أثر الفراشة: الحقيقة وراء «محيي إسماعيل»
تنص نظرية أثر الفراشة على أن أمرًا صغيرًا وعشوائيًا للغاية كرفرفة جناح فراشة قد يؤدي لتغيير مكتمل في سيناريو حياة شخص ما، تغيير قد ينقله من الفقر المدقع إلى الغنى الفاحش، أو من أقصى درجات الصحة إلى عتبة الموت.
لا يسعفنا الزمن لمتابعة تطبيق حقيقي لنظرية أثر الفراشة في المجتمع الفني المصري، فهو مجتمع تحكمه كما يعرف الجميع شبكات متداخلة من أصحاب المصالح، قبل أن تصبح معظم خيوط اللعبة مؤخرًا في يد شركات إنتاج فنية مملوكة لأجهزة أمنية، وبالتالي كل شيء يبدو تحت السيطرة.
لكن ما حدث، منذ أسبوع تقريبًا، هو ما أشعل سلسلة من الأحداث المتتالية التي جعلت من ممثل مصري سيئ الحظ، تخطى عمره السبعين، نجمًا جماهيريًا دون سابق إنذار، هذا الممثل هو محيي إسماعيل، وحكايتنا اليوم هي عن فصل المقال بين الحقيقة والخيال فيما تم تناوله عن هذا الرجل في الأيام الماضية، هل هو رائد السيكودراما بحق؟ وهل شهدت مسيرته نجاحًا عالميًا؟ والأهم من كل ذلك لمَ اختفى؟ وما الذي يمكننا أن نتوقعه من عودته؟
بداية مع السينما الإيطالية
بدأ محيي إسماعيل بالفعل مشواره السينمائي من خلال فيلمين إيطاليين هما «The Battle of Damned» في عام 1969، و «heroes without glory» في عام 1971، وهما على الترتيب من إخراج الإيطالي روبرتو مونتوري، والإيطالي ألفريدو ريزو.
لكن المؤكد أن هذه الأفلام لم تحظ بنجاح نقدي أو جماهيري في إيطاليا أو في أمريكا، فهي في حقيقة الأمر مجموعة من الأفلام الإيطالية ذات الميزانية المحدودة، تم تصويرها في صحراء مصر، على غرار أفلام (السباغيتي ويسترن)، وهي الأفلام التي حاولت أن تحاكي أفلام الويسترن الأمريكية من خلال أفلام ويسترن يتم تصويرها في صحراء إيطاليا.
تدور أحداث الفيلمين خلال فترة الحرب العالمية الثانية، في الأول نتتبع دورية إنجليزية يقوم محيي إسماعيل بدور أحد جنودها، خلال هروبهم في الصحراء من هجمات النازيين، أما في الفيلم الثاني فيقوم إسماعيل بدور أكبر ولكنه أيضًا يظل أحد أفراد كتيبة إنجليزية تحاول أن تبحث عن كنز فرعوني في الصحراء.
جمعت هذه الأفلام محيي إسماعيل بعدد من الممثلين الأجانب، لكن أشهرهم يمكن أن نعتبره من نجوم الصف الثاني، ومنهم الإيطالي فابيو تيستي، والإيطالية ماوريس بوري، والنمساوي هيرب أندرياس، والأمريكي جيف كاميرون الذي قام بأشهر أدواره عقب ذلك في بطولة فيلم «Django’s cut».
هي بداية كانت من الممكن أن تفتح الطريق لمحيي إسماعيل للقيام ببعض الأدوار الكبيرة في أفلام مشابهة، لكنها مختلفة بكل تأكيد عن مشوار عمر الشريف العالمي مثلاً، فالشريف قد بدأ عبر Lawrence of Arabia الذي فاز في عام عرضه بسبع جوائز أوسكار.
