مواكب الخلفاء: البزخ الأسطوري الذي استحل الحرام
حين قدم الخليفة عمر بن الخطاب إلى الشام قابله الوالي معاوية بن أبي سفيان بموكب عظيم، فقال له عمر مستنكرًا: أنت صاحب الموكب العظيم؟ فرد: نعم. قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟! فرد: هو ما بلغك. قال: ولم تفعل هذا؟ لقد هممت أن آمرك بالمشي حافياً إلى بلاد الحجاز.
فرد معاوية: يا أمير المؤمنين إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن تظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ويرهبهم، فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت. فقال عمر: ما سألتك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس (تعبيراً عن الحيرة)، لئن كان ما قلت حقًا، إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلاً إنه لخديعة أديب. فرد معاوية: فمرني يا أمير المؤمنين قال: لا آمرك ولا أنهاك!
تلك الحكاية تبين كيف بدأت فكرة المواكب الملكية في تاريخ المسلمين؛ ففي العهود الأولى كان الخليفة كسائر الناس يمشي بينهم بلا حراسة ولا مظاهر ملكية، ولكن معاوية الذي كان يتبع عادات الملوك منذ أن كان واليًا على الشام، جعل «المواكب الملكية» تقليدًا إسلاميًا تطور مع الزمن ليأخذ مظاهر أسطورية أقرب للخيال.
بدأت مراسم مواكب الخلفاء في العصر الأموي، ولكنها تطورت لأشكال أكثر فخامة في الدولة العباسية ومظاهر أكثر وأكثر في الدولة الفاطمية؛ لدرجة أن موكب الخليفة العباسي المأمون خرج يومًا لصلاة العيد (تقام في الصباح الباكر) فلم يصل الناس المسجد إلا قرب منتصف النهار، لضخامة الموكب.
المواكب التي كان ادعي معاوية أن هدفها إظهار قوة المسلمين أمام أعدائهم، انقلبت إلى وسيلة للتمايز بين الدول والأخرى؛ ففي العهد العباسي تعمد الخلفاء أن يكونوا في أبهة أكثر من الأمويين، وحين ظهر الفاطميون تعمدوا أن يتفوقوا على العباسيين، واستخدم الخلفاء في سبيل ذلك الملابس التي كان الفقهاء في عهودهم يحرمونها على الرجال مثل الذهب والحرير، وغيرهما من مجوهرات لا تقدر بثمن.
تقاليد المواكب عند العباسيين
في الدولة العباسية التي قامت على هزيمتها للدولة الأموية عام 750م – 132هـ، أصبح للمواكب مراسم وقواعد واضحة تنظم في أوقات ثابتة، على عكس الدولة الأموية التي كانت المواكب فيها على فخامتها تنظم بشك مرتجل.
انقسمت المواكب العباسية إلى «سياسية» وأهمها: مواكب بيعة الخلفاء، ودينية وأهمها: الحج (وآخر من حج من خلفاء العباسيين كان هارون الرشيد– توفي 809م – 193هـ)، عيد الأضحى، عيد الفطر، النصف من شعبان، أول رجب ونصفه، مولد النبي، رأس السنة الهجرية. وأخيرًا المواكب العسكرية عند العودة من الحروب احتفالًا بالنصر.
وكانت هناك مواكب خارج هذا التصنيف مثل مواكب الصيد، وموكب «يوم الدار» وهو موكب يمشي خلاله الخليفة إلى دار من دوره (ليست قصر الخلافة) ويلتقي عوام الناس لسماع شكواهم بنفسه.
الاستعداد للموكب: ملابس من ذهب
لم يكن موكب الخليفة العباسي شيئًا عاديًا فمظهره لا يصح أن يكون عاديًا؛ فكان يلبس ما يبهر، فإذا تتبعنا جسد الخليفة بدءًا من الرأس نزولًا إلى الجسد نجد لباسه التالي:
استنَّ الخليفة المعتصم (توفي 842م – 227هـ) لباس التيجان الذهب، وأخذ هذا التقليد عن الفرس، وكان التاج ينسج من الصوف ويطرز بالذهب، وتحفه المجوهرات والأحجار الكريمة.
