القاهرة 2050: خريف نزلة السمان
هو مشهدٌ رآه البعض مأساوياً، فالعديد من الأسر الكادحة على وشك أن تتغرب وتتشرد عن وطنها، أو تفقد مصدر دخلها المتواضع على أقل تقدير… والبعض الآخر رحّب به أشد الترحيب، كما فعل سابقاً عند إثارة أزمة «باعة وسط البلد» ومثلث ماسبيرو وجزيرة الوراق، بدافع الرغبة في تنمية الاقتصاد والعمران في البلاد… فريق ثالث شعر بـ «الشماتة» تجاه سكان المنطقة، الذين كانوا أداة بطش نظام مبارك ضد الثوار في أشهر معارك ثورة يناير/كانون الثاني 2011 «موقعة الجمل».
وبجانب هذا وهذا وذاك، فهو مشهد سريالي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لأن عمليات الإزالة التي تشهدها حالياً منطقة نزلة السمان، تأتي على بُعد أيام قليلة من الذكرى الـ 8 لثورة يناير/كانون الثاني 2011، والتي انحاز فيها قسمٌ من أهالي المنطقة إلى نظام مبارك –بغض النظر عما إذا كان هذه الانحياز واعيا أم لا- وهم من تفاخروا كذلك بانحيازهم للدولة المصرية بعد 3 يوليو/تموز 2013، ولكنهم في نهاية المطاف لقوا نفس مصير «باعة وسط البلد»، الذين مروا بتجربة الانحياز ذاتها.
ومن ناحية أخرى، ظهر تزامن غريب بين حدوث أي تطور في مخطط إزالة منطقة «نزلة السمان» وبين تقلد الدكتور «مصطفى مدبولي» للمناصب الحكومية المختلفة. حيث ظهر المخطط للمرة الأولى، عام 2009 على يد مدبولي، حينما كان رئيساً للهيئة العامة للتخطيط العمراني، ثم تجدد الحديث عنه –بعد تطويره- عام 2014، حينما تولى وزارة الإسكان. وشرع في تنفيذه على أرض الواقع حينما تولى رئاسة الوزراء عام 2018.
الشيخ «حمد السمان»
تقع منطقة نزلة السمان جنوب حي الهرم، حيث يحدها من الشمال «شارع الهرم»، ومن الشرق «شارع ترعة المنصورية»، ومن الجنوب «طريق مساكن كفر الجبل»، ومن الغرب «سور المنطقة الأثرية».
ذُكر في كتب التاريخ أن أهالي نزلة السمان كانوا يقدمون الخدمات لبناة الأهرام، بل وفي بعض المراحل شاركوا في عمليات البناء بأنفسهم، خاصة هرم خوفو.
وكانت هذه المنطقة تُسمى سابقاً «بركة السمان»، وذلك لتواجد مياه الفيضان بها، وكانت تصل حتى قدمي أبو الهول أسفل الهضبة، وكان أهالي المنطقة يسكنون أعلى الهضبة، فكان طائر السمان يهبط بالمنطقة أثناء الهجرات الموسمية للطيور. وبعد بناء خزان أسوان انحسرت المياه وبدأ الأهالي في النزول من الهضبة وبناء مساكنهم في المنطقة الحالية.
أمّا بالنسبة للتسمية الحالية «نزلة السمان»، فهناك رأيان حول أصلها:
الأول، يربطها بطائر «السمان» -كما سبق ذكره. والثاني، يربطها بأحد الشيوخ ويُدعى «الشيخ حمد السمان»، والذي اعتبره الناس من أولياء الله الصالحين، ويُروى أنه جاء منذ زمن بعيد من بلاد المغرب العربي وعاش في هذا المكان (نزلة السمان) للاعتكاف والتقرب إلى الله، وبعد وفاته سُميت المنطقة باسمه. ولا يزال الأهالي هناك يحتفلون بمولده بميدان (سيدي حمد السمان)، وتتوافد الجموع إليه كل عام من كافة أنحاء الجمهورية.