من قبلة سعاد حسني إلى الإخوة الأعداء
في نفس التوقيت كان محيي، وكما صرح هو شخصيًا، مجرد كومبارس في السينما المصرية، حيث يمكننا تذكر أول دور حقيقي له، ورغم صغر مساحته في فيلم بئر الحرمان من إخراج (كمال الشيخ) في عام ١٩٦٩. يظهر محيي إسماعيل في هذا الفيلم لمشاهد معدودة في دور رسام شاب تقع في غرامه سعاد حسني في إحدى الليالي الغرائبية التي تتقمص فيها شخصية أخرى غير شخصيتها، تجمعهما قبلة، وهي القبلة التي منحت محيي حادثة الشهرة الأولى، حيث رفض القيام بالمشهد لأول مرة نتيجة تدينه في تلك الأثناء.
عقب ذلك انطلق محيي وبخطوات ثابتة في اتجاه القيام بأدوار أكبر، يسانده في ذلك خبرته على خشبة المسرح القومي، ودراسته بمعهد الفنون المسرحية وبكلية الآداب قسم الفلسفة في نفس التوقيت.
كان المشوار يبدو واعدًا بحق، بدأ من دور آخر صغير ولكنه جذب الأنظار في فيلم «خلي بالك من زوزو» عام 1972، حتى قام محيي في عام 1974 بدورين مهمين في فيلمي «الرصاصة لا تزال في جيبي» و«الإخوة الأعداء»، والفيلمان من إخراج «حسام الدين مصطفى».
في الأول جسد محيي دورًا صغير حجمًا كبيرًا في أثره، وهو دور القائد العسكري الإسرائيلي «عساف ياجوري»، وتبدو أهمية هذا الدور كونه الدور الأول لممثل مصري في دور قائد حربي إسرائيلي عقب حرب أكتوبر بعام واحد، في الفيلم الذي اعتبره الجميع وقتها إنجازًا وطنيًا وتأريخًا للنصر. جاء التجسيد صادقًا معتمدًا على الأداء الجسدي والنظرات دون أي كلمات، وهو أمر صعب بالتأكيد ويستحق محيي إسماعيل التقدير عليه، بل وتبدو حكايته عن هربه من قاعة العرض أثناء عرض الفيلم مؤكدة لقدرته على إقناع الجماهير بهذا الدور.
في الفيلم الثاني -ونقصد هنا (الإخوة الأعداء)- قدم محيي إسماعيل أفضل أدواره حتى اليوم، حيث جسد شخصية الابن غير الشرعي المصاب بالصرع والذي يعمل كخادم في قصر رجل غني هو في حقيقة الأمر والده.
الفيلم المأخوذ عن رواية «الإخوة كرامازوف» للأديب الروسي «فيودور ديستيوفيسكي» جمع في بطولته يحيى شاهين وحسين فهمي ونور الشريف وسمير صبري ونادية لطفي، بالإضافة لميرفت أمين وظهور خاص لأحمد مظهر وعماد حمدي وشويكار، ورغم تواجد كل هذا العدد من النجوم إلا أن محيي إسماعيل قد نجح في النهاية في إثبات نفسه وسرقة الكاميرا من الجميع، فجذب انتباه الجماهير والنقاد على حد سواء، ففاز بجائزة نقاد السينما المصريين لأفضل ممثل في العام، بالإضافة لجائزة أفضل ممثل من مهرجان (طشقند) السينمائي.
أسوار عالم النجومية
قد يكون هذا الحوار هو المدخل الأهم للمرحلة التي تلت فيلم «الإخوة الأعداء» بالنسبة لمحيي إسماعيل، فالشاب الذي رفض وبشكل قاطع معايير البطولة الكلاسيكية في السينما المصرية، وذكر في هذا الحوار أن العالم قد تخطى ذلك، ضاربًا المثل بالممثل الأمريكي «داستين هوفمان» الذي حظي بنجاح كبير خلال فترة السبعينيات مع صعود سينما المؤلف في أمريكا، قوبل بوابل من السخرية من كتاب ومنتجي هذا العصر في مصر، وحتى صلاح جاهين لم يكن استثناءً لهذا.
