«سي عبده» مايسترو الست
في بدايات القرن العشرين كان الجرامافون هو الوسيلة الوحيدة التي تتيح لعوام الناس الاستمتاع بفنون السماع قبل نشأة الإذاعات الأهلية، ثم الرسمية بعد ذلك. وتسابقت شركات الأسطوانات في ذلك الوقت للظفر بتسجيلات أشهر الصييتة والعازفين.
ولأن التقاسيم على العود والقانون والكمان تحتل مكانةً بارزةً في الغناء الشرقي التقليدي، وكانت لا تقل أهميةً عن الأداء الصوتي المصاحب لها، وتمهيداً لا بد منه قبل الليالي والمواويل التي تسبق أداء القطعة المغناة، فكان العازفون المهرة على تلك الآلات يحظون بمكانةٍ عاليةٍ وشهرةٍ واسعةٍ لا تقل عن تلك التي يحظى بها المطربون والمطربات. ولذلك حرصت شركات الأسطوانات في بداية كل أسطوانة على أن تذكر أسماء كل العازفين بعد اسم الشركة والمطرب مباشرةً، للتباهي بقدرة الشركة على اجتذاب كبار العازفين للتسجيل لديها.
وكان المطيباتية في التسجيلات يوزعون صيحات الإعجاب والتشجيع بين المؤدي والعازفين، فكنت تسمع أحدهم في خلفية التقاسيم أو الغناء يرفع عقيرته صائحا: الله الله يا سي علي يا رشيدي… يا سلام سلم يا سامي أفندي يا شوا… إيه الحلاوة دي يا سي عبده يا صالح.
تدق دقات المسرح التقليدية ثلاثًا وتدق معها القلوب العطشى لهفةً وشوقًا، ثم يهتز الستار المسدل لثوانٍ قبل أن ينفرج عن سيدة الغناء العربي السيدة أم كلثوم بأناقتها الأخاذة ووقارها المعهود، تتوسط خشبة المسرح وتجاوب عواصف التصفيق الهادر والهتافات المدوية والدعوات بطول العمر بإيماءةٍ وقورٍ من هامتها الشامخة وانحناءةٍ خفيفةٍ من قامتها السامقة، قبل أن تتخذ مكانها وسط فرقتها الموسيقية الأنيقة.
وإذا كنت من هؤلاء الذين لا يكتفون بسماع شدو الست وتغريدها، وتسعد أيضًا بمشاهدة تسجيلاتها المصوّرة المتاحة، فلعلك لاحظت أن فرقة السيدة ليس لها مايسترو يقف مُوليًا وجهه شطر الفرقة ممسكًا بعصاه وناظرًا إلى النوتة الموسيقية الموضوعة أمامه كما هو الحال في كل الفرق الموسيقية الكلاسيكية، وكل ما تلاحظه هو ذلك الرجل ذو الصلعة اللامعة والملامح الوادعة الجالس على يمين السيدة واضعًا يده اليسرى على أوتار القانون ورافعًا يده اليمنى في انتظار جلوس السيدة وهدوء موجات التصفيق والهتاف ليعطي إشارة بدء العزف للفرقة.
بين المشهديْن السابقين في حياة «سي عبده» أو عازف القانون العملاق الأستاذ محمد عبده صالح كانت هناك محطاتٌ كثيرةٌ ومهمةٌ، ربما نعود لها في مقالٍ لاحقٍ، ولكننا سنكتفي في السطور القليلة القادمة بتسليط بعض الضوء على المحطة الأكبر والأهم في مسيرة حياته الحافلة، وهي علاقته الشخصية والفنية بكوكب الشرق والغرب السيدة أم كلثوم، والتي استمرت ما يقرب من نصف قرنٍ كاملٍ من يوم لقائهما الأول في منزل صديقهما المشترك عازف العود المعروف أمين بك المهدي عام 1926، وحتى وفاة محمد عبده صالح في الثلاثين من يونيو عام 1970.
ولا يعني ذلك أن المقال سيلم بكل جوانب هذه العلاقة أو حتى معظمها، فذلك من المستحيل بمكانٍ، ولكني أعتبر هذا المقال بمثابة تحية محبةٍ متواضعةٍ ولمسة تقديرٍ بسيطةٍ لفنانٍ كبيرٍ يحتل في نفسي وفي تاريخ الموسيقى العربية مكانةً مميزة لم يصلها غيره، وإن لم يقدر إعلامياً كما يجب.