إقطاعية «نزلة السمان»
خلال القرنين الـ 18 و19 وحتى منتصف القرن الـ 20، كان يقطن هذه المنطقة مجموعه من الأعراب البدو، هاجروا من الغرب (ليبيا تونس المغرب)، ولكن بحكم تواجدهم بالمنطقة وما تحويه من آثار مشهورة، بدأوا في العمل في مجالات السياحة وتقديم الخدمات السياحية لزوار المنطقة، وبعد حرب عام 1967 تغيرت التركيبة السكانية، وذلك بعد قيام الحكومة بتهجير أعداد من سكان مدن القناة للمنطقة، ومع التطور والامتداد العمراني أصبحت نزلة السمان جزءاً من حي الهرم.
وبحكم موقعهم، عمل سكان المنطقة –والذين يتخطى عددهم الـ 50 ألف نسمة- بالسياحة وكافة الأنشطة الملحقة بها، من إرشاد وفندقة وخدمات ترفيهية (رياضتي الرماية وركوب الخيل)، ونتيجةً لذلك، لحقت بعض عائلات نزلة السمان بركب الثراء، بل وأحياناً الثراء الفاحش، ومن ثَمَّ وصلت –في بعض الأحيان- إلى مناصب مرموقة داخل هيكل الدولة، وظل باقي السكان فقراء على حالهم، يسيرون في ركب أغنياء المنطقة، ويحتمون بظِلهم، إذا ما جارت عليهم الدولة يوماً.
ونتيجة تزاوج المال والسلطة في نزلة السمان، خضعت البروليتاريا هناك –قسراً أو كخيار أوحد- إلى المال والسلطة، فكانت في بعض الأحيان أداة بطش سلطوية، كما حدث في «موقعة الجمل».
لذلك، لا تستغرب حينما تدخل إلى منطقة نزلة السمان، فتستقبلك الفيلات والقصور الفارهة، ثم تتعمق لتجد البيوت القديمة الأقرب إلى العشش في انتظارك. وهو مشهد متكرر في أغلب عشوائيات القاهرة، ولكن ما يميز نزلة السمان هو علاقة طبقتي المجتمع هناك ببعضهما البعض، التي تشبه في إحدى صورها، المجتمع الإقطاعي عند كارل ماركس.
ويذكر أهالي المنطقة أن أصحاب تلك الفيلات والقصور هم من أهل المنطقة، والذين عملوا في السياحة لسنوات إلى أن أصبحوا أصحاب شركات سياحة، وهناك عائلات كبيرة ومشهورة، منها عائلة «الشاعر»، والتي ينتمي إليها «اللواء إسماعيل الشاعر» مساعد وزير الداخلية السابق، وهي عائلة تعمل في السياحة منذ حوالي 50 عاما، بجانب عائلة «الجبرتي» المشهورة بالعمل في السياحة في محافظات عديدة. وهناك عائلة «خطاب» أصحاب البازارات، وعائلة «الوليلي».
القاهرة 2050
منذ الثمانينات، تدور الأحاديث دائماً حول مُخطط حكومي لإزالة مساكن منطقة نزلة السمان، بدعوى أنها منطقة أثرية. وفي عام 1999، حرّمت وزارة الآثار على أهل المنطقة تنكيس المباني أو هدمها، أو حتى تطويرها إلا بتصريح مسبق، طبقاً للقرار رقم 18 لعام 1999، فبدت المنازل وكأنها عشوائية، وبات الأهالي يترقبون التهجير بحذر ورفض، وتعاقبت الحكومات ولم يتم الهدم.
عام 2002، قام زاهي حواس، رئيس المجلس الأعلى للآثار آنذاك،ببناء سور بطول 18 كيلومتراً حول هضبة الأهرامات؛ لكي يعزل المنطقة عن الحياة العمرانية، وذلك كخطوة أولى على الطريق لإزالة كافة أشكال الإسكان والتجارة غير الرسمية بالمنطقة المجاورة لهضبة الأهرامات.