استمر محيي عقب ذلك في اختيار أدوار تضمن له بطولة جماعية، يشاركه فيها من يملك تلك المواصفات الكلاسيكية للبطولة، فنراه مرة أخرى مع نور الشريف وحسين فهمي في «الشياطين» عام 1977، مرة أخرى أيضًا مع حسام الدين مصطفى في دور مركب نفسيًا، لفتى ساذج يبدو متورطًا في أعمال إجرامية تحت غطاء وطني، في فيلم مأخوذ أيضًا عن رواية لديستيوفيسكي.
عقب ذلك قدم إسماعيل دورين مهمين في آخر لمحاته الجيدة خلال تلك الفترة، الأول في فيلم «الأقمر» للمخرج هشام أبو النصر، والثاني في فيلم «إعدام طالب ثانوي»، من إخراج «درويش»، وكلاهما رفقة «نور الشريف» أيضًا، الذي حمل الفيلم جماهيريًا وإنتاجيًا. في الأقمر نرى محيي إسماعيل في دور مختلف نسبيًا، وهو دور اللص خفيف الظل، الذي تتطور شخصيته في النهاية حتى يصبح ممثل الخير في الحكاية، وفي الثاني نشاهد الدور الكلاسيكي لمحيي إسماعيل كشاب مصاب بالانهيار العصبي، يتورط في قصة حب خادعة، تنتهي به في النهاية لغرفة الإعدام.
عقب ذلك سقط محيي إسماعيل في بئر عميق من الأدوار المكررة والنمطية، تم احتجازه بشكل مكتمل في دور الشاب المضطرب نفسيًا، نشاهد ذلك مرة أخرى في فيلم «دموع الشيطان» عام 1986، ولكن بشكل باهت تمامًا ولا يمكن مقارنته مع ما شاهدناه في «الإخوة الأعداء»، لكن رغم ذلك بقيت لمحات كوميدية خلال تلك الفترة، نذكر منها دور «وجدي العندليب» في فيلم «عالم وعالمة» عام 1983، وبشكل أقل دور «سمير شمبر» في الهاربات عام 1987، لتنتهي الثمانينيات ومحيي إسماعيل قد غادر لحظة توهجه.
خارج الزمن
مع بداية التسعينيات أصبح محيي إسماعيل خارج الزمن تمامًا، فقام بعدة أدوار تبدو مثيرة للضحك بمجرد مشاهدتها نتيجة تورطه في أفلام ذات مستوى إخراجي وإنتاجي متواضع للغاية، نذكر منها «حلاوة الروح» في عام 1990، و«صعيدي في الجيش» عام 1993.
هنا تبدو نقطة التحول الأهم في مسيرة محيي إسماعيل والفارق الجوهري بينه وبين زملاء جيله نور الشريف ومحمود عبد العزيز، والذين شاركهم محيي إسماعيل بطولة معظم أفلامهم خلال السبعينيات والثمانينيات، وتفوق في بعضها عليهم تمثيليًا، ودعونا نتذكر أن هذه المرحلة من السينما المصرية غلب عليها طابع التمثيل المسرحي، وهو الأداء الذي يبدو اليوم مبالغًا فيه على مستوى لغة الجسد ونبرة الصوت والنظرات. نقطة التحول الأهم هنا أن مع بداية التسعينيات وظهور جيل السينما الواقعية المصرية الجديدة، تعاون نور الشريف ومحمود عبد العزيز مع مجموعة من المخرجين ضمنوا لهم تغييرًا في شكل أدائهم وفي مواضيع أفلامهم.
في المقابل، لم يتعاون محيي إسماعيل مع أي من هؤلاء المبدعين، ونقصد هنا عاطف الطيب وداوود عبد السيد وخيري بشارة ورضوان الكاشف وصولاً إلى شريف عرفة.