في عام 1929 استعانت المطربة الشابة الصاعدة إلى القمة بسرعة الصاروخ الآنسة أم كلثوم بعازف القانون الألمعي الأستاذ محمد عبده صالح ليحل محل القانونجي المعروف إبراهيم العريان في تختها، بعد خلافٍ نشب بينهما. وكانت أول أسطوانةٍ يشترك في تسجيلها كعازفٍ في تخت الآنسة أم كلثوم هي أسطوانة المونولوج البديع «عينيّا فيها الدموع» من نظم شاعر الشباب أحمد رامي وألحان فلتة زمانه الموسيقار المجدد محمد القصبجي عام 1931. وعزف معها لأول مرة أمام الجمهور في حفلٍ أحيته على مسرح دار سينما فؤاد في شارع 26 يوليو -بنيت مكانها عمارة الجندول فيما بعد- وشدت ليلتها بروائع ثلاث هي «ليه عزيز دمعي تذله» و«هو ده يخلص من الله» والثالثة ربما تكون «آه يا سلام زاد وجدي» لست متأكدا من ذلك، حيث ينقصنا التوثيق الدقيق عن تسجيلات وحفلات تلك الفترة، ونعتمد بشكلٍ شبه كليٍ على المعلومات المتناثرة من هنا وهناك التي يجمعها أساتذتنا الأفاضل من جامعي التراث وموثقيه.
في عام 1937 تعاقدت الإذاعة المصرية مع شادية الوادي الآنسة أم كلثوم على تقديم حفلٍ شهريٍ تنقله موجات الإذاعة على الهواء مباشرةً، فشرعت ثومة في تكوين تختها الخاص الذي سيصاحبها في تلك الحفلات، وانتقت أمهر وأشهر العازفين على كل آلةٍ. وكان أمير القانون محمد عبده صالح قد ثبت أقدامه كعازف القانون الوحيد في التخت الكلثومي، وبسرعةٍ فائقةٍ تم الانسجام والتآلف بين أفراد التخت الوليد، وأصبحوا عائلةً واحدةً لم يحدث بينهم ما يكدر الصفو إلا لماما، ولم يفرق بينهم إلا الرحيل.
ومع تطور الموسيقى العربية والنهضة الهائلة التي بدأت إرهاصاتها في الظهور في الأربعينيات والخمسينيات، تطور التخت الكلثومي المكون من عددٍ لا يتجاوز أصابع اليدين من العازفين إلى فرقةٍ موسيقيةٍ كبيرةٍ تضم ما يقرب من عشرين عازفا، هم خيرة عازفي الوطن العربي، يعزفون بالساعات خلف الست من الذاكرة والبروفات بلا نوتةٍ موسيقيةٍ مكتوبةٍ وبلا نشازٍ أو خطأ يذكر. واحتفظ محمد عبده صالح بمكانه كعازف ومكانته كمايسترو فرقة الست حتى رحيله عن دنيانا في شهر يونيو من عام 1970.
في قاعة إيوارت التذكارية وحديقة الأزبكية ودار سينما ريفولي ودار سينما قصر النيل وغيرها من المسارح التي شهدت أمجد أيام الفن الكلثومي في الزمن الغابر، واحتضنت جوانبها مئات الحفلات والأمسيات التي نعم بحضورها المحظوظون والمحظوظات من السابقين والسابقات، كان كثيرا ما يستبد الطرب بالسيدة وتشرع في ارتجالاتها الطربية وتصرفاتها اللحنية المعجزة. وكانت عادةٍ ما تستهلها ببعض التقاسيم وفواصل العزف المنفرد التي يمهد بها العازفون المجال لأسماع ووجدانات الحضور كي يستطيعوا تحمل نشوة الجرعة الطربية التي تلوح في الأفق.