إلى أن جاء عام 2009، في عهد حكومة أحمد نظيف، حيث قام «مصطفى مدبولي» رئيس الهيئة العامة للتخطيط العمراني آنذاك، ووزير الإسكان لاحقاً (عام 2014)، ورئيس الوزراء حالياً، بالإعلان عن خطط الحكومة لإزالة جميع المساكن غير الرسمية في نزلة السمان والمناطق العشوائية المحيطة بهضبة الأهرامات، ونقل سكانها إلى مكان آخر. وذلك في إطار «رؤية القاهرة 2050».
وقد أعرب زاهي حواس في مقال نُشر في صحيفة الأهرام، عن تقديره لاهتمام حكومة نظيف بمعالجة ما سماه بـ «التلوث البصري»، والذي كان يقصد به نزلة السمان. لم يُكتب لخطط الحكومة حينئذ النجاح، بسبب موجات الغضب والرفض الجارف من قبل سكان المنطقة، ناهيك عن تدخل ذوي النفوذ من أبناء المنطقة. كما أن التطورات السياسية التي شهدتها البلاد بعد ذلك، وقيام ثورة يناير/كانون الثاني 2011، حالت دون الحديث عن هذا المخطط مُجدداً.
ومع وصول «مصطفى مدبولي» إلى منصب وزير الإسكان، عام 2014، عاد الحديث مُجدداً عن منطقة نزلة السمان، عبر طرح رؤية استراتيجية للتنمية العمرانية بهضبة الأهرامات ونزلة السمان، والتي تتلخص في تحويل هضبة الأهرامات إلى مزار سياحي عالمي، وتطوير المنطقة الواقعة بينها وبين المتحف المصري الكبير إلى متحف مفتوح يشتمل على حدائق وساحات عامة يخترقها شارع عريض تحفّه الأشجار. ووفقاً للرؤية الاستراتيجية، فإن هذا التصور سيتحقق من خلال مخطط التطوير الذي تم وضعه لحماية المنطقة التاريخية من الزحف العمراني، ولدعم الأنشطة التجارية في المنطقة ورفع مستوى معيشة الأهالي أيضاً، وللتعامل مع حركة الزوار والمقيمين.
ويتضمن تطوير هضبة الأهرامات ونزلة السمان المشاريع التالية:
1. المتحف المصري الكبير (على مساحة 170 فداناً).
2. منطقة للفنادق (على مساحة 56 فداناً).
3. خوفو بلازا (على مساحة 27 فداناً).
4. شارعاً سياحياً (يمتد لمسافة 3 كيلو مترات).
5. مشاريع فندقية مستقبلية (على مساحة 143 ألف فدان).
أحد الأهداف المعلنة لهذا المخطط هو إزالة أي مبانٍ قد تحجب مشهد الأهرامات، وخاصة تلك الواقعة بالمناطق القريبة من المتحف الكبير والأهرامات، حيث يحاط كلاهما بالساحات والمناطق الخضراء. ولإنشاء هذه الواحة، سيتم نقل 53.392 من سكان نزلة السمان على مدى ست سنوات إلى موقع آخر، بتكلفة 1.5 مليار جنيه تم تخصيصها لدعم عمليات الإخلاء والتعويض وإعادة توطين السكان.
وفي صباح يوم الإثنين، 21 يناير/كانون الثاني 2019، قامت قوات الأمن بعمليات إزالة واسعة في منطقة نزلة السمان، شملت عدداً من المنازل والمحال التجارية، وذلك بأوامر مباشرة من رئيس الوزراء (مصطفى مدبولي)، بحجة إزالة كافة التعديات على أراضي الدولة، والمباني المخالفة للقانون بمحيط منطقة الأهرامات الأثرية. وهو ما أدى إلى تجمهر الأهالي اعتراضاً على هذا القرار، ونشوب مواجهات مع قوات الشرطة، أسفرت عن إطلاق الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين، والقبض على عددٍ منهم.