وقبل التاج كان الخليفة يرتدي العمامة، وكانت تتميز دائمًا بلونها الأسود- لون راية العباسيين- وتنسج من أفخم الأقمشة وتزين بالذهب. وتحت العمامة كان الخليفة يلبس القلنسوة، وهي قماش يلف على الرأس باستدارة، وتصنع من الحرير، ولونها أسود، وأحيانًا أبيض، وتزين بالنقوش.
وفوق الجزء الخلفي من العمامة كان يوضع الطيلسان، وهو عبارة عن ثوب خارجي خال من الخياطة، منه المربع أو المثلث أو المدور الشكل، ويغطي جانبي الوجه والرقبة والكتفين والظهر، ويشبه إلى حد ما حجاب المرأة.
أما لباس البدن، فكان في الغالب عبارة عن قميص وسروال، وفوقهما جبة أو دراعة (مصنوعة من قماش ثقيل)، وقد يستبدل ذلك بلباس يسمى «قباء» وكان زيًا شائعًا حتى بين العامة، مع اختلاف الأقمشة وتطريزها.
ولم يرتدِ الخلفاء العباسيون من لباس البدن إلا «الغريب والعجيب» بحسب وصف الجاحظ، ولم يكن أحدهم يلبس الثياب إلا مرة واحدة، وفوق الثياب كان الخليفة يشد على وسطه شيئًا شبيهًا بالحزام يسمى «مَنْطِقَة»، وكانت تصنع للخلفاء من الذهب، كما كانت تتدلى على صدر الخليفة سلسلة ذهبية مرصعة بالجواهر الثمينة.
أما ركاب الخليفة، فكان يختلف باختلاف طبيعة الموكب، فقد كانت المواكب إما برية على الدواب، أو نهرية من خلال السفن التي تمضي في نهر دجلة.
دواب الخليفة كانت متنوعة في عهود المنصور والمهدي والهادي، ولكن بعد محاولة اغتيال الهادي وهو راكب على حمار في موكبه، لم يركب بعدها هو أو من خلفوه إلا الخيل؛ وكانوا يتفننون في انتقاء هذه الجياد، فكانوا يركبون البرذون الأجنبية شديدة البياض، ذات الشعر الكثيف الناعم.
أما إن كان الموكب يمشي في النهر، فكان الخليفة يركب سفينة حربية تسمى بـ«الحراقة» تمييزًا عن السفن العادية. وممن اشتهروا بذلك كان الخليفة محمد الأمين (توفي 198هـ – 813م) الذي أمر بإنشاء حراقات على شكل حيوانات أو طيور أو زواحف قوية: أسد، فيل، عقرب، حية، فرس، دولفين.
سير الموكب: خيلاء إمبراطور ورعية ينتظرون الدنانير
كان من سمات المواكب أن يصطف الناس على جانبي الطريق، ويخرج الخليفة راكبًا دابته أو سفينته ويحمل في يده ما تسمى «العنزة» التي كان الخلفاء يتوارثونها، وهي بين العصا والرمح، وكانوا يحاولون إشاعة أنها تعود للنبي؛ لإضفاء قداسة على الخليفة وموكبه.
الموكب – سواء كان نهريًا أو بريًا- كانت له تقاليد صارمة في ترتيبه؛ ففي مقدمته يمشي الحرس والجنود على اختلاف طبقاتهم، يحمل بعضهم أعلام الدولة السوداء ومعهم جنود «المطرقة» المسلحون المسؤولون عن توجيه الموكب وتأمينه.
وخلفهم عازفو الطبول والآلات الموسيقية المحلاة بالذهب، ويليهم أمراء البيت العباسي على الخيول، ثم الخليفة العباسي ممتطيًا حصانه العجيب، وبين يديه كبار رجال الدولة ومن يختارهم الخليفة ليكونوا بجواره، وبعدهم تأتي حشود وتشكيلات ضخمة من الجند.
وخلال سير الموكب كان رجال الخليفة ينثرون الدراهم والدنانير وعطور المسك والعنبر على الناس المصطفة على جانبي الطريق خلال مرور الموكب.
وكان الخليفة يتحرك من قصره في الغالب إلى المسجد الجامع الذي بناه أبوجعفر المنصور، ثم يعود، وهذا الأمر كان يتطلب وقتًا طويلاً بطول الموكب الذي كان يمشي فيه الآلاف من الجند والناس.