وكان لمحمد عبده صالح شعبيةٌ كبيرةٌ بين جمهور حفلات الست، فما إن تبدأ أنامله في عزف التقاسيم الساحرة على القانون حتى تضج الصالة بالتصفيق والهتاف المشهور «أيوه يا عُبَد»، ثم يخيم الصمت المبهور على المسرح ريثما ينتهي سي عبده من التقسيمة فتنفجر الصالة مرةً أخرى بالتصفيق والهتافات الصارخة المطالبة بالمزيد، فينهض سي عبده من كرسيه ويحيي الجمهور واضعا يده على رأسه وينحني عدة مراتٍ في تواضعٍ وأدبٍ جمٍ قبل أن يعاود الجلوس ويعيد التقسيمة مرتين وثلاثا.
في منتصف عام 1969 تبدأ السيدة أم كلثوم في بروفات أغنيتها الجديدة «اسأل روحك» التي ستقدمها في افتتاح موسمها الغنائي المقبل، ويتعرض محمد عبده صالح لأزمةٍ صحيةٍ طال أمدها وغيبته عن حضور البروفات والقيام بدوره المعتاد في قيادة فرقة الست. وبمجرد أن تتحسن صحته قليلا يعاود حضور البروفات في أحد أستوديوهات الإذاعة لأول مرة بعد أن تغيب عن 14 بروفة ويجلس متحاملا على ألمه محتضنا قانونه ومادا ساقيه على كرسي أمامه، محاولا أن يعوض ما فاته أثناء مرضه.
وبعد أن يمن الله عليه بالشفاء ويستعيد عافيته تنفرج عنه الستار في دار سينما قصر النيل بالقاهرة في الأول من يناير عام 1970 محتلا مكانه المعهود خلف قانونه على يمين السيدة كما نلاحظ في التسجيل التليفزيوني النادر لهذا الحفل، والذي قدمت فيه كوكب الشرق لأول مرة درتها الجديدة «اسأل روحك» كهدية لمريديها في مطلع العام الجديد.
في الخامس من شهر مارس عام 1970 كان الملايين من المحيط إلى الخليج في شوقٍ ولهفةٍ للقاء السحاب الكلثومي – الوهابي الثامن «ودارت الأيام»، حيث كان الموعد مع الحفل الشهري لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، والذي ستطلق فيه رائعتها الوهابية المنتظرة بعد شهورٍ طويلةٍ من البروفات المضنية. ويشاء القدر أن يصاب مايسترو الفرقة محمد عبده صالح في حادث سيارةٍ قبل الحفل بأيامٍ قليلةٍ، فتضطر السيدة أم كلثوم لحذف صولوهات القانون التي كان سيعزفها من الأغنية كلها، وتظهر على المسرح بدون عازف قانون.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تفضل فيها ست الكل الغناء بدون عازف قانونٍ على أن تأتي ببديلٍ -ولو كان مؤقتا- لمحمد عبده صالح ولو اضطرت لحذف صولوهات القانون من الأغنية، فقبل هذا التاريخ بسنةٍ تقريبا، وتحديدا في اليوم السادس من شهر فبراير عام 1969 كان ميعاد الحفل الشهري الكلثومي المعتاد، والذي كان مقررا أن تغني فيه ست الكل درة مرسي جميل عزيز وبليغ حمدي الجديدة «ألف ليلة وليلة»، والتي يرصع مقدمتها الموسيقية صولو قانون قصير. ولكن تشاء الظروف أن تلم وعكةٌ صحية مفاجئةٌ بسي عبده ويرقد طريح الفراش، فتحذف السيدة صولو القانون من الأغنية وتغني بدون عازف قانون حتى يمن الله بالشفاء على محمد عبده صالح، ويعود لاحتلال مكانه الشاغر في فرقة ست الكل.
في أواخر شهر يونيو عام 1970 وبينما تستعد السيدة أم كلثوم وفرقتها للسفر إلى لبنان لإحياء حفليها التاريخيين في مسرح بعلبك الأثري، ضمن سلسلة حفلاتها الخارجية لدعم المجهود الحربي المقرر إقامتهما في الثامن والحادي عشر من شهر يوليو التالي، تشاء إرادة المولى أن يلحق صاحب الأنامل الذهبية محمد عبده صالح رحمه الله بالرفيق الأعلى في الثلاثين من شهر يونيو فجأةً قبل السفر بأيام، ليسدل الستار على حياة فنانٍ عظيمٍ ترك أثرًا لا يمحى في وجداننا وبصمةً لا تنسى في تاريخ الموسيقى العربية.