الاستثمار أولاً
بمنطق رجل الأعمال، الذي يبحث عن المكاسب المالية بغض النظر عن العوامل الإنسانية، تعاملت الدولة مع منطقة نزلة السمان، كما تعاملت سابقاً مع حي الزبالين في منشية ناصر، ومثلث ماسبيرو، وجزيرة الوراق، والباعة الجائلين في منطقة وسط البلد. وتم التعامل مع قضية التخطيط العمراني (كمدخل للتنمية الاقتصادية) على أنها هدف في حد ذاتها، حتى وإن جارت على المواطن البسيط، الذي من المفترض أن تستهدفه التنمية الاقتصادية بالأساس.
وكذلك قام تصور الدولة في نزلة السمان على طرد آلاف السكان من أجل «حماية الآثار»؛ ولإقامة حدائق وشوارع عريضة ومتاحف مفتوحة تراعي جميعها النواحي البصرية والجمالية. من ناحية أخرى، تتجاهل أو تُسقط من حسابها أولويات الاقتصاد والمأوى لهؤلاء السكان، الأمر الذي قد يجلب عليهم معاناة أكبر، ويتركهم دون حماية في أوقات متأزمة اقتصادياً كهذه.
وهنا نشير إلى عدد من النقاط:
1. من المفترض أن عدد السكان الذين سيتأثرون بالإخلاء وإعادة التوطين هو تقريباً 53.392، وهذا سيتطلب 12.973 وحدة سكنية و242 وحدة مخصصة للاستعمال التجاري.
2. المعلومات المتاحة بشأن خطط الحكومة للإخلاء وتعويض السكان وإعادة توطينهم قليلة أو تكاد تكون منعدمة، وهو ما يجعل مسألة قبول الأهالي للمخطط مستبعدة، فمصادر الرزق بالنسبة لمعظم السكان ستتأثر سلباً بالتأكيد، إذ إن غالبية النشاط الاقتصادي في نزلة السمان يعتمد على السياحة المرتبطة بالأهرامات.
3.المنازل بـنزلة السمان عبارة عن مساحات شاسعة، بعضها 300 متر، والبعض الأخر 750 مترا، وهناك ما هو أقل وأكبر، وهو ما كان له أثر في زيادة غضب الأهالي ورفضهم للإزالة بعد أن علموا بمساحات الوحدات السكانية البديلة، التي ستعوضهم بها وزارة الإسكان عن منازلهم، والتي تتراوح بين 59 و65 و85 متراً.
إجمالاً، يتضح أن مخطط إزالة منطقة نزلة السمان، قد يكون منضبطا ودقيقا ومتكاملا من الناحية الاستثمارية، لكنه بكل تأكيد يفتقد لهذه السمات فيما يتعلق بتعامله مع العنصر البشري الذي يقيم في هذه المنطقة، وهو أمر لم يعق المشروعات السابقة (مثلث ماسبيرو وجزيرة الوراق)، ومن غير المرشح أن يعيق هذا المشروع أيضاً، خاصة في ظل الرغبة الملحة التي تبديها حكومة مدبولي في إتمامه.
الأمر الوحيد الذي قد يجعل تجربة نزلة السمان مختلفة عن تجارب الإزالة السابقة، هو التركيب الديموغرافي للمنطقة الذي سبق وأن تحدثنا عنه. ففي كل تجربة إزالة كانت طبقة البروليتاريا هي من تقود معارك الرفض وحدها ضد مصالح الرأسمالية. ولكن في نزلة السمان تمتلك الرأسمالية أسهما عديدة في تنظيم الوضع الراهن، وهي من خاضت سابقاً معارك الرفض ضد محاولات الحكومة لإزالة المنطقة، ومن المرشح أن تُجدد هذه المعارك، إلا إذا حملت بواطن الأمور أسرارا أخرى.