الفاطميون يتفوقون على العباسيين
كان الفاطميون ينظمون المواكب الاحتفالية الأكثر تعقيدًا وفخامة بين كل معاصريهم، لأكثر من سبب، ومن أهمها منافسة العباسيين الذين كانوا قد ضعفوا، وبيان أن الخليفة الفاطمي هو الخليفة الأقوى بل والفعلي للعالم الإسلامي، وقد كان الخليفة الفاطمي يعامل كإمام مفوض من الله وله قداسة دينية في نفوس الشيعة تفوق بكثير قداسة خلفاء العباسيين عند أهل السنة.
وكان للفاطميين مواكب ثابتة في مناسبات دينية وقومية. الدينية هي: أول العام الهجري، أول شهر رمضان، أيام الجمع الثلاث من شهر رمضان، صلاة عيد الفطر، صلاة عيد النحر الأضحى، العيد الشيعي «غدير خم». والقومية المصرية هي: تخليق المقياس، وفتح الخليج.
الاستعداد للموكب الأكثر تعقيدًا في التاريخ الإسلامي
من يراجع المصادر يجد تعقيدات وتفاصيل في مواكب الفاطميين، يصعب شرحها تفصيلًا هنا، ولذلك سننتقي بعض طقوسها وأبرز الاستعدادات المتعلقة بها.
معدات المواكب المحيطة بالخليفة: أرستقراطية عسكرية
كان الخليفة يتوسط الموكب الضخم المهيب، ومن حوله الآتي:
- 300 عبد سوداني لحراسته يحملون سيوفًا مزينة بالذهب والفضة والأحجار الكريمة ويركبون جيادًا عليها سراج مشغولة بالذهب وفي أعناقها الأطواق الذهب وقلائد العنبر، وربما يكون في أيدي وأرجل أكثرها خلاخل دائرة عليها، ومكان الجلد من السروج الديباج الأحمر والأصفر وغيرهما من الألوان.
- علمان يسميان «لوائي الحمد» من الحرير الأبيض المشغول بالذهب، ملفوفين على رمحين، يحملهما جنديان شديدان ويمشيان حول مظلة الخليفة في الموكب.
- إحدى وعشرون راية من الحرير المرقوم، ملونة بالجملة القرآنية «نصر من الله وفتح قريب».
- رمحان رأسيهما على شكل هلال مصنوع من الذهب، وملفوفة بالديباج الأحمر والأصفر.
- رمح رأسه ومقبضه من الذهب وله جراب من اللؤلؤ، وبعض أجزائه تنسب لحمزة بن عبد المطلب عم النبي، ويحمله أمير فاطمي مميز، لما لهذا الرمح تحديدا من قداسة.
- السيف الخاص بالخلافة، وهو من صاعقة وقعت من السماء بحسب ما يقال، وحليته ذهب مرصع بالجواهر في خريطة مرقومة بالذهب، ويحمله أمير عظيم القدر، وهو أكبر وأهم حامل في الموكب.
وخلال ركوب الخليفة على حصانه تجهز له مظلة يحملها جندي ويتحرك مع الخليفة بها، ليظله بها؛ وهذه المظلة لم تكن أقل قيمة مما ذكرنا؛ بل تفوق ذلك؛ فهي تصنع من قماش مشدود على خشب من الزان، وهذا القماش من أرقى الأقمشة وأغربها، ولا بد أن يتناسب لونه مع لون لباس الخليفة؛ وكانت تطعم المظلة بالذهب في أغلب أجزائها.
أما الوزير، وقد كانت له مكانة كبيرة في الدولة، فكان له مرافقون في الموكب وحرس وعتاد ورايات ورماح، ولكنهم كانوا أقل من الخليفة من حيث الأبهة والفخامة، رغم تحليهم بالذهب وخلافه.
ملابس الخليفة: أرطال من الذهب!
