلدا» أنها لا تصدق كلامها فأخرجت الكاميرا لتريها الصور فتتأكد بنفسها مما روته لها، نظرت «الآنسة ك» إلى الصور وسالت دمعة ساخنة من إحدى عينيها الواسعتين، وقالت لها هذا ليس المخيم يا «إيلدا». هيا لنبدأ جولتنا قبل أن يضيع وقتك أكثر.
بعد ساعة وصلت سيارة «الآنسة ك» عتيقة الطراز إلى أحد الأحياء، كان الشارع واسعاً، تقوم على جانبيه بعض المباني الجميلة، وتصطف الأشجار الخضراء على جانبيه. تعجبت «إيلدا» كثيراً حين قالت لها «الآنسة ك» هنا يعيش اللاجئون في بلدنا يا «إيلدا».