هكذا اختفى تماما محيي إسماعيل، وسقط من حسابات السينما المصرية، بعد أن مرت لحظة توهجه دون استغلال حقيقي من صناع السينما في السبعينيات والثمانينيات، وابتعاده هو شخصيًا عن مصر خلال فترة التسعينيات.
الغرابة والإيفيه والدموع
استمرت فترة غياب محيي إسماعيل عن السينما من منتصف التسعينيات وحتى فيلم «حد سامع حاجة» في عام 2009، مع رامز جلال والكاتب «أحمد عبد الله»، ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم وظهور محيي إسماعيل على شاشة السينما محدود للغاية، نذكر منه ظهوره في جزئي فيلم «الكنز» مع المخرج شريف عرفة.
في المقابل، خلق محيي إسماعيل شخصية كاريكاتورية لنفسه على الشاشات خلال لقاءاته الصحفية، ويبدو الأمر مقصودًا بشكل كبير لرغبة الرجل كسر حالة الجمود الرسمية التي تحيط باللقاءات الإعلامية للفنانين، وعلى جانب آخر يبدو الأمر وكأنه صورة من التمرد لدى الفتي الذي تم رفضه كبطل سينمائي في أكثر فتراته الفنية توهجًا، يجيد محيي إسماعيل صنع الإيفيه، ويعلم وبشكل أكيد أن العديد ممن يلتقون به يظنون أنه غير طبيعي، وهو ما صرح به من قبل في حوار مع جريدة الوطن في عام 2016.
على الرغم من هذا، فمحيي إسماعيل يملك وبشكل حقيقي حصيلة ثقافية كبيرة نسبيًا مقارنةً بالعديد من الفنانين في الوسط الفني حاليًا، وبالإضافة لذلك فهو يبدو كرجل طيب القلب، يشعر بالوحدة في عالم يظن أنه لم يعطه حقه حتى اليوم، وتظهر هذه الطيبة بشكل كبير حينما يتخلى للحظات عن قناع العظمة الذي يرتديه عادة في حواراته التليفزيونية، فنراه يبكي وبشكل حقيقي للغاية لمجرد ذكر زوجته الراحلة، أو سؤاله عن الموت، وهو ما حدث في لقائه مع قناة الحياة في عام 2016.
الترند يحكم
ربما لم يكن يظن من اختار محيي إسماعيل كعضو لجنة تحكيم مسابقة الأفلام العالمية في مهرجان الإسكندرية السينمائي لعام 2019، أن هذا الاختيار قد يبدأ سلسلة من الأحداث التي تجعل محيي إسماعيل يعود لدائرة الضوء بعد كل هذه السنين، وربما لم يظن هذا المراسل الصحفي أيضًا أن لقاءه بهذا الفنان الذي فاته قطار الشهرة سيصبح أبرز لحظاته في عام 2019، لكن أثر الفراشة قد حدث، عاد محيي إسماعيل إلى دائرة الضوء، نجحت خطته أخيرًا في تجسيد هذا الأداء الغرائبي على الشاشات، هذا الأداء الذي صدقه محيي إسماعيل شيئًا فشيئًا فأصبح جزءًا من هويته.
انتزع الرجل الاهتمام الذي انتظره طويلاً، وربما سنراه قريبًا على شاشة السينما رفقة أحد النجوم الحاليين. هذا التريند هو ما دفعنا بكل تأكيد للبحث والتمحيص في تراث هذا الرجل، التريند في مصر يحكم دون شك، التريند على مواقع التواصل الاجتماعي هو الخصم الأقوى لمجتمع المصالح وشركات الإنتاج المملوكة لأجهزة أمنية، وفي هذه الحالة التريند قد أعطى هذا الرجل لحظات من الشهرة، انتظرها بفارغ الصبر لما يقترب من 50 عامًا.