على عكس العباسيين ولونهم الأسود كان تاج الخليفة الفاطمي ولباسه عمومًا يسيطر عليه اللون الأبيض؛ حيث كان التاج يلف بمنديل أبيض يسمى «شدة الوقار»، ومعها جوهرة تسمى «اليتيمة» لشدة جمالها ولأنها لا تقدر بثمن، تُشد على التاج بالمنديل ومعها ما هو أقل منها من الجواهر توضع في منطقة من التاج تعرف بـ«الحافر»، وهو على شكل هلال مصنوع من الياقوت الأحمر، وبدائرها قصب زمرد.
وفي يده كان الخليفة يمسك بما يُسمَّى «قضيب المُلك»، وهو عود طوله «شبر ونصف»، مكسو بالذهب المرصع بالدر.
وعلى جسده، كان يرتدي بدلة مزينة بكثير من الذهب بأنواعه المختلفة، إحداها احتوت على «357 مثقالاً من الذهب العالي المغزول، وألفان وتسعمائة وأربع وتسعون قصبة من الذهب العراقي»، وكانت تخص الخليفة الأمر بأحكام الله، بحسب ما ذكر ابن مأمون البطائحي في «أخبار مصر».
وكانت أيضًا بدلة الوزير والأمراء الفاطميين تحتوي على ذهب، ولكن ليس بأسطورية بدلة الخليفة.
الطواف بالقاهرة: يبدأ بـ«الغريبة» وينتهي بمشهد تمثيلي
كان المسؤول عن تأمين وتنظيم الموكب والي القاهرة، الذي كان يسير متنقلًا بطول الموكب ليطمئن على انضباط الأمور. وكان أفراد الموكب ينتظمون أمام قصر الخلافة منتظمون في تشكيلاتهم الضخمة انتظارًا لخروج الخليفة.
ويستعد الموكب للتحرك بمجرد أن يدوي صوت البوق الذي يمثل إعلانًا عن خروج الخليفة من القصر، وكان هناك بوق مخصوص لهذا الإعلان يسمى «الغريبة»، مصنوع من ذهب، ورأسه معوج، وصوته يختلف تمامًا عن أي من أبواق الموكب، وليس له شبيه في العموم.
حين يسير الموكب يتقدمه الأمراء وأولادهم ثم مسؤولو القصر، ثم أكثر من ألف مقاتل يحملون السيوف، ثم الخليفة وحاشيته وحراسه والتشكيلات المرافقة له التي ذكرناها.
ثم يأتي الوزير في هيئته وحراسه وراياته، وكان يحرسه حوالي خمسمائة رجل. ومن خلفه موسيقى الموكب، والتي تتألف من طبول وصنوج وآلات نفخ كثيفة، ويبلغ عدد الطبول وحدها 60 طبلة ضخمة.
ثم تأت تشكيلات الجيش وأمرائه بتشكيلاتهم كالريحانية والجيوشية والفرنجية والوزيرية إلخ، ويقدر عددهم بالآلاف.
وقبل الموكب بأيام كان الناس يعلمون بميعاده والأماكن التي يمر بها ليصطفوا بها ويشاهدوا الخليفة. وكان الموكب في الغالب يمر حول القاهرة وداخلها في مسار من اثنين: أكبرهما كان يبدأ من القصر إلى باب النصر مارًا بحوض عز الملك ومسجده، ثم ينعطف يسارًا إلى باب الفتوح ثم إلى باب القصر.
والمسار الأصغر كان إذا خرج الموكب من باب النصر بمحاذاة سور القاهرة، ثم يعود ويدخل من باب الفتوح ثم إلى القصر.
ومع قرب انتهاء الموكب كان الخليفة يقف أمام جامع الأقمر، ليعطي فرصة للوزير ليترك مكانه في الموكب ويتقدم مسرعًا ليسير أمام الخليفة ماشيًا على قدميه، فيقبل على الخليفة بوجهه مقدمًا فروض الطاعة والولاء، بحركات تمثيلية توحي بالذلة، فيشير الخليفة بيده مسلمًا عليه كمكرمة له، وهنا ينتهي الموكب ويعود الخليفة لقصره.
- البداية والنهاية، ابن كثير
- مروج الذهب، المسعودي
- تاريخ بغداد، ابن طيفور
- تاريخ الطبري
- الإمامة والسياسة، ابن قتيبة
- العقد الفريد، ابن عبدربه
- الكامل، ابن الأثير